كانت الدولة العباسية عام 1071 م ( 463 ه ) تغرغر في سكرات الموت، يشرف على سرير موتها قهرمانات شتى من العسكرتارية التركية، عندما استطاعت مجموعة عسكرية تركية مغامرة، قادمة من وسط آسيا أن تضع يدها على مقدرات بغداد، ويلتمع مجدها في سجلات التاريخ باسم (السلاجقة)، وتطرد (بني بويه) الشيعة الذين كان لهم الأمر من قبل، ويصبح السلطان العباسي في قبضة أيديهم، والخلافة كرة بين أقدامهم. وأثناء الامتداد العسكري لهذه القوة الجديدة في الأناضول، كان الاصطدام مع الدولة البيزنطية تحصيل حاصل، وهو الذي حصل في معركة (ملاذكرد) التي دارت رحاها في أرمينيا، ويعرفها الغرب جيداً تحت اسم (مانزيكرت MANZIKERT)، كما كانت معركة (قوص أوه) التي رسمت قدر الصرب، ويسمونها الغربيون معركة (أمسل فيلد Amselfeld) عام 1389 م. ولم ينتبه مؤرخونا الى (مفصلية) هذه الواقعة العسكرية وآثارها البعيدة، فيتعجب المرء وهو يقرأ السرد التاريخي الأسطوري بدون علاقات سببية، والذهول عن معركة مشئومة للشرق الأوسط بكل المقاييس، فهي التي عجلت بانهيار بيزنطة، وهي التي فجرت أعظم وأطول وأفظع حرب عرفها الجنس البشري منذ أن خلق الله الإنسان، التي رُسمت حروفها الحمراء في كتب التاريخ باسم الحروب الصليبية، وخلقت عقدة حضارية لم تتعافَ منها علاقة الشرق الغرب حتى هذه اللحظة، تظهر في أمثال كتابات (هنتجتون) في القرن العشرين، بكتابات من نوع (صدام الحضارات) كأنه قدر مقدور، بدل علاقات التعارف والتحاور والتبادل الثقافي والتعددية الحضارية. بدأت الحرب الصليبية الأولى مع الاستعداد لها بين عامي 1096 و1099 ميلادي، أي في نهاية القرن الحادي عشر للميلاد، وكان المحرض الرئيسي لها على ما يبدو، الهزيمة الساحقة التي منيت بها بيزنطة على يد القوى التركية الصاعدة من السلجوقيين في معركة ملاذكرد (MANZIKERT) بتاريخ 19 أغسطس آب من عام 1071 م بقيادة (ألب أرسلان) وفيها وقع الإمبراطور البيزنطي (رومانوس ديوجينيس الرابع ROMANOS DIOGENES IV) في الأسر، وكانت بداية النهاية للإمبراطورية البيزنطية، وبدء الامتداد التركي في الأناضول. استغرقت الحروب الصليبية السبعة 171 (مائة وواحداً وسبعين) عاماً، بدأت مع الحملة الأولى عام 1099 م، وانتهت بالحملة السابعة مع موت ملك فرنسا لويس التاسع عام 1270 م؛ في تاريخ دموي، يشكل أرعب معارك التاريخ الإنساني، وأحفلها بالكوارث، وأكثرها كلفة، وأترعها بالدم، جندت فيها أوروبا كل إمكانياتها لسحق الشرق الأوسط، بعد أن أخذت زمام المبادرة في أقصى المغرب على الأرض الاندلسية، عندما سقطت توليدو (طليطلة TOLEDO) العاصمة التقليدية لشبه الجزيرة الأسبانية عام 1085 م بيد (الفونسو السادس) فأكملتها بصرخة البابا (اوربان الثاني URBAN II) عام 1095 م لتبدأ الحملة الأولى، والتحضير لها مع عام 1096 م، هذه المرة باتجاه الشرق. وهكذا فالحرب الصليبية بدأت في أرض شبه الجزيرة الايبرية، قبل أن تبدأ في الشرق الأوسط ب 14 سنة، فطليطلة سقطت عام 1085 ميلادي، أما الحرب الصليبية الأولى فقد اندلعت عام 1099 ميلادي، قبل أن يختم القرن الحادي عشر بعام واحد، بإعلان ( جوتفريد فون بيلون GOTTFRIED VON BOUILLON) ملكاً على مملكة القدس، ولتبقى فلسطين في قبضة الصليبيين فترة 88 عاماً، قبل أن يستردها صلاح الدين عام 1187 م.بعد معركة حطين بسنة واحدة، في ظروف تاريخية صعبة بين انهيار سياسي مطبق، وتفسخ أخلاقي، وأعاصير فكرية مزمجرة، وقوى خارجية تحاول الانقضاض على الفريسة، سواء الزحف الصليبي من الغرب، أم المغولي من الشرق، الذي سيمهد له الإضعاف الصليبي، وليكون أكثر دموية وأفظع تدميراً، وفي هذه الظروف الجهنمية ولدت عبقرية إسلامية مازالت تحظى بالدراسة والاهتمام حتى اليوم هي (أبو حامد الغزالي). وهكذا فمعركة ملاذكرد التي شنها الأتراك كانت الزناد الذي أوقد الحروب الصليبية، كما فعل سقوط القسطنطينية لاحقاً، بدفع الغرب بتنين ذي رأسين أسباني وبرتغالي لاكتساح قارات العالم المجهولة، والسيطرة على البحار ومعها الثروات، كما يقول المثل الإنكليزي: (من يملك البحار يملك الثروة ومن ملك الثروة ملك العالم).. وأمريكا اليوم تريد امتلاك الفضاء الخارجي حتى عام 2020م.