لا يزال اليمن يمر نحو المجهول كل يوم أكثر، بعد سقوط صنعاء بيد مليشيات جماعة الحوثي القادمة من أقصى الشمال، تغير وجه اليمن بشكل كامل، كان ذلك التاريخ نكسة لليمن لن يتعافى منها بسهولة كما يبدو. انتصار مليشيات طائفية انتصاراً بحجم إسقاط عاصمة ودولة ليس بالأمر السهل، ولن يكون كذلك، وهذا ما يبدو قائماً في اليمن، فتبعات النشوة الحوثية المنتصرة لا يزال اليمن يدفع ثمنها باهضاً، ولا تزال الأطماع الحوثية والفوضى مستمرة وتتصاعد دون أن يستطيع الباحث أو المحلل التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في البلاد. جغرافياً مازالت جماعة الحوثي تتمدد على حساب الدولة في المحافظات، حيث توجهت جنوباً من العاصمة صنعاء، ووصلت محافظاتتعز وإب، كبريات المحافظاتاليمنية سكاناً، والتي ليس للحوثي فيها تواجد مذهبي أو أنصار، وغرباً وصلت الحديدةالمدينة الساحلية والاقتصادية المهمة لليمن، وكان وصولها مصحوباً بمقاومة بسيطة من القبائل، وفي ظل ذات التواطؤ الرسمي الذي مارسته دولة الرئيس «عبدربه منصور هادي» في صنعاء وقبلها في عمران. في محافظة البيضاء في الوسط الشرقي من اليمن، خاضت الجماعة مع قبائل المحافظة مواجهات مرهقة ولا تزال، دفع الحوثي كلفة الحرب باهظة من رجاله، لكنه كما يبدو ليس عابئاً أو مهتماً بحياة من يستقدمهم وقوداً لحروبه المتعددة، أما قبائل المنطقة فقد دفعت ثمناً أكثر وأشد، من رجالها المقاتلين الذين واجهوا الحوثيين بالسلاح، ومن المدنيين والسكان البسطاء الذين وقعوا ضحية للاعتداءات الغاشمة. لا تزال منطقة رداع التابعة لمحافظة البيضاء ساحة مفتوحة ومحتملة للحرب كل يوم، وإلى ذلك تأتي الأنباء عن نوايا المليشيات للتوجه نحو الشرق، وتحديداً نحو محافظة مأرب الواقعة شمال محافظة البيضاء، وهذا معناه تطور خطير في مسار الأمور. محافظة مأرب هي أهم المحافظاتاليمنية تأثيراً على الاستقرار، ففيها يوجد أول حقل نفطي في اليمن، وكذا بها حقول غازية، إضافة إلى أن محافظة مأرب تحتضن على أراضيها المحطة الكهربائية التي تغذي العاصمة صنعاء وبقية المحافظات بالتيار الكهربائي؛ وهو ما يعني أن وقوع مواجهات سيعرض البلد للكارثة اقتصادياً، كما أن تمكُّن الحوثي من السيطرة عليها يجعل البلاد تحت سيطرته كاملة والشعب تحت رحمته! ولا يبدو أن لدى الرئيس «هادي» نوايا لمواجهة الأمر أو الحيلولة دونه حتى بطرق سياسية ودبلوماسية، حيث تسربت إلى وسائل الإعلام اليمنية ومواقع التواصل الاجتماعي وثيقة صادرة عن المكتب العسكري للرئيس اليمني، رداً على برقية عاجلة من محافظ محافظة مأرب، يشرح له خطورة الوضع، ويطالب بتدخل عاجل لتفادي الخطر. كان الرد الرئاسي – كما أوضحت الوثيقة المسربة – خطاباً للمحافظ وأجهزة الدولة، وخاطب أيضاً قبائل المحافظة، داعياً إياهم إلى حماية المحافظة، ومحملاً لهم مسؤولية الحماية؛ وهو ما يعني إعلاناً بعدم التدخل من قبل الدولة وتسليمها للعابثين، كما جرت العادة خلال العامين الماضيين! «القاعدة» في دائرة الاهتمام رغم ما أبدته الحكومة اليمنية ومؤسستها العسكرية والأمنية من تراخٍ واضح تجاه سقوط البلاد بيد مسلحي الحوثي، ورغم الصمت الدولي والتواطؤ عن التدهور المتلاحق للأوضاع في اليمن، وتمكن جماعة مسلحة من إسقاط دولة بيد عناصرها؛ فقد كان الحديث عن نشاط محتمل أو قائم ل«تنظيم القاعدة» يحتل الصدارة لدى الرئاسة اليمنية والتحالف الأمريكي بدعوى محاربة الإرهاب. الغريب ليس هنا، فمن المعروف أن نشاطاً عسكرياً أمريكياً قديماً تمارسه على الأراضي اليمنية بواسطة طائرات دون طيار منذ أيام الرئيس المخلوع «علي عبدالله صالح»، إلا أن الجديد هذه المرة هو وضوح صورة التحالف بين جماعة الحوثي والطيران الأمريكي تحت مسمى ملاحقة «القاعدة»، وهو الأمر الذي ظلت الجماعة المسلحة تعزف عليه طويلاً خلال السنوات الماضية، وتعتبره انتقاصاً للسيادة الوطنية لليمن، وتردد دوماً في شعارها عبارة «الموت لأمريكا»، لكن رأى اليمنيون في رداعالبيضاء أن الحوثيين يقاتلون في نسق واحد مع الطيران الأمريكي، ومؤخراً أوفد عبدالملك الحوثي، زعيم الجماعة المتمردة، ممثلاً شخصياً له إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لمناقشة قضايا غير معلنة مع الإدارة الأمريكية والبنك الدولي. الخطير في الأمر أن جماعة الحوثي تسعى لاستغلال التوجه الدولي لمحاربة الإرهاب بإطلاق تهمة «القاعدة» على كل من يقفون ضدها من أبناء القبائل والمناطق اليمنية. الاغتيالات.. والفوضى إضافة إلى التوسع المسلح للحوثي وإحلال مليشياته محل الدولة، ومحاصرة المجتمع من خلالها، شهدت صنعاء حادثة اغتيال أستاذ العلوم السياسية والقيادي الحزبي د. محمد عبدالملك المتوكل الذي عرف خلال الفترة الماضية برفضه حروب السلطة السابقة ضد الحوثيين في صعدة، وكان اغتيال الرجل السبعيني بمثابة صاعقة هزت المجتمع اليمني الذي أدرك أنها هدفت لخلط الأوراق، وفيما حاولت جماعة الحوثي استغلال الحادثة سياسياً ضد خصومها، فإن الإجماع بين القوى السياسية اليمنية على إدانة ورفض الجريمة كان مخيباً لآمال الحوثيين، كما أن أسرة الشهيد المتوكل رفضت أي تسييس للحادثة أو توظيف غير مشروع، وطالبت بتحقيق شفاف يكشف القضية، وهو للأسف الشديد ما لم يتم حتى اليوم. مدينة تعز وسط اليمن شهدت ثاني أخطر حادثة اغتيال سياسي منتصف شهر نوفمبر راح ضحيتها القيادي البارز في حزب التجمع اليمني للإصلاح (الحزب الإسلامي في البلاد)، الأستاذ صادق منصور الحيدري، الأمين المساعد لفرع حزب الإصلاح بمحافظة تعز، كبرى المحافظاتاليمنية سكاناً، من خلال زرع عبوة ناسفة في سيارته، ولم تسفر التحقيقات عن الوصول لنتيجة كالعادة. حكومة الشراكة الاتفاق البائس الذي وقَّعته القوى السياسية اليمنية عشية سقوط صنعاء في سبتمبر الماضي نص على تشكيل حكومة شراكة جديدة خلال شهر، وبعد طول تلكؤ تشكلت الحكومة من كفاءات اختارها الرئيس «هادي» ورئيس حكومته وزير النفط الأسبق خالد بحّاح بتفويض من هذه القوى. لا تزال الأمور كعادتها؛ الوزراء الجدد الذين انتقلوا إلى مكاتبهم محاطون بالمليشيات التي أسماها الحوثي «لجاناً شعبية» تتدخل في كل شيء يمس القرار وسيادة الدولة بشكل فج، والجديد أن الجماعة تمارس نهماً غير مسبوق في الاستيلاء على الوظائف العسكرية والمدنية في البلاد، وتغزو الأجهزة العسكرية والأمنية بالآلاف. وفي السوق اليمنية، تمارس الجماعة الطائفية المنتصرة حملات نهب وسرقة واستيلاء ظالمة على ممتلكات خصومها السياسيين وأموالهم، وتلاحق ما خفي عنها، وكان أبرز الملاحقين رجل الأعمال الشيخ حميد بن عبدالله الأحمر، القيادي في حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي فرضت على عدد من شركاته الرقابة، وبدأت مصادرة البعض، وتجميد بعض أرصدتها بأوامر سافرة من النيابة العامة وسكوت ورضا من الرئيس وأجهزة الدولة. «هادي» وحزبه عادت إلى السطح مؤخراً وبقوة الخلافات بين قيادات الحزب الحاكم سابقاً والنصف حاكم حالياً – المؤتمر الشعبي العام – ممثلة بخلافات الرئيس السابق «علي عبدالله صالح» الذي مازال رئيساً للحزب، وبين الرئيس الحالي «عبدربه منصور هادي»، الرجل الثاني في الحزب، على خلفية أطماع ومصالح الطرفين في السلطة والحزب، ومخاوف كل منهما من حضور الآخر وأطماعه. يحرص الرئيس الحالي على تسويق سلفه ورئيس حزبه للمجتمع الدولي المهتم باليمن كمعيق للانتقال في اليمن، وطرحه في قائمة عقوبات دولية؛ هادفاً لعزله من المشهد السياسي؛ ليضع حداً لإمكانية عودته أو نجله للحكم؛ وهو ما تجلى في إدراجه ضمن قائمة عقوبات عن مجلس الأمن الدولي غير واضحة المعالم. الرئيس السابق هو الآخر يسعى لمواجهة خلفه عبر أداوته الخاصة؛ حيث سعى لعقد مؤتمر حزبي الشهر قبل الماضي، وفي نفس يوم اتخاذ قرار العقوبات الدولية بحقه، خرج الاجتماع بقرار عزل رئيس البلاد من موقعه في قيادة حزبه وتكليف بديل عنه في أوضح صور الصراع بين الطرفين، ويرى مراقبون أن الصراعات بينهما تخدم في الغالب جماعة الحوثي المسلحة؛ حيث يسعى كل منهما إلى تقديم تنازل أكثر لها لضمان تحالفها معه في مواجهة الآخر. قرار العقوبات الأممي المشار إليه كان متوقعاً منذ فترة، والتسريبات الرائجة أنه سيشمل الرئيس السابق ونجله الذي كان قائداً لأهم وحدات الجيش اليمني، وكذا زعيم الجماعة المسلحة عبدالملك الحوثي وقياداتها. غير أن القرار الصادر أممياً اقتصر على اسم الرئيس السابق وأحد أشقاء زعيم الجماعة الحوثية، وهو اسم مغمور ولا يعرفه الشارع اليمني وشخص قيادي في الجماعة؛ ما دفع المراقبين للقول: إن صفقة تمت قبل القرار تم بموجبها تحييد الرجلين الأهم من العقوبة، نجل الرئيس السابق، وقائد الجماعة الحوثية.