في غرفة الولادة بإحدى المستشفيات، وبعد دقائق من الآن ستنضم إلى عالمنا طفلة، فهل ستكون مجرد طفلة عادية تعبر درب الحياة، ثم تطوى صفحة حياتها كما تطوى صفحات ملايين من البشر ؟؟ أم أنها ستكون مخلوقاً استثنائياً كأولئك القلة الذين يصنعون التحولات في هذه الحياة. هاهي الأم تعاني آلاماً شديدة جراء تعسرها في الولادة، وكأن هذا المولود يأبى الولوج إلى هذا العالم الذي تتجاذبه المتناقضات ، ويصر على البقاء في عالمه الصغير الذي لا يعرف إلا لونا واحداً هو الأمان. بعد معاناة شديدة تضعه المرأة طفلة جميلة مكتملة النمو ،ولكن حالة الأم الصحية متردية جداً. اقتربت الممرضة منها وسألتها: لماذا أنت وحيدة ولا يرافقك أحد في هذا الوقت ؟ أجابتها المرأة بكلمات متقطعة وهي لا تكاد تقوى على الكلام بأن هذه الطفلة وحيدة وليس لها أحد، بل وأوصت الممرضة بأن تكفلها، وما هي إلا دقائق حتى فارقت المرأة الحياة لتكون هذه أولى محطات الحزن لهذه الطفلة. احتضنت الممرضة «زينب» الطفلة، وألقى الله في قلبها محبة وسعادة، لاسيما وأن هذه الممرضة أرملة تعيش وحيدة بدون أطفال. تبسمت الممرضة “زينب” وتهلل وجهها غبطة وسعادة وقالت بصوت خافت: أسميتك “مريم” ،وأنت هبة الخالق لي وعلي أن أكون جديرة بهذا العطاء ، سأبذل قصار جهدي بأن أحسن مثواك ، وأتقن تربيتك ، تسقط دمعة من عينها فتخاطب الصغيرة قائلة : «مريم الصغيرة هل غسلت بماء اليتم ، ودثرت بلحاف الشقاء ،وكحلت بكحل الندامة ، وألقيت بمهد الانتظار وحيدة ». تهز زينب رأسها رافضة أن يكون هذا هو حالها ، مصرة أن تتعهدها بالرعاية والحنان. نفذت زينب ما عاهدت الله عليه ، فسعت بكل ما آتاها الله أن توفر لهذه الصغيرة كل ما تحتاجه ، برغم شحة إمكانياتها ، وأدخلتها المدرسة ، فملأت البيت فرحة وسعادة ، أما في المدرسة فكانت تلميذة مميزة. ولكن كما يبدو أن هذه الطفلة على موعد مع محطة جديدة من الحزن، فأمها زينب تعاني سكرات الموت إثر مرض لم يمهلها ، تموت زينب بعد سبع سنوات مزهرة من عمر مريم ، اعتبرتها زينب عمرها الحقيقي. ها هن الجارات جهزن جارتهن الطيبة زينب لتنتقل إلى مثواها الأخير ، يدخلن مريم كي تلقي النظرة الأخيرة على أمها ، فهل يقوى قلبها الغض على تحمل هذا الكم الهائل من الحزن ؟ تدخل مريم الغرفة وتدنو من أمها الممددة، فتجثو على ركبتيها لتقبلها «فارفعي رأسك يامريم وتأملي الوجوه من حولك فهل تجدين من شبه لأمك، إنها زينب يامريم ، فريدة القلب والقالب ، فلك يامريم أنت تحزني ولا لوم عليك الآن، فهي من احتضنتك في المهد، وكفلتك إحساناً ، وربتك عطفاً وحناناً» في جلسة العزاء تنزوي الصغيرة في إحدى زوايا الغرفة ، وتبدو شاردة الذهن ، لكنها تلف جسدها بذراعيها وكأنما تحتضن ذاتها المبعثرة ، ثم تلقي ببصرها على الحاضرات، فتجد نظراتهن ترسل إليها إشارات الشفقة والحيرة، ثم لاحظت مريم أن ثمة حواراً هامساً يدور بين الجارات فحواه «أي منكن ستكفل مريم»، يتسارع نبض الصغيرة وتشعر برجفة في جسدها الصغير لتقترب منها «نور»إحدى الجارات فتحتضنها بحنان وتهمس في أذنها: ستنتقلين معي يامريم وتكونين كإحدى بناتي، فتشعر مريم بإرتياح كون هذه المرأة هي أقرب الجارات إلى أمها زينب. ولكن هذه المرأة حالها كحال سكان هذا الحي البائس الفقير وبعد أن تغادر الجارات مجلس العزاء تقوم السيدة نور بجمع ملابس ومستلزمات الصغيرة، أما مريم فإنها شاردة تجول بعينيها في أرجاء المنزل الذي عاشت فيه، فهنا كانت تنام ، وهناك تلعب، وكل ركن يحمل ذكرى في خيالها الغض بل أنها تسمع صوت أمها يناديها تقترب السيدة نور منها ممسكة يدها قائلة: هي يا صغيرتي ، لكن مريم تمشي بخطى متثاقلة وكأنها تقتلع أقدامها من الأرض اقتلاعاً ، وتارة تتسمر في مكانها ، تتفهم السيدة نور لمشاعر هذي الصغيرة فتجاريها حتى تخرج من البيت وتصل إلى بيتها ، فينتاب مريم شعوراً بالغربة بالرغم أن هذا المنزل ليس بالغريب عنها ، فقد اعتادت المجيء إليه ، لكنها هذه المرة واقعة تحت شعور مختلف ، فتحاول المرأة برحابة صدرها وحنانها أن تخفف عنها هذه المشاعر ، كما أن لمريم وما تتمتع به من فطنة وذكاء ودماثة خلق ، رغم صغر سنها جعل أطفال هذه السيدة ، بل وأطفال الحي يألفونها ويشعرون بالمحبة والتقدير لها . يمر عامان وهذه السيدة تحاول أن تشعر هذه الصغيرة بالسعادة رغم كفاف العيش ، إلا أن ثمة اختلافاً واضحاً بين الماضي وما تعيشه الآن مريم ، وهذا ليس انتقاصاً من هذه السيدة ، لكنها الظروف المعيشية الصعبة ألقت بظلالها على مريم ، فما كانت تحصل عليه من متطلبات وملابس لم تعد تجده الآن ، إلا أن مريم تعايشت مع الواقع وتقبلته . في إحدى المرات حيث كانت مريم تلعب أمام البيت مع بنات السيدة نور وأطفال الحي إذ بالأصوات تتعالى فيتجمع الصغار وتخرج السيدة النور لتجد مريم مغمياً عليها ، فتأخذها إلى الطبيب.. وبعد الفحوصات يخبرها الطبيب بأن الصغيرة مريم مصابة بمرض السكر ، تصدم السيدة نور خوف وجزع على الصغيرة ، ويوضح لها الطبيب بأن هذا المرض يجعل الصغيرة بحاجة إلى عناية صحية وغذائية خاصة. وتمنع من تناول الحلوى والسكاكر ، فتأخذ السيدة نور الطفلة وتعود بها إلى البيت وهي تحدث نفسها: سأحاول بكل ما أستطيع الإعتناء بها . فتشعر مريم بحسها المرهف بأنها أضافت عبئاً على هذه المرأة ، فتطلب من السيدة نور السماح لها ببيع الحلوى والسكاكر أمام البيت لأطفال الحي, ولكن السيدة نور ترفض خوفاً عليها من الإجهاد والتعب ، ولكن مريم تستمر بالإلحاح عليها وتتعهد لها بأنها لن تجهد نفسها ، فترضخ السيدة لطلبها وتشتري لها علبة من الحلوى والسكاكر لتظل مريم تبيع للأطفال ، وكان في الجهة الأمامية للحي يوجد شارع تجاري كبير ، أعتادت مريم أن تسترق بعض الدقائق لتذهب إلى ذلك الشارع القريب فتجلس بالرصيف الممتلئ بالأزهار وأمام هذا الرصيف محل تجاري يعرض ملابس للصغيرات وكان يظهر من الواجهة الزجاجية ثوب بنفسجي جميل فتظل مريم تتأمل الفستان فتحلم أنها ترتدي الفستان ، وأن السماء تمطر سكاكر وحلوى ، والحوريات يغنين حولها بصوت جميل «كلنا نحب مريم الصغيرة». لتفيق من هذا الحلم سريعاً وتعود إلى البيت ، ظلت كذلك كل يوم تجلس لدقائق في الرصيف المليء بالأزهار ، تحلم بارتداء الفستان البنفسجي والحوريات يغنين من حولها ، والسماء تمطر سكاكر وحلوى ، لكنها سرعان ما تعود للواقع فتجد أن الفستان أمام عينيها ، لكنها لا تستطيع ارتداءه ، والحلوى بين يديها لكنها لا تستطيع تذوقها ، لكن هذا الواقع وما يحمله من جبروت لا يستطيع أن يحرمها من اقتحام قلعة الحلم فترتدي الفستان وترقص مع الحوريات ، بل وتحتفي السماء بها فتمطر سكاكر وحلوى ، وهكذا تظل مريم تحلم وتحلم. في أحد الأيام تتلقى السيدة نور خبراً مآله أن والدها مريض وأن عليها الذهاب للقرية ، فتترك نور أطفالها برفقة إحدى الجارات ريثما تعود . فتذهب مريم كعادتها إلى رصيف الحلم ، فتجلس بين الأزهار وتحلم بارتداء الفستان البنفسجي والسماء تمطر سكاكر وحلوى ، والحوريات يغنين بصوت جميل «كلنا نحب مريم الصغيرة» ...فيطول أمد الحلم أكثر من المرات السابقة لتقرر في لحظة أن تحقق ما يتيسر لها من الحلم ، فتقرر أن تتذوق الحلوى وبدون أن تشعر تتناول كمية كبيرة منها ، فتشعر بإنهاك تحاول النهوض.. لكنها تقع على الأرض فتتناثر قطع الحلوى على الرصيف. رحلت مريم عن عالمنا ليصدم الحي ويحزن حزناً شديداً ، أما الشارع التجاري فكأن ناقوساً دق وبشدة ليوقظ ضمائر التجار ، فيتساءلون بينهم كيف لم نتنبه أن ثمة حيا فقيراً يعاني أطفاله البؤس والحرمان، فيجتمع التجار بعد هذه الحادثة ويقررون تأسيس جمعية خيرية تسمى « جمعية أصدقاء مريم» لمساعدة أطفال الحي وكفالتهم حتى يصبحون في المستقبل عناصر فاعلة ، أما صاحب المحل التجاري الذي يعرض الفستان البنفسجي فإنه قرر أن يجعل من المحل مقراً للجمعية، وهكذا كبرت الجمعية لتساعد أعداداً كبيرة من أطفال المدينة . أما أطفال الحي فقد كبروا واصبحوا في أماكن مرموقة ، لكنهم لم ينسوا صديقتهم مريم ، فكانوا يضعون الأزهار على الرصيف ، بل أنهم شيدوا نصباً تذكارياً كتبوا عليه «هنا وقعت أيتها الصديقة» حين كنتي تتعثرين بخطوات عمياء ، فتناثرت أحلامك الجميلة لتنبت آمالاً مزهرة ، فكان وقوعك حياة لآلاف الصغار فنامي أيتها الصديقة قريرة العين ، هادئة النفس ، فأمثالك لا يموتون ..كلنا نحب مريم الصغيرة.