خاص بوكالة انباء فارس.. أسير فلسطيني يخرج من عالم الأموات بعد 9 سنوات يتفنن العدو الإسرائيلي في التنكيل بالأسرى الفلسطينيين والانتقام منهم، لاسيما من كان لهم دور بارز قبل اعتقالهم في مقاومة الاحتلال، واستهداف المستوطنين الغاصبين. غزة (فارس) ويحاول العدو من وراء هذه السياسة، التي نجح غالبية المعزولين في كسرها وإبطال مفعولها، دفع هؤلاء الأبطال إلى الندم على ما قاموا به، وإذلالهم بكسر إرادتهم، وتحطيمهم معنويًا، والتسبب بموتهم مستقبلًا بسبب الأمراض التي من الممكن أن تصيبهم. وفيما يلي نص اللقاء الخاص الذي أجراه مراسل وكالة انباء فارس في غزة مع أسير فلسطيني قضى في العزل تسع سنوات متواصلة، ونجح بفعل معركة الإرادة (الإضراب عن الطعام) بأن يعود للمعتقل من جديد وسط إخوانه الأسرى. س1/ بدايةً عرفنا على نفسك؟ اسمي أحمد يوسف أحمد المغربي، أصلي من قرية البريج قضاء الرملة المحتلة، ولدت في مخيم عين الحلوة في الجنوب اللبناني بتاريخ 24/10/1974م، وعاشت أسرتي حياة اللجوء في سوريا، الأردن، السودان وليبيا، وفي عام 1996م عدنا إلى أرض الوطن وبالتحديد لمخيم الدهيشة للاجئين ببيت لحم جنوبالضفة الغربية. اعتقلت بتاريخ 27/5/2002، ومحكوم بالسجن 18 مؤبدًا، حالتي الاجتماعية متزوج. س2/ كم كانت مدة عزلك الانفرادي؟ مكثت في العزل 9 سنوات متواصلة، وحاليًا أنا في سجن نفحة. س3/ كيف قضيت كل هذه السنوات في العزل؟ العزل حياة صعبة، وروتين قاهر، ولا تسلم خلاله من الاستهداف المباشر، والكيد الخفي والمعلن. مدى المأساة الإنسانية التي تحل بالأسير المعزول تجعله يعيش حالة استنفار قصوى ويقظة تامة لصد كل المؤثرات الجسدية والنفسية بما يتاح له من إمكانية وأدوات يستعيض بها في محنته .. زادك في هذه الأجواء القاتمة إيمانك بالله وصبرك على المصيبة التي حلت بك. س4/ ما هي الأساليب التي ينتهجها الاحتلال ضد المعزولين؟ عدونا لا يألو جهدًا بالمس بالأسير المعزول نفسيًا وجسديًا ومعنويًا بشتى الوسائل المبتكرة، وضمن خطة ممنهجة واستقصاد متعمد يتخذ أشكالًا وأنماطًا مختلفة كلها تصب في خانة التحطيم النفسي البطيء، والتوتر الدائم على مدار الساعة مما يكون له أثر سلبي على الناحية الجسدية. س5/ بالتأكيد أن لك مواقف في العزل منها المحزن والمفجع والمفرح، اذكر لنا بعض هذه المواقف؟ ما أفرحني سماعي نبأ أسر الجندي الصهيوني شاليط، اذكر حينها كنت في عزل "إيشل"، لمجرد سماع الخبر أخذت بالتكبير بأعلى صوتي لا شعوريًا مما أدى إلى قدوم الإدارة والاستنفار الحاد. لحظة تاريخية وشعور إنساني لا يوصف خصوصًا لمن يشعر أنه معزول عن العالم لا حول له ولا قوة، وما يحزنني عدم قدرتي على مساعدة إخوة لي يشاطروني المحنة هم بأشد الحاجة لي وسقوط الشهداء والضحايا المتوالي. س6/ تحدث عن طبيعة الغرفة في العزل من حيث الباب والشباك والحمام والمطبخ؟ الغرفة عبارة عن فسقية (أي قبر) هكذا اسميها، مساحتها 2,30م، طول بعرض 170سم تقريبًا. تتسع لسريرين مشتركين علوي وسفلي مع حمام للاستحمام وقضاء الحاجة. به فتحة صغيرة، لها لوح صغير لإغلاقها يتم إغلاقها على مدار الساعة فقط، تفتح حين توزيع الأكل أو العدد الدوري اليومي للأسرى، الغرفة لا تصلح للاستعمال البشري حيث مضي عليها سنوات وسنوات منذ إنشائها والغالب منها بني منذ العهد الإنجليزي البائد، داخل الغرفة لا تستطيع تحديد المناخ أو تعيش أجواء الفصول الأربعة المعروفة حيث لدينا إما درجة حرارة عالية أو برودة ورطوبة قاتلة. س7/ ما هي خططك الآن؟ متعطش للعلم، وقراءة الكتب المختلفة، وسد الفراغ الذي نالني وإخواني على مدار سنوات العزل الطويلة، حيث حرمنا من قراءة الكتب والدراسة الجامعية. س8/ كيف كنت تعيش اللحظات الأولى في الإضراب الذي خضته لانتزاع حريتك من العزل؟ كان الإضراب بمثابة إعلان حرب حقيقية، تتطلب شعورًا عاليًا من المسؤولية، وتحمل النتائج أيًا كانت، خصوصًا على المستوى الشخصي لذا كانت حالة الاستنفار وتحفيز الهمة في أعلى الدرجات مع الإصرار قدمًا نحو تحقيق الهدف المرجو من الإضراب. بمعنى آخر دخلت الإضراب بروح المنتصر، وعززت ذلك نفسيًا ومعنويًا وعمليًا، وأقسمت بألا أفك الإضراب حتى تطأ قدمي أقسام إخوتي الأسرى، فكان ذلك بفضل الله. س9/ هل خفت من فشل هذا الإضراب؟ لم أخف وإنما كنت قلقًا، بل الحرص على مجموع إخواني المضربين من كيد الكائدين، وتدبير الماكرين، شاءت الأقدار أن تسوق إضراب الشيخ خضر عدنان فكان بمثابة حافز وإلهام ونموذج لا يستطيع أحد إلا أخذه بعين الاعتبار والإدراك، كان هنالك هاجس نفسي مصطنع تم كسره بأسطورة الصمود والإرادة والتحدي وإثبات الذات نموذج عملي حقيقي. س10/ اليوم تعيش الحياة الجماعية مع إخوانك الأسرى .. صف لنا شعورك؟ الحياة الجماعية تعني الرحمة والتقويم والقوة والأخوة والمواساة والرأفة والتنافس والتعاضد والإيثار والألفة والمحبة والعطاء، لذا تجدني بأشد ما أكون لهذه المعاني السامية التي لا تتحقق إلا في الحياة الجماعية، المحتاج أسير حاجتي، وحاجتي لهذه القيم كما حاجتي للتنفس والماء. س11/ ماذا يعني لك أن تخرج من العزل؟ وهل كنت تتوقع ذلك؟ أكيد لا أجد أجمل من الحياة بعد الموت، والنور بعد الظلمات، كنت في عالم لا يوصف إلا بعالم الأموات والظلمات ظلمات الحرمان والكبت، ظلمات الظلم والقهر، ظلمات الافتقار إلى الأكل الصحي المناسب للجسد، ظلمات قطع التواصل مع المحيط الإنساني المتمثل بالأسرى والمناخ الخصب لتوالدها، وظلمات منع العلاج والمماطلة المقصودة. أظن أني كنت بأمس الحاجة لترك هذا الإرث المقيت خلفي دون الالتفات والتطلع إلى الحياة والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى أن أخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن القبور إلى الأحبة والإخوة والحضن الدافئ والحصن الحصين. س12/ لقد سجنت ولك طفل، وإحساس الوالد اتجاه ولده كيف كان طوال هذه السنوات؟ صدقًا عرفته اسمًا ولم أعرفه ابنًا، حاولت بصدى التواصل معه عبر كل وسيلة متاحة وما أقلها، لذلك كان هناك اتفاق بيني وبين أمه على ترسيخ معنى بابا (الأبوة) في ذاكرته وحياته وسلوكه اليومي بواسطة الهدايا بعد كل إنجاز وعمل طيب أو نجاح في مدرسة أو على مستوى البيت من حيث احتياجاته الخاصة كلها من طرف بابا. أصبح بابا موجودًا في كل حاجياته وأغراضه المدرسية ونومه وقوته وتعامله مع الناس. وصلت معه لدرجة أقرب ما أكون حاضرًا بين يديه انطبعت في خياله وأحلامه بصورة سلسلة متدرجة المحيط عن أبيه حتى يتسنى له المعرفة والتقليد والسير على خط أبيه الغائب الحاضر حتى تواصلت معه عبر رسائل تخصه أكتب فيها مشاعري بصدق وشفافية، أخاطبه بلغة الأب لابنه دون تنميق وتزيين يذكر، كانت المشاعر تتدفق تباعًا معبرة عن الذات وعاطفة الأبوة التي افتقدها والأحرى كامنة في داخلي، لكن بحاجة إلى مؤثر وشرارة تقدح زنادها. س13/ حدثنا عن اللحظات الأخيرة قبل خروجك من العزل؟ صراع شديد مع النفس، تعاركت مع الزنزانة فأبت إلا أن تشدني إليها بقوة محاولة مغالبتي فقلت لها الوداع دون رجعة أيتها الظالمة. س14/ صف لنا لحظاتك الأخيرة مع العزل؟ بُلغت بخروجي من العزل مساء الأربعاء فكان الخروج يوم الخميس، الصراحة طار النوم من عيني قضيت معظم الليلة في الصلاة والدعاء والابتهال لله والذكر والشكر له. آثرت مفارقة المكان الذي قضيت فيه سنوات طويلة بالطاعة كوني كنت على يقين أن الأجر مضاعف واللحظات حاسمة تستوجب التوبة لله بالخضوع والخشوع والتبتل والرضا على قضائه الذي قدره لي وأعانني على الثبات والصمود، وسخر لي الأسباب للخروج بعز وشموخ لا يمكن تجاهل عظمة الموقف ورهبة اللحظة والانعتاق والأخطر الخوف والخشية من عدم القبول المنحة التي تعطى للعبد بعد المحنة. س15/ ماذا تقول للعالم بعد خروجك من العزل؟ دعني أقول جملة رسائل تلخص المشهد وتجمله: إن تنصروا الله ينصركم، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وحدة الصف والكلمة سر الثبات والصمود، العزيمة والإصرار والإرادة مفاتيح النصر، لا نعدم الوسيلة في إثبات الذات، وتحقيق المستحيل. /2336/ وكالة انباء فارس