صديقة فرنسية مجتهدة، أمضت سنوات من البحث والاجتهاد في دراسة موضوع محدد، وأعدت بخصوصه أطروحة دكتوراه، حصلت بعد تقديمها على أعلى درجات التقدير من لجنة علمية، عالية المستوى في معهد العلوم السياسية في باريس. وكانت رسالتها عن السياسة الخارجية لحركة سياسية دينية في المنطقة العربية، والتي تسيطر على حيّز جغرافي إدارياً وأمنياً. وقد قامت الباحثة الشابة بزيارات بحثية عدة إلى هذه المنطقة، والتقت بالفاعلين الرئيسيين وممثلي الاتجاهات المختلفة المتوافقة والمتنافرة في إطار هذه الحركة. وبنت إشكالية بحثها على نظرياتٍ علميةٍ في أدبيات العلاقات الدولية، وأشرف عليها أحد أهم أساتذة ومنظّري العلاقات الدولية، وتعتبر كتبه مرجعية في هذا المجال. بعد يومين من دعمها الرسالة، كانت تسير بمحاذاة مقهى يرتاده "عظماء" الفكر النقدي ومحللي السياسات وزارعي القمر بالياسمين والزنبق ومخترعي الدولاب ومكتشفي القطبة المخفية وما وراء الأكمة من "النخبة" العربية في باريس. استوقفها أحدهم، وهو من معارفها السطحيين، ومن أهل منطقتنا الذاخرة بالمواهب المكتشفة وتلك الضامرة، ليسألها أن تشرب القهوة على مائدته. فقبلت الدعوة بسرور، وألقت بنفسها على كرسي مقابل لفخامته، وهي تشعر بالفرح لاهتمام أحد المعنيين نظرياً، ومتشجعة لكي تشاركه التفكير والرأي فيما يدور من أحداث، بدءاً من المقتلة السورية التي هو إليها أقرب، ووصولاً إلى حرب غزة الدائرة في حينها. سألها بدايةً عن أبحاثها الأخيرة حول الحركة المذكورة آنفاً، وطلب منها أن تعطيه رأياً بمسار الأحداث الدامية التي كانت تتعرّض لها، وكانت تشغل الرأي العام ووكالات الأنباء. فانبرت تشرح وجهة نظرها، مستندة إلى تخصصها وأبحاثها، مستعملة مفاهيم التخمين والنسبية والاستناد إلى نصوص وتحليل الخطاب، وكلها من أدوات الباحث الذي يحافظ على نسبة من الشك فيما يطرح، حتى لو كان متأكداً. فقاطعها "العالم" بكل شيء، من الاقتصاد إلى علم الفلك، ليشير اليها بتهكم إيمائي بأنها لم تفهم شيئاً من الموضوع، وبأنها لا تعرف عما تتحدث، وبدأ في سرد "الحقيقة" التي يملكها وحده، وبعيداً طبعاً عن أي اختصاصٍ أو تخصّص. فغادرته مسرعة ومحمّلة بما تيسّر من خيبة وغضب. "صديقنا" هذا ليس ظاهرة نادرة أو شاذة، إنه الظاهرة الأعم في وسط أترابنا العاملين في الشأن العام من صحافيين ومحللين و"خبراء" استراتيجيين، يسترسلون في الحسم والقطع والتقرير وامتلاك الحقيقة. فمن المألوف جداً أن نستمع إلى ما يهرف به بعضهم عن الأمور "الجسام"، وكأنه عرّافة الحي. يستخدم لغةً لا تقبل النسبية والتردد أو الشك. فهو "متيقّن" بأن الرئيس الأميركي، مثلاً، تحدّث في غرفة جانبية نافذتها مغلقة على اليمين، متطرّقاً إلى ضرباته القادمة ضد "الدولة الإسلامية". أو هو عالمٌ بأن المستشارة الألمانية وبّخت وزير خارجيتها، لأنه ركب الدراجة ذات صباح. أو أنه يعرف أن نتنياهو صفع سائقه، لأنه لم يقف على إشارة المرور. وكم من المحبّذ أن يكون ما ورد هو تهكماً أو جزءاً من كاريكاتورية المشهد، إلا أنه بالفعل جزء واقعي من المشهد. ما يدفع صحافيين شباباَ يستجوبون "المحلّل" بأن يصابوا بالخيبة إن أخطأ البعض وأجاب بشيء من التواضع وعدم التيقن. وإن وضع احتمالات عدة أو تطرق لسيناريوهات مختلفة، سينال منهم تلك النظرة التي يمكن ترجمتها بأنك تتهرب من الجواب لجهلٍ فيك. ولا ننسى طبعاً الخبراء العسكريين المنتشرين على الشاشات وعلى صفحات الجرائد، "ليقطعوا ويوصلوا" الجبهات والقوات والدبابات. تكاد تظنّهم في ساحات الوغى، أو هم في غرف عمليات تنبئهم بأدق التفاصيل. التخصّص ليس عيباً، وأن يعترف المرء بعدم إلمامه بموضوع، أو أن المطروح ليس من اختصاصه لا يُترجم نقصاً. إنما في الواقع، فالغالبية ترفض القبول بالتخصّص، وتسعى إلى أن تهرف بما لا تعرف، أو أنها تبالغ فيما تعرف جزئياً للبروز الإعلامي، ولو على حساب المهنية. تساعدها في ذلك احتياجات إعلامية متسارعة الطلب للمحللين والمعلقين. هذه "الأخلاقيات" تعني أصحابها ربما، لكنها، أيضاً، تؤثّر على رأيٍ عام يعتبر هذه "النخبة" مرجعية، ويستند إليها في حلّه وترحاله. فيعود إلى "أقوالها" في صولاته وجولاته، ما يخلق "ثقافة" فارغة من التحليل الصحيح، وتستند إلى يقينياتٍ ذاتيةٍ معرّاةٍ من أدوات التحليل، ومن توثيق المراجع، ومن منطق النسبية، ومن جرعة التواضع الضرورية في كل طرح. المغامرات المعرفية إن لم تكن ذات تأثير مؤذٍ، عدا على المعنويات، فهي شأن أصحابها. ولكن تتحفنا بعض الجلسات الحوارية بمن يحسم ليس في التحليل فحسب، بل في المعلومة التي بناءً عليها تُهدّد الحيوات، وتترصّد المخاطر بمصائر بعض الناس. وهذا، وإن كان باعثاً على الامتعاض، فهو يحتاج إلى التنبيه والإدانة. إن الإلمام بكل شيء، وحتى الإلمام بمجمل الشيء الواحد، ليس إلا محاولة غير ناجحة لإخفاء الجهل. وقد عانى المتلقي كثيراً من الثنائية "التآمرية" بين المادة "التحليلية" والوسيلة التوصيلية، فإن كان صاحب "اليقين" ومدّعي امتلاك الحقيقة مسؤولاً، فمن يمنحه الأداة التوصيلية مسؤولٌ أيضاً.