كنت عبر تلك الليالي الخريفية، أحلق بأجنحة مفترضة وأقترب من أشياء الطبيعة، أتشظى مع أوراقي المبعثرة أصلاً وسط غرفة ضيقة الجدران ذات نافذة مشرعة دوماً، نرى الحياة من خلالها معلقة بشعرة، يثبتها خيال الشاعرة التي تكثف خطابها من خلال ديوانها (ما لم أبح به لكم)، يشدنا الانتظار بوح الشاعرة صليحة نعيجة، (وهي الموعد المورق بالبقاء)؛ لأن (الأسرار تعلن البوح / دمعاً / جرحاً / وقلباً راعفاً لا يمل البكاء)، ف(هل يكشف الفن (أو الشعر) عن حقيقة وإن كانت هناك حقيقة يعبِّر عنها الفن، فما هي هذه الحقيقة وما صلتها بالواقع الإنساني؟ ومن ثم هل يمكن أن يوصف الفن بالصدق أو بالكذب؟ ومتى يكون الفنان صادقاً؟). ونحن إذ نلاحظ شاعرتنا صليحة نعيجة تلجأ إلى الحكمة من خلال الإهداء: (إلى كل فلاسفة الحكمة وإلى أبي)، لنفترض حالة التهدئة لعواطفها المنفعلة شعرياً، ونحن ندرك تمام الإدراك أن الشعر هو انفعال عاطفي وتأثر يعتري الإنسان ويوهج مشاعره وأحاسيسه لالتقاط جمال الكلمات ويصور من خلالها موقفه المتحصّل تجاه أشياء المحيط ومن منطلق الحكمة وبسفينة الشعر الجمالية تحاول الشاعرة تركيز موقفها من صور الحياة المحيطة بها، تقول: (المزاج هوى على ناصية الأمنية و كونفوشيوس يعي حكمته وأنا أيضاً أدعى أنني أحفظ كل حكم أبيقور وكل الفلاسفة العقلاء هزمتني فلسفة الصمت في أوجه البله والأدنياء والأغبياء هزمتني ابتسامتي الساخرة هزمتني سكاكين تلك الرؤى تلك التي ادعيت نبل خطوها نحو هذي البراري التي لا طقوس لها إلا بهائي البهاء لا يدعي مئذنة للهراء. المواويل تغني للصمت والحكمة البائسة). راسمة هنا موقفها بكل صلابة المرأة التي تحاول رفض الدناءة، لإظهار صوت الجمال وصورته, وتحاول تجاوز فلسفة الصمت، لتكون في فلسفة الكلام الذي يظهر بهاء الإنسان وتمسكه بجمال الحياة والحب.. ثم تخاطب الحكماء بأن.. (انهضوا من سبات القرون لأبثكم وحدةً مرعبة الزمان الذى أدعي أنني أعقل صولاته خان وعدي وفات تاركاً لي ترف الأبهة). وهذا مثل لنا مسار سخرية الشاعرة من زمن لا يصغي لصوت الحكمة، إنما يلفه صوت النفعية التي تختال صوت الجمال.. لذا جاء صوتها بنبرة الذات الواعية، جاهدة في تأسيس بناء جديد على قيم الخير والحب ومبادىء الأمنيات المحلقة في خيالاتها، وهي تحاول الخروج (من سطوة طفلة / لا تجيد إلا الصلاة)، وتعني أنها مسكونة في أبحاث وفي أدامي صلتها بالحكمة الأزلية، عساها العثور على الحقيقة، لذا كانت تعمد إلى ذكر أسماء الحكماء والأب والأم والجدة.. كي تترع من خلال هذا وتشبع وتتسلح بهدوء المعالجة وترويض الكلمة الشعرية، بما يجعلها معبرة بشفافية عن ذاتها المحترقة بلهيب البحث عن قيم الجمال كما في قولها: (وهكذا أنا أحن إلى أحن إلى امرأة لا تمل الحياة. ولكنها .... امرأة قد تعي جيداً ما....الحياة؟) وهذه صورة من صور الواقع المخلوط بالخيال..(والخيال هو المملكة التي تخلق وتبث الصور الشعرية، وأحسب أن لا ملكة عقلية أصعب على التعريف من هذه، ولا ملكة كالخيال جمعت من حولها التعاريف الطنانة والمنوعة وعلى ما يبدو متضاربة)، كما يقول “سيسل دي لويس”، ويبدو أن خيال الشاعرة صليحة قد أوصلها إلى حقيقة جوار الآخر مرددة: (أنتَ تعي ما معنى أن أتركَ المدينة الصاخبة باللغةِ لأهدأَ بجواركَ؟ هدوءكَ يمنحني طمأنينةَ غيابهم بحضورهمْ كنتَ وحدكَ بلسمًا للجرح لا متسع للتفاصيل كي تشرحَ أنشودتها فأنتَ العنوان الوحيد للقارة الآمنة). وعكس هذا مدى انتظامها في فهم مدرك لعنوانات الحياة وكيف هو السبيل الحكيم للوصول إلى القارة الآمنة، أو الملاذ الوحيد للابتعاد عن ضجيج تلك الأسئلة التي يثيرها عالم الشعر في مخيلة أي شاعر في العالم, ثم تستدرك بقولها رغم أن.. (الصمتُ رسالتي التي تفهمها جيدًا هو المرادف للحزنِ والتوقِ إلى الله هو التوبة إلى نفسى هو الهسيس الذى لا أمله بحضرة الوجدِ هو الصاحب الذى يعي خرير القلب وهديره هو الناحت والمنحوت يسترسل في صقلي بالحكمة التي لا أظلها إلا بالرفقة المارقة (لها فاجعة الفرح وفاجعة الحزن لها أسئلة لا تنتهي وأجوبة مفتوحة على كل الاحتمالات الممكنة. لها نهايات البدء لها بدايات الحفر في الوجد الغبي لها مدن بلهاء بطيبتها لها أسئلة متقدة النباهة ولها ..أقلام لا تجف. لغة لا تعترف بالعنا لي وتر ونهد امرأة أرقة لي شحوب الأزقة في وجه خضرتي لي غصة الفرح وارتجاف عند حلق الارتجافة لي نظرة شزراء وبوح مستحيل) فنكون أمام تكويرة من الحالات الانفعالية التي تنتاب الانسان، وهو في المقابل يستوعبها ويتأمل محيط الأشياء وتفاعلها مع أفكاره، حيث نجد صليحة نعيجة قد نثرت ومزجت ألوانها في لوحة تحتاج منا فك اشتاكلتها وقراءة مساحاتها الجمالية بانفتاح من حرية الرأي وحرية التأويل، فأقلامها لا تجف بعد أن تدمع من الحبر بخطوط متضادة من الحزن والفرح والبدايات والنهايات والأسئلة المتوالدة، وكل هذا يجعلنا نقر بأن الشاعر أو الشاعرة الحديثة تستنطق اللغة وما ورائها لتبث دلالات أخرى، وان شاعرتنا بهذا المعنى ليست إنسانة عادية، إنما تحمل دالة البحث عن الجمال في صعودها وسموها المثالي مثيرة بذلك أسئلة (أيكون سبب جمال الوردة هو شكلها ولونها؟ أم تكون الأشياء الجميلة جميلة بفضل علة أخرى معقولة مثالية، هي مثال الجمال) ص77 فلسفة الجمال. (وقد يرى بعض الصوفية أن الصور الجميلة المحسوسة المشاهدة على الأرض، إنما تفيض عن جمال الذات الإلهية) ص79 نفس المصدر. من هذا نجدها تقع في حالات توتر من استعارة الكلمات وجعلها حبلى بالمعاني، حتى تبين لنا ب(أن الشعر عملية تواصلية للكشف عن الحقيقة والاستمتاع بالمسرات المتجددة دوماً في الحياة؛ لأن الخيال حقل عظيم الثراء والقدرة على وهب الحقيقة والجمال في نفس الآن، وإن الفنون كلها ضرب من الشعر، مادام الشعر عملية خلق وإبداع لقيم معرفية تسهم في إغناء حياة البشر، فالناس أغلبهم ينساقون إليه بفعل الحاجة الإنسانية، كونه المصدر الأساسي لمنابع الجمال والوسيلة الفضلى لإدراك الحقيقة) ص51 تلقيح النص، تقول الشاعرة: (أتعبني الصمت له حكمة...أعترفُ بها. له اكتفاء وارتواء له سنابل ضوء تصطدم بالنباهة و تشرئب للعتاب البهي الذي يمقت الأجوبة الجاهزة). و(عندما أخلع جبروت أنوثتي يموت النبل في حلق الصميم الذى تدفنه الذاكرة وتصطدم الطعنات التي لا تأبه للحزن والكبرياء).. و(الدموع لاتزال أغنيتي الصامتة التي تنحت أساطير البقاء). فهي تحث الخطى وتغذ السير نحو امنية ... (قد ضاجعتها السحابات الغزيرة بالهطول والابتهاج المرح لغتي التي أحبها وذاكرتي التي أوهمتني الصدق بهاءً وارتياحًا بكل هاتيكَ الأساطير) وتعلن (أنه زمن العولمة الذي مكن الفسيفساء أن تلتقي وتلقنهم أبجديات الحياة من بعدي) وهنا رفض وقبول بحاجة لحوار ونقاش كي تكتشف الشاعرة ذاتها في وسط حوارات الآخر وجدل الحياة، رغم أنها تقول: (أنا أدعي الصمت فعنوة أنا أدعي الكلام (أيضًا) وهذا الصراع الذي سير مسارات الديوان وأظهر بعضاً من مواجع الشاعرة صليحة نعيجة في إظهار أسئلة تتوالد منها اسئلة أخرى، ولابد لنا من إطلاق دعوة لقراءة إنتاجها الشعري بسبب قبوله التأويلات المتعددة.. المراجع والمصادر: - كتاب (الصورة الشعرية) سيل دي لويس ت. د.أحمد نصيف الجنابي ومالك ميري وسلمان حسن ابراهيم، مراجعة د.عناد غزوان منشورات وزارة الثقافة العراقية لسنة 1982م ص72. - كتاب (التحليل النقدي والجمالي للأدب) د.عناد غزوان دار الشؤون الثقافية العربية العامة آفاق عربية بغداد العراق لسنة 1985 ص59. - كتاب (التلقي وشعر ما قبل الاسلام في النقد الحديث) د.حسنة محمد رحمة الساعدي مؤسسة العهد الصادق ط1 2010م ص19. - كتاب (فلسفة الجمال) د.أميرة حلمي مشروع النشر المشترك دار الشؤون الثقافية العامة بغداد العراق الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة ص77 79. - كتاب (تلقيح النص بالتلقي) مؤيد عليوي، مؤسسة الفكر الجديد النجف العراق ط1 2011م ص51.