جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة الثامنةَ عشرةَ منه: “لكل شخص الحقُّ في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحقُّ حريةَ تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة، وإقامة الشعائر، ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرّاً أم مع الجماعة”. الحرية كلمة تشدَّق بها كثيرٌ من الأفراد والتيارات الليبرالية، خاصة الفترةَ الماضية بعد الثورات التي حدثت في الوطن العربي، والتي أزاحت رؤساء كانوا قد جلسوا على كرسي الحكم عشرات السنين، وكان من الديكتاتورية المقابِلة للحرية ألا يجد غيرهم السبيل للوصول إلى كرسي الحكم، وانتصاراً من التيارات لمبدأ الحرية خرَج الناس في تطبيق حرية الرأي والفكر والتعبير إلى ميادين تلك الدول، وكان ما كان. لكن المشكلة هنا تكمن في اتساع رقعة الحرية التي يطالب بها هؤلاء الحقوقيون والليبراليون، إنها تشمل حريةَ الدِّين والعقيدة والعمل. فمن الحرية أن تقول ما شئت، وأن تعتقد ما شئت، وأن تفعل ما شئت، فهل هذا مقبول إن نظرنا إليه بميزان الشرع الحنيف؟ هل أنت حر في أفعالك ما لم تضرَّ كما يقول الليبراليون؟ أم أن حريتك مقيدة أو - على الأقل - منضبطة ومسؤولة؟ بالرجوع إلى المادة التي صدَّرنا بها كلامنا، نجد أنها تعطي الحق للإنسان في تغيير ديانته وتعليمها والدعوة إليها، سواء كان ذلك في شكل فردي أو جماعات، وإن الدول التي أخذت بهذا المبدأ - مثل الدنمارك وغيرها - عبَّرت عن عقيدتها في النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- واتخذت ذلك من سبيل حرية التعبير. وفي مصرَ تم عملُ مسرحية للنصارى كانت على وشك إيقاد نارٍ بين المسلمين والنصارى بسببها في الإسكندرية منذ سنوات، وذلك من باب حرية الاعتقاد والتعبير. وامتلأت السينما بالأفلام الهابطة، وحققت أفلام الدعارة الفكرية - التي تسوق لنفسها بأجساد النساء - أعلى إيرادات في مصر، وذلك كل عام، ووزارة الثقافة المصرية ترعى ذلك من باب حرية التعبير. تقول الموسوعة الحرة: “ترجع بدايات المفهوم الحديث لحرية الرأي والتعبير إلى القرون الوسطى في المملكة المتحدة بعد الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني من إنكلترا عام 1688، ونصبت الملك وليام الثالث من إنكلترا، والملكة ماري الثانية من إنكلترا على العرش، وبعد سنة من هذا أصدر البرلمان البريطاني قانون: “حرية الكلام في البرلمان”. وبعد عقود من الصراع في فرنسا تم إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789 عقب الثورة الفرنسية، الذينصَّ على أن حرية الرأي والتعبير جزءٌ أساسي من حقوق المواطن، وكانت هناك محاولات في الولاياتالمتحدة في نفس الفترة الزمنية لجعلِ حرية الرأي والتعبير حقّاً أساسيّاً، لكن الولاياتالمتحدة لم تُفلِح في تطبيق ما جاء في دستورها لعامي 1776 و1778 من حق حرية الرأي والتعبير؛ حيث حُذِف هذا البند في عام 1798، واعتبرت معارضة الحكومة الفيدرالية جريمةً يعاقب عليها القانون، ولم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بين السُّود والبِيض”. إن حرية التعبير - كمصطلح - لم تكن يوماً إسلاميةً؛ لأن الحرية التي يدعو إليها حرية مطلقة، لَم تتوافقْ مع القواعد التي وضعها الإسلام في شريعته الغراء، إضافة إلى أن الغربيين الذين صدَّعوا الناس بهذا المصطلح، لم يَفُوا بحقه، بل اعتبرت معارضة الحكومة الفيدرالية جريمة؛ كما مر في كلمات الموسوعة. إن مصطلح “حرية التعبير” مصطلح “الإساءة” أصبحا زيادة على كونهما متعارضين، أصبحا مشكلةً ثقافية وفكرية، فمتى نعتبر الإساءة إساءة، ومتى نعتبرها حرية تعبير؟! في عام 2005 تم نشر إساءات للنبي -صلى الله عليه وسلم- على يدِ الغربيين باسم حرية التعبير، في حين اعتبارهم مَن يتكلم في المسيحية من المسلمين مزدرياً للأديان لابد وأن يعاقب! لقد كانت برامج السخرية التي قادها الليبراليون في وسائل الإعلام من بعض السياسيين والإسلاميين ضرباً من حرية التعبير، في حين اعتبر الليبراليون البرامجَ الإسلامية التي تدعو إلى عدم دَعْم الليبراليين في الحياة السياسية جريمة ينبغي أن يعاقِب عليها القانون. اعتبر الليبراليون من حرية التعبير تلك الأفلام الهابطة التي يتَّسع فيها المجالُ للعُرْي، ومقدمات الفواحش، وتعليم الأجيال كيف تتم الجريمة على اختلاف أنواعها، بينما يُعتبر نشر الرأي الإسلامي فيها، وأنها حرام ولا يجوز مشاهدتها أو إنتاجها، كل هذا في نظرهم نوعٌ من التطرف؛ فالحرية لهم لا لغيرهم. أما عن الروايات التي خرجت من ألسنة كتَّاب مشهورين، أمثال: نجيب محفوظ صاحب الرواية المشهورة: أولاد حارتنا، والتي منع الأزهر نشرها، رغم أن محمد حسنين هيكل تعسَّف أيام كان يعمل رئيس تحرير الأهرام ونشَرها بالجريدة، واعتبروها حريةَ تعبير، رغم أن الأزهر رآها زندقة؛ حيث وصل بنجيب محفوظ الحد في أن يمثل الذات الإلهية في روايته بشخصية الجبلاوي، والجنة بعزبته، والأرض بالحارة، والبيت الكبير هو السماء والعرش. هل من حرية التعبير أن تستخدم أجساد النساء العرايا بحجة التعبير؟ والله -تعالى- أمر بالحجاب، ومنَع الاختلاط، وحدَّ حدوداً بين الرجل والمرأة، وهؤلاء يحاربون الله - تعالى- بسوء تعبيرهم. هل من حرية التعبير أن نمثل الأنبياء - بل والذات الإلهية - بمجموعة من الأشخاص الذين يبيتون في هذا المسلسل في أحضانِ النساء، والمسلسل الآخر في دَور الأنبياء؟ إن الحرية في الإسلام حريةٌ منضبطة ومسؤولة، لا تقوم على مبدأ: “أنت حر ما لَم تضر” وفقط، بل أنت حر ما لَم يكنْ فِعلك هذا مخالفاً للشريعة، يعنى في الحقيقة أنت عبد لله -تعالى- بَيْدَ أن الفكر الليبرالي يضع ضوابطَ الحرية في القانون الوضعي، ولا يعود إلى النصوص الشرعية؛ إذ إن النصوص الشرعية في نظره سبيلٌ إلى الرجعية والتقهقر والتطرف. يقول الطيب بو عزة: “فالحرية - بمعناها المطلق - ليست سوى فوضى أو يوتوبيا حالِمة، والحياة المجتمعية بما هي حياة أفراد وجماعات متعالقين بروابط، ومتخالفين في الأذواق والأفكار والمصالح، لا بد لكي توجد وتستمر من أن تتأسس على قواعدَ وأعرافٍ ونُظم ومؤسسات ينضبط لها الفعلُ الفردي ويمتثل”. لَم يكن الإسلام يوماً من الأيام عقبةً أمام حرية التعبير “ولَم يمنعِ الإسلام من وجود ظاهرة المعارضة أو الخلاف في الرأي بنحو فردي أو جماعي (حزبي مثلاً) فهي حق طبيعي؛ من أجل تبيُّن وجه السداد أو الصواب، وتحقيق مصلحة الأمة، وموازنة الأمور، وتقييم المواقف والآراء، اندفاعاً من واجب الإخلاص، والعمل بمقتضى شرع الله -تعالى- لا انتصاراً للحظوظ النفسية والأهواء والشهوات؛ فالمعارضة في الإسلام هي معارضة مواقف، لا معارضة مبادئ تشذ عن الخط الإلهي العام الذي يُرَادُ به ضمان المصالح ودرء المفاسد”. لكنه يقف أمام المساس بالمقدسات، ويمنع الإساءةَ في التعبير، ويعاقب عليها، ويمنع أن يكون الإسلام لعبةً يدخل فيها الإنسان وقتما يشاء، ويرتَدُّ عن دينه إذا شاء. إنه يساعد على حرية التعبير، ويحض عليها دون إحداث مفاسد، ودون تغيير لطبيعة الخِلقة التي خلَق الله عليها الرجل والمرأة، وهنا يأتي دور الحكومات في معاقبة الخارج من الحرية المنضبطة إلى الإساءة والزندقة، لا أن ترعى الحكومات من يصفون النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفاشي والديكتاتور، كما فعلت حركة “علمانيون” في استضافة الجاهل المصري الذى يعيش في ألمانيا، وحكَم بردَّته مجموعة من المنتسبين إلى العلم؛ لأنه سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم. لم يكن موقف العَلمانيين والليبراليين من هذا المصطلح إلا حلقة في سلسلة سقوطهم في التبعية وهدم النصوص الشرعية؛ لأنهم يسعَوْن إلى بناء ثقافة مختلفة عن تلك الثقافة التي تمنعُهم من اعتقاد الحرام، والتلذُّذ بالشهوات، إلا في طريقها الذى حدَّده الشرع، أما هم فيريدون الحياة وسط إباحية غربية مقيتة، وقد حاول الوصولَ إلى هذا كثيرٌ من الكتاب، منهم: طه حسين. يقول محمود سلطان في: “الليبرالية العربية.. هدم النص والسقوط في التبعية”: “ففي إطار منطق (اقتفاء الأثر) السقيم الذي أصَّل له طه حسين في كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) ظل المجتمع العربي على مدى العقود السبعة الماضية - انظر المثقف الليبرالي العربي - بناءً يستند إلى قاعدة لبنتها الأساسية (النص)، ومن ثم شُغلت هذه الثُّلّة المثقّفة بمهمة تكاد تكون هي الوحيدة التي حشَدوا من أجلها آلياتهم المستوردة من كل حدب وصوب، وهي كيفية تقويض (النص)، والماضي العربي الذي أفرز هذا (النص)؛ إذ إن بتقويضه - وَفْق هذا التصور، وفي ظل هيمنة الفكر الاستشراقي - سينهار الصرحُ الاجتماعي العربي (التقليدي) برمَّته، معتقدين أن ذلك يمهِّد لهم السبيل نحوَ بناءِ عالَم جديد مستحدث، وإلحاقه ثقافيّاً وحضاريّاً بالغرب! أيها العقلاء، إن الحرية في الإسلام ليست فوضى، بل وضَع الشرع لكل ما تعتقدون وتنطقون وتفعَلون الضوابط. وصلى الله على سيدنا محمد وأله، والحمد لله رب العالمين