قدّم اتحاد القوى الشعبية رؤيته لجذور قضية صعدة، وذلك أمام فريق قضية صعدة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل.. الرؤية قدمها علي شايف أحمد - عضو المؤتمر.. نص الرؤية تتداخل عوامل كثيرة أفضت فيما بعد إلى بلورة قضية صعدة، كأحد أخطر الأزمات الوطنية التي تعرضت لها اليمن خلال العشرية الأخيرة، وكانت ضمن الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة الشعبية الشبابية السلمية، بهدف إسقاط النظام السابق، والولوج إلى بناء الدولة المدنية الديمقراطية، كمدخل طبيعي للمعالجة الجذرية لمختلف الأزمات الوطنية، ومن بينها قضية صعدة. ومادمنا بصدد الحديث عن جذور القضية، فلا مناص من الغوص ولو قليلاً في التاريخ القريب لمعرفة الواقع السياسي والثقافي الذي صبغ الحياة في شمال اليمن منذ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، وقيام النظام الجمهوري على أنقاض النظام الفردي المستبد والمتخلف عن العصر. وما تلا ذلك من صراع مبكر مع الثورة المضادة المسنودة من قبل الجار السعودي. وقد كانت محافظة صعدة ساحة لتمركز القوى الملكية نظراً لموقعها الجغرافي المحادد للمملكة. إضافة إلى ذلك فإن الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في اليمن بعد الثورة، وقبل وبعد الوحدة عجزت عن بسط نفوذ الدولة وترسيخها في الحياة المجتمعية، ما جعل البعد العصبي والعشائري حاضراً في كثير من مناطق اليمن أقوى من حضور النظام والقانون. وعندما اندلعت حرب صعدة الأولى، كانت الكثير من المحافظات ترزح تحت وطأة الجهل والتخلف وتردي الخدمات والمعيشة العامة، في مقابل اتساع وتيرة تسلط النظام السابق ونزوعه إلى الهيمنة والشمولية، مستخدماً كل إمكانات الدولة كالجيش والمال والإعلام، ومستفيداً من حالة الصراع الإقليمي والدولي حول اليمن، واللعب على تناقضات هذه التجاذبات، حتى وإن كانت النتيجة تدمير محافظة كاملة بناسها وأرضها وتراثها. لكن بشيء من التفصيل فإن جذور قضية صعدة من وجهة نظر اتحاد القوى الشعبية، تأخذ الأبعاد والعوامل التالية: البعد التاريخي والجغرافي: برزت خلال سنين الصراع الجمهوري/ الملكي لغة عنصرية تستهدف الهاشميين كسلالة، ثم الزيدية كفكر ومذهب، واعتبارها حالة رجعية في مقابل الأفكار التقدمية الوافدة التي كانت أكثر جاذبية لشباب ما بعد الثورة. وفي محافظة صعدة التي تمترست فيها القوى الملكية المناهضة للتغيير، مستفيدة من طبيعتها الجغرافية كمنطقة حدودية مع المملكة السعودية (التي كانت تخشى بدورها انتصار الجمهورية في اليمن، وما يرتبط به من مد قومي يتهدد الرياض والإمارات النفطية المجاورة لها) أضحت صعدة في ظل موقعها بين نارين: نار البعد عن مركز الدولة في صنعاء، ونار القرب من حدود الدولة السعودية، التي عمدت – وقد وجدت أن الجمهورية أمر واقع في اليمن – إلى نشر الوهابية السلفية في اليمن عبر عدد من المعاهد العلمية، التي كان معهد دماج بصعدة واحداً منها. في مقابل اتساع دور العلماء من الإخوان المسلمين ومن السلفيين، تراجع دور الزيدية في كثير من مناطقها التاريخية، وواجه الكثير من علمائها ودعاتها مصاعب شتى في نشر الفكر الزيدي الذي قدمته الآلة الإعلامية للنظام السابق كرديف للملكية/ الإمامية، في محاولة للتعتيم على حقيقة الزيدية كمذهب عقلاني يقارع الظلم ويحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مقابل مذاهب أخرى طالما استأنس إليها ولاة الأمر؛ لأنها تحرم الخروج على الحاكم الظالم، وتضع ضوابط شديدة يغدو معها مجاهرة المستبدين بكلمة الحق ارتداداً أو مروقاً عن الدين خلافاً لتوجيهات القرآن الكريم، وصحيح الحديث النبوي الذي فيه ما يؤكد أن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. بعد الوحدة، وفي ظل التوازن بين شريكي الحكم (الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام)، شهدت الزيدية انتعاشاً كبيراً خلال الفترة 1990إلى 1994، وغدت الطروحات الفقهية لعلماء الزيدية أكثر انسجاماً مع الدستور والديمقراطية والتعددية الحزبية، وفي هذه الأثناء صدر عن عدد من علماء الزيدية بيان يؤكد ولاءهم للجمهورية والنظام الديمقراطي بعد أن ظلت تهمة الإمامة والملكية سيفاً مصلتاً على رؤوسهم طيلة الفترة الماضية. لاحقاً تشكل في صعدة منتدى الشباب المؤمن كإطار للنشاط الثقافي والدعوي الزيدي بصعدة. وفي إطار استخدام النظام السابق للورقة المذهبية في الصراع السياسي تمكن المنتدى من التحرك في ظل دعم السلطة لعدد من مطبوعاته، وأنشطته التي تمددت حتى خارج محافظة صعدة ذاتها. غير أن الخلاف سرعان ما دب بين مؤسسي المنتدى، ليتجه العلامة حسين بدر الدين الحوثي وعدد من تلاميذه إلى تبني ما عرف بالشعار/ الصرخة.. ثم فجأة تندلع حرب صعدة الأولى في يونيو 2004، على النحو الذي سنفصله لاحقاً. البعد السياسي: عكست حروب صعدة مدى الوضع البائس الذي كانت عليه الدولة في ظل النظام السابق، حيث جرى تشويه الوعي الوطني تجاه مفهوم الدولة ووظائفها، وتقويض المشروعية الدستورية والقانونية عبر ممارسة سلطات ومؤسسات وأجهزة وإدارات الدولة، وصولاً إلى إقحام القوات المسلحة والأمن كمؤسستين وطنيتين في مهام خارج إطار دورهما الوطني والمهني, وشخصنة برامج التوجيه المعنوي، وتوظيف الخطاب الديني في تأجيج الفتنة الطائفية والعنصرية، وما تشكله من تهديد مباشر للتعايش والسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية. وحتى عندما اتجهت سلطة النظام السابق إلى الأخذ باللامركزية، فقد قدمت تجربة مشوهة لا تنسجم حتى مع مفاهيم الإدارة المحلية بأدنى مراتبها، ما فاقم الفجوة بين المركز في العاصمة صنعاء ومناطق الأطراف التي عانت وماتزال حرماناً كبيراً من الخدمات التي كان على الدولة تقديمها للمواطنين، بحيث يكون حضور الدولة ذا معنى حقيقي بدلاً من الحضور العسكري والأمني الذي أدى إلى تفاقم المشكلات في صعدة وفي عديد من المحافظات اليمنية. إضافة إلى ذلك فإن تراجع هامش الحريات ونكوص الديمقراطية والتعددية السياسية الحزبية، قد دفع بالكثير من الناس في صعدة وغيرها إلى البحث عن مشاريع وسبل أخرى للضغط على السلطة والحد من تسلطها وفسادها. ساعد على ذلك أن البنية العصبية القبلية حافظت على تماسكها، بل وانحرفت بدعم من قبل النظام السابق عن بعض القيم والعادات الإيجابية التي كانت تحكم علاقاتها بالدولة والمجتمع، لتغدو مع حجم الانتشار المخيف للسلاح في البلاد ضمن العوائق التي حالت دون التحديث والمدنية التي تجهد القوى الوطنية في الوصول إليها. لقد عكست حروب صعدة غياب النظام المؤسسي القادر على التعاطي مع التحديات الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية. وخلال الأعوام التي دارت فيها الحروب في صعدة ظلت السلطة ترفض كل دعوات إيقاف الحرب، والتعامل مع الأوضاع استناداً إلى الدستور والقوانين، وغالباً ما كانت تتوقف الحرب بتوجيه من رأس النظام كما تندلع مجدداً بأوامر منه، في تأكيد على أن الحكم الفردي العصبوي قد صادر قرار مؤسسات الدولة جمعاء، وحولها إلى دمى شكلية يسيرها كيف شاء. لقد عرف عن النظام السابق أنه أدار البلد بالأزمات، غير أن الوضع مع حروب صعدة أكد أن الحروب الداخلية مثلت آلية جديدة، تدير السلطة بها البلد، دونما اكتراث بالدستور والقانون، وبحياة الناس وحقوقهم وممتلكاتهم فضلاً عن حرياتهم، كما كشفت مدى الأضرار الفادحة التي تلحقها السلطة بالمجتمع، جراء الترويج لمشاعر الكراهية بين المواطنين وتغذية نزعات العنف بهدف ديمومة استمرار رأس السلطة متربعاً على كرسي الحكم. حرب صعدة الأولى: برغم أهمية الأبعاد التي سبق ذكرها إلا أن تخلق قضية صعدة ارتبطت في شكلها المباشر بالحرب الأولى التي شنت على العلامة حسين الحوثي وعدد من تلاميذه بصعدة، ورغم أن الحرب انتهت بمقتل حسين الحوثي، إلا أن النظام السابق استمرأ إدارة البلد بالحرب، وارتكب من الأخطاء والحماقات ما أفضى إلى تجدد الحرب أكثر من مرة. كانت اليمن قد انخرطت مع الولاياتالمتحدةالأمريكية فيما يسمى بالحرب على الإرهاب إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي بسببها أقدمت واشنطن على غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما، وهو المناخ الذي استغله العلامة حسين الحوثي ليدعو أنصاره إلى ترديد الشعار في المساجد. ولما جابهت الأجهزة الأمنية من يرفع الشعار بالملاحقة والاعتقال، لم تبدر من العلامة الحوثي وأنصاره ردود فعل عنيفة أو ما شابه، بل ظلوا متمسكين بالشعار/ الصرخة وبشكل سلمي، ولعدة أشهر. لكن وبعيد زيارة الرئيس السابق للولايات المتحدةالأمريكية ومشاركته في قمة دول الثمان، قامت حملة عسكرية بمحاولة اعتقال العلامة الحوثي في مران بصعدة، ثم سرعان ما اندلعت المواجهة المسلحة غير المتكافئة بين الجيش وجماعة الحوثي، ليعلن النظام عن حرب دشنها باتهامات سخيفة، وبخطاب إعلامي عنصري وطائفي فج. في إطار التبرير للحرب اتهم الإعلام الرسمي حينها العلامة حسين بدر الدين الحوثي بالتمرد، وقال بأنه ادعى الإمامة، ونصب نفسه أميراً للمؤمنين، وشكل تنظيماً مسلحاً، لمقاومة السلطات والاعتداء على المواطنين في المساجد، الأمر الذي استوجب على القوات المسلحة التحرك فوراً لإخماد “التمرد” وتسليم الحوثي إلى العدالة. غير أن تحليلات سياسية وإعلامية قرأت الحدث من زاوية أخرى، ورأت فيه محاولة لتخفيف الضغط على تنظيم القاعدة وتحويل الأنظار إلى صعدة، والحديث عن خطر شيعي يتهدد البلاد، فيما رأى البعض أن السلطة لم تتوقع أن تخوض حرباً بتلك الشراسة، بعد أن استفاد الحوثيون من الطبيعة الجغرافية لجبال مران التي ساعدت مقاتليهم على التحصن وصد هجمات الجيش. فوق ذلك فإن الجيش ارتكب أخطاء كبيرة بحق أفراد لم يكونوا على صلة بالعلامة حسين الحوثي، ووجدوا أنفسهم وممتلكاتهم عرضة لهجمات الجيش الذي يفترض أن مهمته حماية الوطن والمواطنين وليس ترهيبهم وقتلهم. أحزاب اللقاء المشترك من جهتها عبرت في بيان لها عن موقف المعارضة من الحرب، وهو الموقف الذي انطوى على تساؤلات تؤكد فجائية الحرب وعدم وضوح أسبابها، غير أن البيان لم يخل من نقاط مهمة تساعد على تفسير أسباب حرب صعدة. ذهب المشترك في بيان له بتاريخ 28 /6/ 2004، إلى أن ما جرى في صعدة ليس سوى امتداد لنهج اعتمدته السلطة في تعاملها مع القضايا الوطنية والقضية الأمنية التي تهم كل مواطن يمني، والذي من حقه الحصول على المعلومات الصحيحة التي تمكنه من القيام بواجبه الوطني واتخاذ الموقف الصحيح تجاه الأحداث التي تمس أمنه واستقراره. وإذ أكد البيان على الحق الدستوري في التعبير عن الرأي بصورة سلمية وبما لا يخل بثوابت ومبادئ الدستور، فقد دعا مجلس النواب إلى القيام بواجبه الدستوري في إجلاء الحقائق وبيانها للشعب. وتوالت بيانات أحزاب المشترك مطالبة بضرورة وقف القتال، واعتماد الوسائل الدستورية والقانونية في معالجة تداعيات الحدث، ومحذرة من خطورة اللعب بالأدوات المذهبية والطائفية، وداعية إلى التمسك بالحوار، وإقامة الحجة والفكر المستنير في مواجهة هذه النزعات. أثناء الحرب الميدانية والإعلامية شكل الرئيس السابق لجنة وساطة ضمت شخصيات سياسية وطنية من السلطة والمعارضة، ووصلت اللجنة إلى مدينة صعدة، وكادت أن تصل إلى توافق مع العلامة حسين الحوثي على وقف القتال، ولكنها فوجئت أن رأس النظام كان يستخدمها بهدف الوصول إلى مكمن حسين الحوثي وتصفيته، فقرر أعضاء اللجنة تجميد العضوية والعودة إلى صنعاء. غرور القوة دفع بالنظام السابق إلى توسيع دائرة الخصوم بدلاً من احتواء الوضع القائم، فاتجه إلى تسعير الطائفية والعنصرية بحق الزيدية والهاشمية، واتهم على نحو صريح اتحاد القوى الشعبية وحزب الحق بالضلوع في “التمرد”، مدعياً أن جماعة الحوثي هي الجناح العسكري للزيدية السياسية في صنعاء. وطال إرهاب السلطة الأقلام الحرة التي قاربت حرب صعدة بنوع من النقد والكشف عن المعلومات الميدانية التي كانت على عكس ما كانت تقدمه وسائل إعلام السلطة التي تعمدت التعتيم والتضليل والتعبئة الفجة وغير المسئولة. استدعت نيابة الصحافة سبعة من كتاب الرأي الذين تناولوا حرب صعدة في مقالاتهم بصحيفة الشورى الصادرة عن اتحاد القوى الشعبية، ثم اكتفت بإحالة رئيس تحريرها الأستاذ عبدالكريم الخيوني إلى المحكمة التي كانت جاهزة لإصدار حكم بحبس الخيواني وإغلاق صحيفة الشورى لمدة ستة أشهر، في رسالة إنذار لكل ذي رأي حر في البلاد. وعندما دعا الحزب الإشتراكي للاعتصام في مقره تنديداً بالحرب، أقدمت الأجهزة الأمنية على تطويق مقر الحزب بالعاصمة صنعاء ومنعت وصول المعتصمين إليه، ثم عمدت أيضاً إلى اعتقال من تجرأوا على مناهضة الحرب كالعلامة يحيى حسين الديلمي، والعلامة محمد مفتاح، والقاضي محمد علي لقمان والأديب عادل راجح شلي، وغيرهم. هكذا خاضت السلطة حرب صعدة الأولى دونما غطاء وطني، وأمعنت في حربها حتى أعلنت في 10سبتمبر 2004 عن مقتل العلامة حسين الحوثي، أي بعد أربعة أشهر من اندلاع المواجهات. ومع توقف الحرب، كانت مفاعيل الأزمة قد بلورت جملة من التداعيات على الصعيدين المحلي والإقليمي، وكان بإمكان النظام السابق أن يكتفي بالجولة الأولى من الحرب، ويتجه إلى معالجة آثارها وتداعياتها، لكنه عاد وأشعل الحرب مرة ثانية وثالثة حتى السادسة، مكرراً نفس المضامين والأخطاء والحماقات التي رافقت الحرب الأولى، والتي يمكن القول إنها كانت في حد ذاتها كافية لتخلق قضية صعدة، والمظلومية التي لحقت بأهلها خلال ما يقارب عقد من الزمن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته علي شائف أحمد رئيس مجلس الشورى - اتحاد القوى الشعبية عضو مؤتمر الحوار الوطني