-1- يحق للبعض أن يسأل مع بداية العام الجديد عن حصاد الثقافة العربية خلال العام الماضي، والحصاد هنا لا يقتصر على الفعاليات والأنشطة المختلفة من مهرجانات وندوات . .إلخ، ولكننا نعتقد أن قيمة هذا الحصاد تتمثل في البحث عن إضافة ما قدمتها ثقافتنا خلال العام الماضي، أو رؤية مغايرة تستشرف المقبل. خلال السنوات الماضية لم يكن هناك أي جديد يمكن الخروج به من تأمل حال الثقافة العربية، وفي العامين الأخيرين قفز سؤال علاقة الثقافة بالثورة إلى مقدمة المشهد، وأختزن السؤال بداخله إشكاليات الثقافة العربية كافة أي أعيد تدوير قضايا هذه الثقافة بعد تطعيمها بمسألة التجاوب مع نبض المجتمع، فعلاقة المثقف بالسلطة من ناحية وبالجماهير من ناحية أخرى، ومضمون المنتج الإبداعي وجودته وتعبيره عن هموم الناس لم يستطع الربيع العربي أن يكسبها زخماً مغايراً يخرجها من النفق المسدود الذي تواجهه أو يتجاوز ولع أصحابها بالمراوحة في المكان نفسه، بمعنى أن التحليلات الخاصة بموقف المثقف من الربيع العربي لا تختلف في مرجعياتها وأطرها عما كتب في السابق، تحليلات تستقي مفرداتها من تراثنا البعيد أو القريب ومن نظريات الآخر أيضاً، ولا زالت توجهاتنا الحضارية ومشاركتنا في هموم العالم وقضايا البشر الرئيسة مثل تغيرات المناخ وتعرفنا إلى ثقافات مغايرة بخلاف المركز الغربي . . إلخ، كلها مسائل معلقة حتى إشعار آخر . في تفصيلات المشهد، أي في التعاطي اليومي مع الشأن الثقافي لا تختلف الصورة كثيراً، بل إننا من كثرة ترديد طروحات معينة أصبحنا ننشدها كالمحفوظات، لم أطالع خلال عشرات الحوارات مع مبدعين عرب إلا الحديث الممل عن تدهور النقد، وتسيد الرواية للفنون الكتابية والوضع المزري لمعدلات القراءة، وغموض الفن التشكيلي، الأزمة باتت لافتة الساحة الثقافية اليومية، وبخلاف الازمة والتي يتغنى بها الجميع ولا يفكرون في كيفية الخروج منها، وهناك السمة الموسمية المميزة لثقافتنا فنحن لا نهتم باللغة العربية إلا في أيام الاحتفال بها، والحال نفسه بالنسبة للكتاب والمسرح والتعليم . إذن يمكننا القول ببساطة إنه لا توجد إضافة ما قدمها أحدهم خلال العام الماضي سواء لتشخيص حال الثقافة العربية أو دفعها قدماً إلى الامام . -2- في كتاب الإيطالي إيتالو كالفينو "مدن الخيال" هناك علاقات تمتد من معاينة الملموس والمباشر في إدراكنا وتعاملنا الحياتي مع المدن إلى السيميائي والإشاري، المدن في الكتاب كما يقول فيصل دراج "تتجمع وتندثر في رحاب الذاكرة، كأن كل مدينة مرآة ترى المدينة الأخرى حالها فيها" . المدينة بسماتها الشاعرية في الكتاب تلخص تعاطي المثقف العربي معها بشكل عام، حتى في أقصى درجات رفضه لها وتمرده عليها أو تحليلاته روائياً لتغيراتها أو نقدياً لعلاقتها بالطبقة الوسطى والحداثة إلى آخر هذه المقولات التي تلخص رؤيتنا للمدينة . في أكتوبر/ تشرين أول 2011 صدر كتاب "مدن المعرفة، المداخل والخبرات والرؤى" عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، الكتاب يتكون من 20 فصلاً، تشكل فضاءَ مغايراً لكل ما نطرحه حول المدينة، بإمكاننا أن نقرأ عن مصطلحات مثل رأس المال الفكري، نتأمل جداول وإحصاءات ومعادلات استطاعت من خلالها الكثير من المدن في أنحاء العالم من النمو عبر وضع الحالة المعرفية على قائمة أولوياتها . اللافت للانتباه إننا لم نألف مصطلح "مدن المعرفة" ورديفه "مدن الذكاء" ولم يتم تداولهما في ثرثراتنا الفكرية، وسريعاً ما أصابنا الملل من مصطلح آخر وهو "مجتمع المعرفة" وربما لم يجتهد مثقف عربي مع المصطلح الأخير سوى نبيل علي في كتابه "العقل العربي ومجتمع المعرفة"، وهي مفاهيم يمتزج بداخلها المعرفي العلمي بالاقتصادي . نموذج يؤكد الولع بالشعري، في ما يخص المدينة، والنظري، في ما يتعلق بالمعرفة، المتأصل في ثقافتنا، نموذج يستمد جذوره من ثنائية النظر/ العمل التراثية أو الثقافي/ التقني الحداثية . لا فارق في السيولة الزمنية الثقافية التي نعيشها وأن تبحث عن الجديد بين أن تعثر على ثنائية قديمة أو معاصرة . -3- ما الذي يغير الذائقة الأدبية؟ أو بمعنى آخر ما الشروط والعوامل التي تتحكم في رواج مذهب أو تيار أدبي خلال فترة ما وخفوته أو اندثاره لاحقاً؟ السؤال يكتسب أهميته من جدل الإبداع والثورة، وبرغم انخراط الجميع في ذلك الجدل إلا أننا لم نسمع أحدهم يسأل: ماذا لو أن المزاج العام الآن لا يلتفت أصلاً إلى قصيدة هنا تعبر عن زخم الأحداث أو رواية هناك ترصد تفاصيلها؟ وما أمكانية نشأة أو صعود أشكال تعبيرية جديدة مغايرة للسائد أو المألوف؟ اشارات عابرة نقرأها في هذا البحث أو تلك الدراسة نعرف من خلالها المؤثرات التي أدت إلى سيادة شكل أدبي خلال مرحلة من المراحل، وهل بإمكان الجديد أن يقطع تماماً مع السابق عليه؟ وهل هذا الجديد يعبر عن خطوة متقدمة إلى الأمام؟ أسئلة عدة تتماس في العمق مع المجتمعي والجمالي، تلك الثنائية التي تجاذبت رؤى النقد العربي الحديث ولم يستطع الفكاك منها . بالرغم من اللغة العذبة والبناء الروائي المحكم لرواية "الناقوس الزجاجي" للشاعرة الأمريكية سليفيا بلاث، إلا أن القارئ يستطيع اكمالها بالكاد، الرواية تمتلئ بمشاعر العجز والاحباط وكراهية الحياة، تستمد كثير من تفاصيلها من بلاث نفسها والتي انتحرت في عام ،3691 تمتلئ بمشاهد تذكر المتلقي بأعمال كامور وسارتر وبيكيت أو من تطلق عليهم نانسي هيوستن "أساتذة اليأس"، أهمية الرواية في ترجمتها إلى العربية أخيراً وفي تلك التقريظات المكتوبة عنها في المقدمة، بعد المطالعة بصعوبة يقفز إلى الذهن سؤال تغير الذائقة الأدبية، فالبطلة التي تعاني التوحد والانفصام عن العالم بكل ما يتبعهما من مصفوفات تؤشر على قاموس الأدب الوجودي، تتقاطع في أحاسيسها مع أبطال "الغريب" و"الغثيان" و"في انتظار غودو" ومع ذلك لا نشعر معها بما كنا نشعر به أثناء تفاعلنا مع هؤلاء . هل بإمكاننا القول إن الرواية جيدة بمعايير عصرها، تلبي حاجات ثقافية ومجتمعية ارتبطت بحقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ولكن من جانب آخر ألا يحتوي أي نص إبداعي على مفردات أو جوانب تتماس مع الإنسان في كل زمان؟ وما الذي يجعلنا نستمتع بها آنذاك ولا نلقي إليها بالاً الآن؟ -4- إن سؤال الذائقة الأدبية مطروح على الثقافة العربية خلال العقد الأخير على الأقل، نجده كامناً في صعود الرواية وخفوت الشعر، وازدهار عوالم وتقنيات روائية بعينها، وما يكسبه الزخم الراهن عشرات الاصدارات التي تحاول الانتساب إلى أدب الثورة، وحيث هناك اجماع صامت من قبل فريق من النقاد والمحللين بتجاهلها وعدم منحها شرعية الأدب الثوري، وتأكيد متكرر من فريق آخر على أن الثورات لم تفرز أدبها الخاص بعد . تتوافر في رواية "السنجة" لأحمد خالد توفيق كل عناصر الجذب: اللغة البسيطة، الشخصيات المكتملة الملامح، الأزمنة المتداخلة، المكان المتخيل "دحديرة الشناوي" الذي لا وجود له بالفعل ولكنه يرمز إلى العشوائيات التي تملأ المدن المصرية، المفتتح المورط للمتلقي فالفتاة الفقيرة والجميلة عفاف تكتب على أحد الجدران كلمة "السنجة" ثم تقف هادئة أمام القطار، تبدأ الأحداث المشوقة بعد انتحارها، حيث يبحث الجميع عن أسباب هذا الانتحار، يغوص بنا توفيق في أعماق المجتمع، لكل واحد من المهمشين الذين ينثرهم على صفحات روايته آلامه وأحلامه والعنوان نفسه دال، فكلمة "السنجة" تشير إلى تلك الأداة التي يستخدمها تجار الخضر والفواكه، وانتقلت خلال العقود الأخيرة إلى أيدي المشردين الصغار والبلطجية، تشارك عفاف في ثورة 52 يناير وبعد مقتل حبيبها في ميدان التحرير تتعرض لحادث اغتصاب جماعي من بعض البلطجية في مكان عشوائي آخر . الرواية طبعت 4 مرات في شهرين، واستفادت مناخاتها من عنصرين مهمين: الأول مسار الثورة المرتبك في مصر وهو ما أكده السرد من خلال رمزية حادث الاغتصاب الذي وقع بعد الثورة، الثاني: التحليل الاجتماعي الكاشف لحيوات المهمشين والذي أصبح "موضة" روائية خلال السنوات الأخيرة، وهو تحليل اجتماعي مرعب أحياناً برع فيه توفيق الذي مارس لفترة طويلة كتابة أدب الرعب الموجه للشباب أو فئة المراهقين تحديداً . وتجدر الاشارة هنا إلى رواية سابقة لتوفيق بعنوان "يوتوبيا" صادرة في عام 2011 تدور أحداثها حول أقلية ثرية تعيش في مدن مغلقة على أطراف القاهرة في عام 2025يقوم بعض أفرادها باصطياد المهمشين ليلاً من العشوائيات لوضعهم كأهداف متحركة في سباق للسيارات، وتنتهي بثورة المهمشين ضد هؤلاء العابثين . أحمد خالد توفيق وعوالمه حالة استثنائية في الرواية المكتوبة في مصر قبل أو أثناء أو بعد الثورة، هناك أيضاً أحمد مراد في "فيرتيجو" و"الفيل الأزرق" وتامر إبراهيم في "صانع الظلام" وبدرية ماغر الدين شكري فيشير في "أسفار الظرعين" . . إلخ . كلها أعمال تتحدث عن الطبقات الدنيا في المجتمع، وهي أعمال جيدة مكتملة البناء الفني، وتتميز بالانتشار والتقريظ النقدي، وتمزج بين الحس البوليسي وأجواء الرعب عند مقاربتها للمجتمع الذي تتحتدث عنه . هل نحن أمام ذائقة جديدة تتشكل؟ سؤال تتأكد أهميته إذا اضفنا إلى الصورة الأفلام السينمائية الناجحة في الفترة نفسها والتي تنقل إلينا عبر المرئي الأجواء ذاتها، وإذا أضفنا ثالثاً فن الغرافيتي، ورابعاً مواقع التواصل الاجتماعي المنفلتة كثيراً من عقالها، فسنجد بنية تحكم كل هذا، بنية تحتاج إلى دراسة واجتهاد، تطرح أسئلة بخصوص الجمالي والاجتماعي والمتشابك بالسياسي، فهذه الأعمال تدق ناقوس الخطر المبشر بثورة، أما استمرارها ونجاحها بعد الثورة فيؤكد أن الثورة ليست بخير أو تحتاج إلى تعديل مسار أو تتطلب ثورة أخرى، أما الفئات التي تحتل مواقع البطولة في هذه الأعمال والتي لم تشارك أو شاركت بتواضع في الثورة التي تمت بالفعل فتصدرها الواجهة يعني أن الثورة من نوع جديد تلوح في الأفق . -5- مع بداية عام جديد مطلوب من الثقافة العربية البحث عن فضاء مغاير للإجابة عن أسئلتها المأذومة، تلك الأسئلة التي تصاعدت وتيرتها في أعقاب ما يعرف ب "الربيع العربي" .