سبق وأن أشرنا إلى الاتجاه العام للمعارك التي دارت حول مطار الرحبة في مختلف المواقع الدفاعية بصورة إجمالية، وسوف أتطرق الآن إلى طائفة صغيرة من الأحداث التي شاهدتها عن قرب خلال عملي اليومي في مواقع الدفاعات الشرقية عن المطار. ولسوف أحرص على الاختصار، والتركيز على ما هو مهم دون الغوص في التفاصيل اليومية لاسيما معظمها قد أصبح في الذاكرة كالطيف بعد أن كانت يومها في الذهن بشكل دقيق وكما حدثت على أرض الواقع. وأتذكر أن مجموعة من ضباط الشرطة وأنا واحد منهم سجلنا بعض أحداث السبعين على عدة صفحات من الورق أثناء الحرب تركناها في منزل الزميل الملازم (أحمد الكدادي) بصنعاء وكانت على شكل رسالة كنا نود بعثها إلى بعض الزملاء من ضباط الشرطة المتواجدين في تعز وبينهم الملازم (محمد الفضلي) كانت بعنوان (إلى الزملاء خارج المدينة المحاصرة). ومن المؤسف أن الرسالة تلك فقدت دون أن نعثر عليها بعد ذلك، رغم البحث المستمر – عنها – بسبب أحوال ما بعد الحصار غير المستقرة وقد غرب عن ذهني كل ما سجل عليها ولم أعد أتذكر سوى جملة واحدة هي (أننا سندافع عن صنعاء كما دوافع ذات يوم عن موسكو ولينينغراد). حين تسلمت إدارة كلية الشرطة الجديدة مهام عملها في قيادة طلاب كلية الشرطة، كان قد انقضى على بدء معركة الحصار ما يناهز الشهر أو يزيد قليلاً وبالطبع فإن المشاهد التي رأيناها غداة قدومنا إلى المطار مماثلة لما يمكن تصوره في واحد من مسارح الحرب المهمة. وكان بديهياً أن يحتل مرفق حساس مثل مطار الرحبة حيزاً مهماً في مخططات العدو الهجومية خصوصاً بعد أن أصبح منفذ العاصمة الوحيد تقريباً إلى بقية البلاد والعالم. لذلك لم ندهش كثيراً حين رأينا أن كل شيء في المطار قد تبدل تبدلاً تاماً عما كان عليه من قبل، فمباني المطار القليلة المشيدة قد تبدلت تبدلاً تاماً عما كانت عليه من قبل، ومباني المطار القليلة المشيدة من الأحجار والمخصصة للإدارة وحركة المسافرين جواً أضحت مقفرة مهمشة الجدران وتتخللها فتحات متباينة الحجم والعمق، بيد أن المبنى بذاته كان لم يزل منتصباً ولم يجثم بعد على الأرض برغم قذائف المدفعية التي كانت تطاله صباحاً ومساء. ولكن الوضع كان مختلفاً بالنسبة للمنشآت الأخرى المزروعة في جوانب المطار المبنية في غالبيتها من الزنك والصفيح فهذه – وبحكم مادتها البنائية الضعيفة التكوين – أمكن لمدفعية العدو وتدميرها بسهولة في الأيام الأولى من الحصار ولم يكن من شأن استمرار قصفها سوى مساواتها بالأرض تماماً، وحتى الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بالمطار من كل جانب، ألفيناها ممزقة أو منطرحة على الأرض من أي مكان دون عائق يذكر. واستحالت إعادة نصب الأسلاك الشائكة تلك من جديد، لا لتواصل القصف المدفعي فحسب بل ولكون مخازن الدولة كانت تفتقر كلياً إلى شيء منها ولو كان ضئيلاً. وعلى امتداد مدرجات المطار والمحيط المجاور لها كان هناك سلسلة متصلة من الحفر التي تكاثرت باستمرار، ومع أنها غطت معظم مدرجات المطار خصوصاً مهابط الطائرات فانها لم تحل دون هبوط وإقلاع طائرات النقل العسكرية والمدنية من نوع (انتينوف) الروسية (والداكوتا) الصغيرة التي ما برحت تنقل المؤن والذخائر من الحديدة إلى صنعاء على مدى الشهرين الأولين من حرب الحصار ولم تتوقف إلا بعد أن غدا مستحيلاً استحالة كاملة تجنيب الطائرات التعرض للإصابة بقذائف العدو مباشرة خصوصاً بعد إصابة محرك إحدى طائرات النقل العسكري عند هبوطها. ولابد للمرة أن يقدر بطولة أولئك الطيارين اليمنيين والسوفييت على السواء أكثر فأكثر حين يعلم أن بعض الحفر والشقوق التي أحدثتها قنابل المدفعية في المدرجات كانت من العمق والتقارب على نحو يعوق حركة سيارات النقل الكبيرة ناهيك عن الطائرات، وتعاظم الخطر بسبب تضاؤل إمكانية الصيانة لأسباب مختلفة ولجوء العدو إلى تكثيف هجمات المدفعية لدى رؤية أي طائرة تحوم في سماء المطار تمهيداً للهبوط. ومن غير المبالغة القول: إن مجرد تقبل الطيارين مهمة الاضطلاع بنقل المؤن من الحديدة إلى صنعاء والعودة كان عملاً حربياً من الدرجة الأولى يحتاج إلى رباطة جأش وإيمان غير عادي بالمثل التي يقوم بذلك العمل من أجلها. ولعل مما يجدر بالإشارة ذكره أن نقاط المراقبة التي أقامها العدو من حول المطار كانت من الارتفاع والقرب على نحو يمكن من خلالها مشاهدة أي جسم يتحرك على الأرض بواسطة العين المجردة إذ كان في حجم السيارة المتوسطة، وخلال كل المرات التي شاهدنا أثناءها هبوط وإقلاع طائرات النقل، لاحظنا أن جميع عمليات التفريغ تكللت بالنجاح باستثناء حالة واحدة أو حالتين صعب فيها إفراغ كل الحمولة, واضطرت الطائرة إلى الإقلاع قبل انتهاء التفريغ نظراً لغزارة النيران وتركيزها. وكان من الممكن أن لا يحدث أي تفريغ لحمولات الطائرات على الإطلاق لو لم تستخدم مجموعة من الأساليب التي تساعد على سرعة الحركة ومن بينها مثلاً كان على جنود المواقع في المطار أن يتأهبوا لدى مشاهدة أي طائرة تقترب من المطار وأن يسارعوا إلى الانتشار حولها بعد أن تطأ الأرض مباشرة، وعادة ماتبقى محركات الطائرة تدور حتى يكمل الجنود إفراغ الحمولة بسرعة لتقلع على الفور دون حاجة إلى فترة زمنية لتسخين مكينتها، وبذلك الأسلوب تم تفادي خسائر كان يمكن أن تحدث بالتأكيد. وننتقل إلى الحديث عن المساندة في المواقع التي كلفنا بالتمركز بها إلى الشرق من المطار بجوار منطقة (بني الحارث) التي كانت مفتوحة، وتقل فيها المرتفعات وهو ما ساعد القوات المعادية على أن تقترب من المواقع أكثر من مرة لاسيما بعد حلول الظلام دون التقيد بممرات بعينها. وكان القصف المدفعي والصاروخي ينطلق من جبل (الطويل) أثناء ساعات النهار ومن المدفعية المحمولة على السيارات، بيد أن هجمات المشاة ظلت قليلة نسبياً قياساً لما كان يحدث لموقعي (خشم البكرة) و(تبة العرة) اللذين كان العدو يحلم باحتلالهما كشرط ضروري لنجاح أي محاولة في الوصول إلى المطار واحتلاله. وبرغم أن الهجمات الليلية على مواقعنا كانت تتم بين كل ليلة وأخرى، فقد كان العدو يرمي من ورائها إلى إرهاق القوة المدافعة وخلق إحساس بالرتابة والاستمرارية لدى المدافعين على نحو يفقدهم اليقظة وتمييز حالات الخطر الفعلي من سواها. وليس سوى حالتين أو ثلاث اتخذت هجمات العدو منحى جدياً استطاع في واحدة منها على الأقل أن يقترب من مواقعنا بحيث أضحى الفاصل الجغرافي محدوداً بالأمتار كما سنشير إلى ذلك لاحقاً. وبالطبع فقد كانت النتيجة واحدة في كل الأحوال حيث لم يستطع العدو أن يحتل أياً من مواقعنا خصوصاً وقد دأبنا على إرسال الدوريات والكمائن المتقدمة في كثير من الليالي. ولكن في إحدى الأمسيات عادت دورياتنا بسرعة بعد أن تكرس لدينا شعور الاطمئنان بعض الشيء فحدث الهجوم غير المتوقع وأظن ذلك في الأسبوع الأول من شهر فبراير عام 68م ، وقد بدأ على شكل تسلل جماعات صغيرة من قوات العدو والاختباء بالقرب من مواقعنا تحت جنح الظلام دون استخدام القصف المدفعي التمهيدي كما جرت العادة. وعندما بدأ الاشتباك تحركت مدفعية العدو المحمولة للمساندة، وأدركنا على الفور أن الرماية بالأسلحة الخفيفة تنطلق من مكان قريب وتغطي كل مواقعنا تقريباً، وخلال عدة ساعات دارت اشتباكات متواصلة بالبنادق والقنابل اليدوية. وقد أفلحت بالتوغل في بعض المساحات الجغرافية التي تفصل بين سلسلة مواقعنا المنتشرة في الشريط الشرقي من المطار، بحيث لم تعد نيران الرشاشات المنبثة في المرابض الموجهة صوب مسافات أبعد تؤثر كثيراً. وكان من شأن الظلام زيادة الوضع سوءاًً بيد أن النتيجة الأخطر إنما ترتبت على ما استطاعه العدو من الفصل بين مواقعنا والحيلولة مؤقتاً دون إرسال الدعم البشري والذخائر للمواقع الأكثر تضرراً من الهجوم، خصوصاً في ظل الافتقار إلى اتصالات منتظمة ومضمونة بين القيادة وسائر المواقع لعدم توفر الخطوط التلفونية أو أجهزة الاتصال الصغيرة. وكان من شأن ذلك إحداث ارتباك ملحوظ لدى القيادة، وتنامي الإحساس بفقدان السيطرة على المواقع الأبعد، بل وعدم العلم بما جرى ويجري لها، ولقد كان من البديهي أن جرت مناقشات ساخنة في جوف ذلك الخندق الترابي الواقع على عمق أمتار في أرضية المطار بين أفراد الضباط المتواجدين ذلك المساء ولما كان الرائد (عبدالله يحيى الشامي) هو الأقدم رتبة المتواجد بيننا حينذاك فقد أخذ على عاتقه مسؤولية السيطرة على الموقف وإصدار التوجيهات اللازمة لإيقاف التدهور المتوقع خصوصاً بعد أن طال زمن الهجوم بعكس ما كان يحدث في مرات سابقة، الأمر لم يدع مجالاً للشك بأن هدف العدو يتعدى مجرد المناوشات الليلية المألوفة. وفي ذلك الجو المنذر بأسوأ الاحتمالات أصدر الرائد (عبدالله يحيى الشامي) تعليماته الحازمة بضرورة دعم المواقع الأمامية التي تجابه الخطر أو يفترض أنها ستكون عرضة له بكل ماهو متوفر وممكن من العتاد والرجال ومنع تدهور الموقف، ثم أمر الضباط المتواجدين في مركز القيادة بالتوجه إلى المواقع البعيدة حاملين على أكتافهم صناديق الذخيرة بمساعدة عدد من قليل من أفراد الطلبة المتواجدين في الخنادق الأقرب لمركز القيادة، ولقد نفذ معظم الضباط والطلبة المهام الموكلة إليهم بسرعة وحماس وبلا مناقشة. ولكن ظهرت حالت من الضعف البشري عند شخص أو شخصين كانت تجربتهم القتالية ما برحت محدودة، حيث أبديا قدراً من الرغبة في التساؤل حول المهمة الموكلة إليهما وهو ما فسر بأنه تعبير عن التردد وخوفٌ من المجهول خصوصاً بعد أن أصبح أزيز الرصاص يطرق آذان المتواجدين في مكان القيادة بصورة متواصلة. ومثلما كان متوقعاً فقد تجلت في غمرة الموقف بالغ الحرج المواهب القيادية لدى الرائد عبدالله يحيى الشامي الذي لم يفقد صفاته برغم كل ما ران على الموقف من توتر، وبادئ ذي بدء رفض إهدار الوقت في مناقشات لا معنى لها، حين أزف زمن المعركة وأصر على أن ينفذ كل فرد ما كلف به قبل أن يفوت الوقت الملائم ويتغير الموقف كلياً. وعلى ذلك النحو من التصرف الحازم نفذ الجميع واجباتهم القتالية بهمة وثبات، مما أوقف تفاقم المخاطر وإعادة الوضع إلى السيطرة في النهاية. وقد أسهمت المواقع المجاورة لمواقعنا في إعادة الأوضاع إلى طبيعتها بواسطة قصف مواقع العدو الخلفية وطرق عبوره المختلفة. ولعل من الأمور التي يجدر ملاحظتها بصدد معارك المطار أن خسائر القوى المتمركزة هناك من الشهداء والجرحى تعتبر طفيفة إذا ما قيست بالكثافة النارية التي كان العدو يضرب بها مواقعنا ولاشك بأن عملية التحصين برغم تواضعها ساعدت على تقليل حجم الخسائر إلى حد كبير، وأذكر أن خندقين فقط من خنادق طلاب كلية الشرطة العديدة المحفورة بعمق مترين إلى ثلاثة أمتار المغطاة بالأتربة على نحو مساو لسطح المطار، قد أصابتهما القذائف بصورة مباشرة ولم يصب جرَّاءها سوى بضعة أفراد كانوا على مقربة من المكان.