لم تعد المبالغة في المال الذي طلبه مني؛ هو سبب حيرتي وربما قلقي، ولكن تأكدي من صحة كلامه، وعدم كذبه، هو هدفي الذي سعيت للتحقق منه، لذلك كانت دموعه التي ذرفها أمامي غير كافية، وحتى مرافقتي له للمكان؛ الذي يريد شراء حاجيات والده؛ الذي سيعاقبه عقاباً شديداً لأنه أضاع النقود، ولم يعد بالبضاعة التي طلب منه شراءها. كان حجمه ضئيلاً قياساً لما ينبغي أن يكون عليه طالب في صفه. هكذا أخبرني أنه يدرس صباحًا، ويساعد والده الظهيرة. بعد أن فتحت معه تحقيقاً طويلاً للوصول لمبتغاي. ثيابه مهترئة. تدل على حالته المادية التي وصفها لي بدقة، ابتداء من الدكان[1] الذي يأويه هو ووالده البائع المتجول، ووالدته المريضة نتيجة للرطوبة الملازمة للمكان. إضافة إلى شقيقيه وأخته المسكينة التي تقوم بخدمتهم جميعاً، هكذا أخبرني حين سألته لماذا هي ووحدها "البنات يخدمين. في البيت ولا يتعلمين". - ودبة الماء الفارغة ماذا ستفعل بها؟؟؟. - سأملأها بالماء من أقرب مسجد، قبل عودتي للدكان، لأن الماء يصله كل رابع وأحياناً خامس يوم. كثرة أسئلتي، وتجوالي معه لفترة طويلة، أشعرته باليأس فلست المنقذ المطلوب له من عقاب والده، الذي قد يصل حد حبسه في الدكان، وحرمانه من "كدمتي"[2] الغداء والعشاء، لأن إفطارهم معتمد على أهل الخير المتواجدين في الحي. لذلك عاد يذرف الدموع من جديد، ونظراته الراجية لي؛ تكاد تمزقني شفقة، خاصة بعد انضمام شقيقه الأصغر؛ الذي ظهر أمامي فجأة، ولا أدري من أين والذي انفجر باكياً وبحرقة، إلى جوار أخيه، بعد أن علم بأمر ضياع النقود. هدئا قليلاً بعد أن بدأت أبحث في حقيبة يدي دون شعور عن المبلغ المطلوب، ودون تفكير في معقوليته، لأن سماعي لهما أكثر سيجعلني أبكي إلى جوارهما، حتى تهل على ثلاثتنا رحمة فاعل خير، ينقذني من حيرتي، ويحل مشكلتهم العويصة. ناولتهما النقود التي أعادت البسمة لشفتيهما، وانطلقا أمامي، يحمل كل منهما دبته الفارغة، وتواريا عن ناظري فجأة، تماماً كما ظهرا. تكوم بداخلي اليوم الذي ظننت صباحه مشرقاً وعدت أدراجي. في يوم كسالفه؛ كان الفتى بعد أن طال قليلاً، وزاد حجم دبة الماء الفارغة التي يحملها. تماماً كما أتسع الشارع الذي اختاره هذه المرة، يذرف دموعاً لسيدة وقفت أمامه تمزقها الحيرة بين تصديق حكايته وإعطائه ما طلب من نقود، أو المضي قدماً. [1] الدكان: محلات يتم تأجيرها لسكن ذوي الدخل المحدود. [2] الكدمة: نوع من أنواع الخبز رخيص الثمن.