كتب: صالح حسين الفردي بحلول غد الخامس والعشرين من ديسمبر 2010م، تنصرم (47) سنة على رحيل الفنان الكبير محمد جمعة خان، تاركاً تجربة فنية ثرية عرفت طرائق أداء تعبيرية، كانت تثير أحاسيس متعددة في دواخل متذوقة الأغنية الحضرمية المعاصرة، فتغمرك بالأصالة والعمق، وتهديك الجذور لتمسك بها وترحل معها، إذ كان أداؤه - عزفاً وغناءً - يسمو بك لتحلِّق في فضاء الجمال والتناسق، والرقي العشقي الذي ينهمر متماهياً مع هديل نبرات صوته بين خفوت وجهر، بين وقف وإطالة، بين مدّ وإمالة، فتزدان مساحات الصمت برقيق النغم وجميل الأداء وقوة العزف. إن المتأمل - تذوقاً- لتلك التجربة الفنية الثرية لدى الفنان الكبير محمد جمعة خان يلمس لديه ميلاً كبيراً إلى استخدام تقنيات أدائية يكثر منها في روائعه الغنائية كتوظيف ألفاظ الترنّم والآهات واللوازم الموسيقية - طولاً وقصراً - لملء فراغات أراد لها أن تكثّف من حالات الوجد والشوق والتشويق والإثارة والتأثير في المستمع المتذوّق، وهي تقنيات اختيارية يذهب إليها المبدع بوعي وحس موسيقي مجسداً ومصوراً الحالة الشعورية التي اكتنفت الشاعر لحظة بوحه بالنص الغنائي، فجسّدها الفنان بريشته وصوته. لقد كان الفنان الكبير محمد جمعة خان - وهو يوظّف هذه الأساليب والطرائق الأدائية - مدركاً لتأثيرها السمعي على المتذوقة، من هنا جاء حرصه على التلوين الأدائي والنغمي والصوتي بحساسية موسيقية ونغمية نادرتين حوّلت معاني الكلمات إلى أصوات مهموسة تسري برقة في أوصال المتذوّق، فتغدو له صدى لأصوات بعيدة تناجيه وتخاطبه فيدركها ويعيش معها لحظة التداعي والاستدعاء لذكرى حنين لزمن بعيد ولكنه موصول بدواخله، وإن خاله المرء قد تلاشى واندثر، رائعة الشاعر العلامة عبدالله بن محمد باحسن (جمل الليل) يشوقني برق من الحي لامع، نموذجاً، ومطلعها: يشوقني برقٌ من الحيّ لامعُ لعل به تبدو الرُّبى والمرابع وحيث طرا عرف النسيم إذا سرى تذكرت ما تحويه تلك المواضع لأني على التذكار ما زلت والعاً ومازال قلبي نحو ليلى ينازع لقد عرفت الكثير من الشعوب بعضاً من هذه التقنيات في تراثها الغنائي ومازالت، كالاتراك في: (آمان يا للّي)، والشاميين في: (أووف يا باه)، والعراقيين في: (مواويلهم الموجعة)، واللافت في هذه الظاهرة أنها لدى الآخرين كانت تنحصر في فواصل غنائية ينفرد فيها الفنان يطلق لهذه المواويل العنان في لحظة تجل خاصة، أما فناننا الكبير محمد جمعة خان فقد ذهب إلى استخدام الأسلوبين في آن معاً وفي ثنايا النص الغنائي حتى صارا يهيمنان على أدائه فميزا أسلوبه وشخصيته الفنية، فلم يستطع أحد مجاراته بعد رحيله.. وفي هذا الاتجاه، يؤكد الأستاذ الملحن أحمد مفتاح على أن الغناء العوادي يعدّ درة الغناء الحضرمي، وتعد أغنية يشوقني برق للباحسن، درة الغناء العوادي، ومن ألحان الفنان الكبير محمد جمعة خان كما يشير الأستاذ الفنان أحمد مفتاح، فهذا النص الغنائي قاله الشاعر الباحسن بعد رحيل الفنان الرائد سلطان بن الشيخ علي بن هرهرة بعشرين عاماً، ويظهر في اللحن والأداء جلياً انتساب اللحن إلى الفنان محمد جمعة وطغيان أسلوبه عليه، كما يؤكد الأستاذ أحمد مفتاح. إن هذا النص الغنائي الذي جاء وفق نسق القصيدة العربية التقليدية موزعاً بين شطرين شعريين متساويين في الوزن، كما سبق المطلع، نص مليء باللوعة والأشواق لزمن مضى ومرابع صبا، هيجتها بروق لامعة وجد فيها الشاعر ضياءً كشف له الحجب عن رباه ومرابعه البعيدة التي يهيم حباً بها وشوقاً إليها، وقافية العين المضمومة دالة على اشتداد المواجع والهموم وكثرتها وجثومها على صدر العاشق الشاعر، والأبيات الأولى من النص الشعري أظهرت ملامح ذلك التقطيع في أوصاله، فجاء اللحن والأداء معبرين عن تلك الحالة الشعورية الموجعة لدى الشاعر، إذ تتناوب الشطر الأول من كل بيت شعري لازمة يلحقها بآهات توجع مترنمة، فنجد يشوقني برق جملة لحنية ثم لازمة موسيقية في تقطيع نغمي، وعبارة من الحي لامع جملة لحنية أخرى لها امتدادها وإطلاقها بآهات الترنم ليأتي الشطر الثاني للبيت الشعري كاملاً جملة لحنية وكأنه صدى لتلك الأشواق فيرتد حنيناً خافتاً موجوعاً من هذه الآهات.. إذ لم يلتزم الفنان الملحن التقطيع اللحني التقطيع العروضي الخليلي للقصيدة، بل ذهب إلى تقطيع خاص، جاء منسجماً والحالة الشعورية عند الشاعر فترجم تلك الحالة ترجمة موسيقية مبتعداً عن النمط التقليدي في اللحن التشطيري للقصيدة، ولم يقف عند هذا الفهم والعمق لمعاني النص الغنائي، بل كان مدركاً لطبيعة المعاناة التي جثمت على كاهل تلك الذات الشعرية، وما تعانيه من صراعات موحشة، فظلت المقاطع الأولى موحيةً بذلك، ولكن فناننا الكبير يفاجئنا بتغير في سرعة الإيقاع المصاحب والموسيقى واللزمات اللحنية عند مفصل مهم في النص الشعري، عندما تنتاب الروح الشعرية حالة من التبتل والشكوى واللوذ برب العباد ليخفف عنها هذه اللواعج المضنية، فيلتقط فناننا ذلك التغير ليغزل منه نَفَسَاً لحنياً وإيقاعياً آخر، مجسداً تلك الروح الحائمة في فضاء الوجد الصوفي: بوادي النقاء بين العقيق وحاجر ** منازل تحميها الرجال المصاقع إلى أن مضت تلك الأويقات فاعترت فؤادي همومٌ ما لها قط رادع فيا رب بارك لي بلطفك إنني ضعيف القوى والسقم في الجسم ذايع فالبيت الشعري (بوادي النقاء) يضعنا أمام حالة ترقب لتغيير قادم، يمهد له الفنان بجملة موسيقية انسيابية، هذه اللازمة النغمية التي لا تتكرر إلا مرة واحدة وفي هذا الموضع من النص الغنائي فقط، تنقلنا إلى حالة تجل أخرى هي تداع وامتداد للأولى فتنشر الصفاء والنقاء والراحة النفسية ذاهبة بالنفس إلى السكينة بعد التوتر في الكوبليهات التي سبقت، وهنا نلمح أن الفنان قد صور لحناً لحظة لوذ الذات الشعرية العاشقة بخالقها جل في علاه، بحثاً عن الخلاص واللطف من حالة الوجد التي تزداد بين مقطع وآخر، وقد صور بداية هذا التحول المقطع الشعري والنسق اللحني الآتي، بعد أن شكل بريشته اللحنية ملامح ذلك العاشق الباحث عن الهدوء والسكينة، وأظهر لجوءه إلى مولاه سبحانه وتعالى عمد إلى تسريع الإيقاع شيئاً فشيئاً ليظهر لحظة الارتقاء بالروح إلى العُلى ولهفتها في بوح أمانيها وأمنياتها. إن هذا النص الغنائي في سياقه الشعري ينتهي بجملة مطلعه يشوقني برق من الحي لامع، في تدوير نفسي لحالة لا تنفك تحاصر تلك الذات الشعرية فتهيمن على شغاف روحها، وهو ما جعل الفنان محمد جمعة خان يختتم نصه اللحني بتدوير يتماهى والحالة الشعورية للشاعر، فكأن تسارع الإيقاع يحث الخطى نحو الالتحام ثانية بالشوق لتلك الربا والمرابع التي هيجها برق لامع من حي قصي بعيد. وصلِّ إلهي كل وقت وساعة على المصطفى المختار بالخير شافع مع الآل والأصحاب ما قال قائل بشوقني برقٌ من الحي لامع من هنا كانت الكثير من الخطرات التي نلمحها في تجربة الفنان الكبير محمد جمعة خان تذهب إلى تبيان عبقريته الأدائية وقدراته التطريبية وإمكانياته الفنية بوصفه مترجماً رقيقاً لخواطر ومشاعر المبدعين الشعراء الذين تغنّى بقصائدهم الشعرية فكان خير موصل لتلك الروائع التي أصبحت من كلاسيكيات الأغنية الحضرمية وذاكرة سمعية نابضة بالحياة والفن والرقي وتزداد حضوراً كلما أوغل الزمن بها..