الوراق فك الارتباط الموهوم بين حياة الشاعر وحياة الشعر ، فالشعر الرديء يموت وقائله لا زال على قيد الحياة ، بينما الشعر الجيد يبقى حياً بين الناس بعد موت قائله. ما أحوجنا إلى مثل شعر الوراق في هذا العصر الاستهلاكي المريع الذي أتلف الأعصاب وأنهك الجيوب ، وأزهق الاطمئنان أشاع خصوم الشاعر دعبل الخزاعي موته وزعموا موت شعره من بعده ، فقال: نعوني ولمّا ينعني غير شامت وغير عدوٍّ قد أصيبت مقاتله يقولون إن ذاق الردى مات شعره وهيهات عمر الشعر طالت طوائله سأقضي ببيت يحمد الناس أمره ويكثر من أهل الرواية حامله يموت ردي الشعر من قبل أهله وجيده يبقى وإن مات قائله والشاعر هنا يفك الارتباط الموهوم بين حياة الشاعر وحياة الشعر ، فالشعر الرديء يموت وقائله لا زال على قيد الحياة ، بينما الشعر الجيد يبقى حياً بين الناس بعد موت قائله. وحياة الشعر وخلوده هو ما يؤمله ويطمح إليه كل شاعر ، ويرى فيه امتداداً لحياته بعد موته . والفيلسوفة اليونانية ( ديوتيما ) ترى أن الإنسان بإمكانه أن يحقق الخلود بطريقتين : الأولى عن طريق إنجاب الأبناء. والثانية : عن طريق إنجاب الأفكار. فالشخص بوصفه مجموعة من الصفات يمكنه الخلود بالنسل الصلبي أو بالنسل الفكري. والخلود هنا هو امتداد معنوي للإنسان بعد موته في شخص أبنائه أو معاني أفكاره. قال الشهاب الحجازي: قالوا : إذا لم يخلف ميتٌ ذَكراً ينُسى فقلت لهم في بعض أشعاري بعد الممات أُصَيحابي ستذكرني بما أخلف من أولاد أفكاري ومن الشعراء الذين خُلدوا بأولاد أفكارهم وأبيات أشعارهم الشاعر العباسي محمود الوراق ، وقليلة هي المعلومات التي تمدنا بها المصادر الأدبية والتاريخية عن هذا الشاعر ، كذلك قليلة هي أشعاره التي وصلتنا ، وقد كانت له رؤية في الشعر عبر عنها بقوله : قل من الشعر ما يبقى لك ذكره ، ويزول عنك إثمه. وهي رؤية تنم عن حس إيماني مرهف. ولعله كان بسبب ذلك مقلاً من الشعر ، ثم لم يصلنا من قليله إلا القليل ، ولكن ذلك القليل كتب له الذيوع والانتشار بفضل ما امتاز به من السلاسة اللغوية والمعاني الرائقة والحكم العميقة. وقد كان شاعرنا يعيش في ضيق حال وقلة ذات يد ، ومع ذلك لا نجد في شعره ما يدل على التبرم والتسخط والشكوى من الزمان وذم الدهر كما هي عادة كثير من الشعراء. وله أبيات من الشعر سارت بها الركبان وتمثل بها الناس قديماً وحديثاً كقوله : تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ كما أنه صاحب البيت الشهير: إذا كان وَجهُ العذرِ ليسَ ببينٍ فإنََّ اطِّراحَ العذرِ خيرٌ من العذرِ وكانت لشاعرنا جارية جميلة تسمى (سكن) يقولون في وصفها : كانت من أعذب الناس لفظاً، وأشعر الناس وأجودهم وأحكمهم وصفاً ، عالمة بالأخبار والأنساب عارفة بأيام الناس، ومناظرة في الكلام فائقة فيه لا يكلمها أحد إلا قطعته، وكان محمود الوراق مع براعة أدبه، وحسن شعره، ومعرفته بفنون الآداب، وبصره بجيد الشعر ورديئه، وما كان رزق من الحكمة، يقول: ربما والله تتقاصر إليّ نفسي في مناظرتها؛ لأنها تأتي من بدائع الكلام ومن الاحتجاج بشيء لم يسمع بمثله من أحد من العلماء الذين نسبوا إلى الكلام وعرفوا به ، فأقول ياسبحان الله ! من أين هذه الفطنة النقية الخالصة فأبقى مبهوتاً !. وقد ملكت هذه الجارية قلب شاعرنا وعقله ، لكنه كان في ضيق وشظف من العيش ، وكان قد ذاع أمرها حتى وصل إلى قصر الخلافة ، وجاء العرض السخي لمحمود بعشرة آلاف دينار مقابل تخليه عنها ، فقال لها ذات يوم : يا سكن أنت في جمالك ونبلك وأدبك وأخلاقك على هذه الحال ، وأنا فقير ولست أقوم بواجبك ، ووالله ما من شيء من عرض هذه الدنيا آثر عندي من النظر إليك ، ومن القرب منك. فقالت له : يا مولاي أما إذا كان الأمر على ما تقول فإنني أصبر معك ، وأكتفي بقليلك ، ولا أكلفك ما لا تطيق. فعاشت معه وصبرت على ضيق الحال ، وكانت بأخلاقها وعقلها وأدبها ووفائها وقناعتها ملهمة لشاعرنا في كثير من أشعاره الرائقة كقوله : إني رأيت الصبر خير معول في النائبات لمن أراد معولا ورأيت أسباب القناعة أُكدت بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا فإذا نبا بي منزل جاوزته وجعلت من غيره لي منزلا وإذا غلا شيء عليّ تركته فيكون أرخص ما يكون إذا غلا وهذه الأبيات تتضمن معاني أخلاقية وفلسفية رفيعة ، وحسبك منها البيت الأخير : وإذا غلا شيء عليّ تركته فيكون أرخص ما يكون إذا غلا وما أحوجنا إلى هذا المعنى في هذا العصر الاستهلاكي المريع الذي أتلف الأعصاب وأنهك الجيوب ، وأزهق الاطمئنان فالشاعر يدعونا إلى أن نقلب المعادلة رأساً على عقب ، فبدلاً من أن يركض الإنسان ويلهث خلف ما غلا ، ويحمل نفسه ما لا يطيق في سبيل الحصول عليه ، بدلاً من ذلك عليه أن يولد في نفسه قناعة داخلية بالاستغناء عنه ، وحينها يصبح الغالي رخيصاً ، بل أرخص ما يكون إذا غلا ! ومن أشعاره الرائقة التي طالما تغنى بها الوعاظ والخطباء من على المنابر قوله: من يشتري جنة ً في الخلد عالية في ظل طوبى رفيعات مبانيها دلالها المصطفى والله بائعها ممن أراد وجبريل مناديها وقوله: تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درك الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحد ومن حكمه المشهورة في الأخلاق قوله: إني شكرتُ لظالمي ظلمي وغفرتُ ذاك لهُ على علمي ورأيتهُ أسدَى إليّ يداً لما أبانَ بجهلهِ حِلمي فكأنما الإحسانُ كان له وأنا المسيءُ إليه في الحلمِ ما زال يظلمني وأرحمهُ حتى بكيت له من الظلمِ وقوله في العفو والتسامح : سألزمُ نفسي الصفح عن كل مذنبٍ وإن عظمت منه عليّ الجرائمُ فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثةٍ شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مقاومُ فأما الذي فوقي فاعرفُ قدرهُ وأتبع فيه الحقَّ والحق لازمُ وأمّا الذي دوني فإن قال صنت عنْ إجابته نفسي وإن لام لائمُ وأمّا الذي مثلي فإن زلَّ أو هفَا تفضلتُ إن الحر بالفضل حاكمُ وقد توفي شاعرنا ببغداد عام 225ه تقريباً في عهد الخليفة العباسي المعتصم. المصادر: اتفاق المباني وافتراق المعاني لأبي الربيع المصري. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. ثمار القلوب لأبي منصور الثعالبي. المستطرف لشهاب الدين الأبشيهي. الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد.