المشهد اليمني مرشّح لمزيد من التعقيدات. فالحراك الجنوبي، الذي يُخشى أن يتحلل عن مرجعيته الإنسانية والأخلاقية كما تنبئ الإشارات الميدانية، يصعّد من مواجهته علانيةً، ويتحرّك بخطوات واسعة إلى الأمام في طريق ما يُسميه: استعادة دولة الجنوب. يرفع شعارات الانفصال بتنويعات شتّى تحت غطاء: الخروج من همجية النظام اليمني، وتخلّفه. وهو في الواقع غطاء ذو طابع رومانسي وحضاري في آن، بيد أن هذا الطابع الرومانسي لا يكفي لتبديد واقعيته المحتملة: قوة طرد عنصرية وشيكة! بمبدأ رياضي بسيط فإنه من المفترض أن يبادر النظام المتّهم إلى نسف الجذور الثقافية الكامنة وراء هذا السلوك المتصاعد. أي أن على النظام السياسي أن يثبِت لهؤلاء المنشقّين – إذا جاز لنا أن نسمّيهم كذلك – أنه ليس همجيّاً، ولا متخلّفاً. وبالمناسبة، فإن مصطلح "همجي" يستخدم في السوسيولوجيا للإشارة إلى الجماعة البشرية ذات الثقافة البدائية والسلوك الذي لا يخضع للنظام والقوانين.
السلطة اليمنية في صنعاء لن تفعل ذلك، إذ هي في الواقع ليس لديها فكرة واضحة عمّا يمكن فعله الآن أو في المستقبل. ويُخشى أن يكون تلامذة "ليفي شتراوس" قد نجحوا في تسويق مفاهيمهم حول إدارة البلاد: إن الشعوب لتدارُ بالكذب، وحسب. أما أضخم ما حصلت السلطة عليه لدعم أدواتِها وشخصيتها القانونية فقد كان سلّة من التصريحات الخليجية حول الموقف الخليجي الثابت والواضح من الوحدة اليمنية. ذلك الموقف الذي لم يكن قطّ ثابتاً ولا واضحاً. هكذا يمكن توصيف دورة حياة الكارثة في اليمن: في البدء تنكر السلطة وقوعها، ثم تعترف بها مع التقليل من خطورِتها ودرجتها. في تلك الأثناء تكون السلطة قد أكملت خلق الأعداء المتسبّبين، أولئك الأشرار الذين يتربّصون بوحدة اليمن واستقرارِه. سيحضر مكيافيللي في الوقت المناسب: لن ينتصر السياسي بالقوة فقط، بل بالخديعة أيضاً. في اليمن، على وجه التخصيص، لا يجيد السياسي غير الخديعة والقوة باعترافه نفسه. فمن حاصل ثلاثة شركاء رئيسيين في أول برلمان منتخب بعد الوحدة، تخلّص نظام ما قبل الوحدة في شمال اليمن من رفاقه الجدد: الحزب الاشتراكي بالقوة، وحزب الإصلاح المدني بالخديعة (استخدمت حزب الإصلاح مجرّد كارت، يقول الرئيس صالح). وورث اليمن منفرِداً، فاكتشف أن ألعاب الحواة والسيرك مع الثعابين، تلك الوسائل التي كانت ناجعة لبعض الوقت قبل نصف قرن، لم تعُد صالحة لعالم ما بعد 2000. وكان من الطبيعي أن تخرج مشاكل جديدة من جحور الماضي وغيابات المستقبل، فتربك النظام السياسي على نحو مذهل كما هو حاصلٌ الآن. نحن بصدد الكارثة الأكبر: أفول الجمهورية اليمنية، طبقاً لأحمد الفقيه. بيد أن النظام لا يزال يلجأ إلى الوسيلة المكيافيللية القروسطية: القوة، الخديعة. يُعتقد أننا أصبح لدينا جنوباً قتلى من الشمال وقتلى من الجنوب، موزّعون بين دلالتين: القوة والخديعة!
الغطاء الخارجي، المُدّعى، لموقف النظام السياسي من المسألة اليمنية يجابه بغطاء سياسي يدعيه الحراكيّون حول التزامات دولية في السر والعلن داعمةً لموقفهم الثقافي والسياسي. يُقال في الجنوب الكثير عن "همجية النظام السياسي اليمني وتخلفّه وعشائريته و... إلخ". تقفز هذه المقولات إلى خط المواجهة، مخلّقة عنصر إلهام عارم: مجابهة الفقر والجهل والمرض، العدو الذي ما فتئت ثورات العالم الثالث تقتله " فينسى أن يموت"! وما سيترتب على مقولات كهذه من محاولات تجري في الواقع، تبرّر ذاتها للإفلات من إسار هذا النظام والبحث عن دالة جديدة تنتظم الجنوب الجديد المستقل وتجرّره نحو المستقبل الآمن، كما يفعل كل أحرار العالم. وأبعد من ذلك: النصائح التي يقدمها قادة الحراك لمحافظات الشمال للبحث عن مخرَج، مهرب، حل عملي.. فالنظام السياسي بوضعيته الراهنة سيقود اليمن إلى "داهية" كما أعلن الجفري قبل أسابيع قليلة. وبالعودة إلى المبدأِ الرياضي المشار إليه في الأعلى كان من المتوقّع أن يثبِت النظام السياسي اليمني عكس ما يأوي إليه الحراك الجنوبي من مقولات سياسية وثقافية وأخلاقية. سيكون من الصعب عليّ أن أتخيل، على سبيل المثال، أن كلمة عبد العزيز عبد الغني في ذكرى رحيل زيد مطيع دمّاج كانت محاولة من النظام السياسي لتقلّد دور الشخصية الحضارية ذات الاهتمامات الثقافية والإبداعية العالية. والثقافة بطبيعة حالها هي أهم سمة من سمات الارستقراطية الأخلاقية، والإنتلجنسيا العصرية. إذ فضلاً عن أن كلمة السيد عبد العزيز عبد الغني امتلأت بترسانة من الأخطاء اللغوية والنحويّة بدرجة أكّدت لكثيرين أن الرجل لو كان قد قرأ على الأقل قصّة واحدة، الهيلُوكس مثلاً، من مجموعة " المدفع الأصفر" لدمّاج لما كان ارتكب ثلث هذه الأخطاء. فهو يقول في كلمته عن زيد : لقد كان "صاحب ملِكات"، بكسر اللام، وهو يقصد فتحها. وما يشي به عليه هذا الخطأ اللغوي من موقف غير أخلاقي بالمرّة تجاه الراحل قيد الاحتفاء – إذا جاز لنا أن نستخدم زلاّت اللاوعي الفرويديّة كأداة تحليل نفسي.. فضلاً عن هذا الانكشاف الثقافي، إلى النقيض المؤيد لمقولة الحكم الهمجي المسوّقة جنوباً، الذي ربما استغلّه مثقفو الحراك الجنوبي فإن ثمّة ما هو أوضح من هذا بصورة مذهلة. فهناك أفعال تمتاز بخزاناتها المهولة من الإيحاءات، بقدرتها القاتلة على الكشف والتجلية. لنأخذ هذين الموقفين في المقارنة: يقف وزير التعليم العالي في مؤتمر صحفي ليعلن جائزة رئيس الجمهورية للبحث العلمي. يا له من سلوك حضاري رفيع، قالت امرأة وغابت في الممر "اللولبي"! في نفس الوقت، ينطلق شقيق وزير الداخلية إلى مكتب وكيل نيابة شرق الأمانة بصحبة كتيبة من العساكر. يعلن وزير التعليم عن يوم العلم، في الثلاثين من يوليو، برعاية رئيس الجمهورية. ومن مكتب وكيل النيابة يعلن شقيق وزير الداخلية أنه سيلقّن " السفيه والطرطور" درساً لن ينساه، لأنه رفض الامتثال لأوامره غير القانونية – طبقاً لشكوى وكيل النيابة- بإحضار مواطن يمني مسكين يُراد له أن يكون مذنباً، بمعزل عن القوانين التي يناط بوزارة الداخلية حراستها، حتى يُمكن التصرف معه على نار هادئة. يفرك ناشطو الحراك الجنوبي أيديهم، وهم يقولون: يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز عسَل منّك.
في هذه الغمامة الهائلة يتدخل طرفان خارجيان : البنك الدولي، ومجلة الفورن بوليسي، الأميركية. يتحدث الحراك الجنوبي عن أحقيته في استعادة دولته، لأنه لن يستمر إلى ما لانهاية تحت وطأة حكم " متخلف وفاشل". فيرد عليه الأقوياء من صنعاء: ستستمر، يا جُحا، والحكم ليس فاشلاً ولا متخلّفاً؛ لكنكم أنتم المأجورون وقطاع الطرق الذين أعمتكم الأموال الخليجية عن رؤية التحوّلات الفارقة في محافظات الجنوب. الطرفان بحاجة إلى " بل الريق" بمساند خارجي، ويبدو النظام السياسي أكثر حاجة لذلك لأنه يخشى أن تنهِكه الأحداث في يوم ما، كما تخوّف عبد الرحمن الراشد في الشرق الأوسط. ذلك اليوم الذي يتوهّم أبناء الحراك أنهم أصبحوا على مشارفه وبرز رأس سنامه من بعيد. وقف البنك الدولي بين الطرفين منذ أيام، وأعلن: اليمن سيفشل في تحقيق أهداف الألفية بحلول 2015. وبالمناسبة: فإن أهداف الألفية الثمانية تشمل تعليم الإناث والقضاء على الفقر والبطالة والأمراض المعدية .. إلخ. بمعنى : ليس فيها كهرباء نووية، ولا قطارات الطلقة! أي أن النظام السياسي الراهن، يقول البنك الدولي، غير كفؤ لإدارة/ تحقيق هذه الأهداف بما يحقق الخير للفئات المقصودة، كما تفعل إدارتٌ أخرى في عديد من دول العالم يستهدفها المشروع. ولكي يدلل البنك الدولي على رؤيته بالأرقام، فإنه قدّم مثالاً مشعّاً : 40% من الأجيال الجديدة في اليمن لم/ لن يحصلوا على الشهادة الأساسية. و38% فقط هم من يحصلون على الشهادة الثانوية! رقم مهول، نسبة مفزعة، ومن المفترض أن تهتزّ لها فرائص أي نظام يحترم نفسه، وينظر بجدية للمستقبل اليمني، ويتعامل بمسؤولية مع المجتمع بحسبانه مجتمعاً حضاريّاً صاحب سلطة تاريخية وقانونية، ومالك حقوق طبيعية حتمية في التعليم والصحة والمعيشة.. لا بوصفه سوقاً يبيع فيه رجال النظام منتجات الشركات الكبرى عبر توكيلات وسمسرة وامتيازات أبعد من الخيال! أما مجلة الفورين بوليسي الأميركية الشهيرة، التي ينتظر العالم تقييماتها السنوية بصبر نافدٍ، فقد وضعت اليمن ضمن أربع دول عربية فاشلة تماماً – منذ أسبوع واحد فقط – بصحبة العراق، الذي تحكمه الحروب، والصومال، الذي يحكمه أمراء الحرب، والسودان .. أحد أسوأ الأنظمة العربية على الإطلاق! يا لها من رفقة طيبة! اعتمدت المجلة في تقييمها على 12 معيار حول الأمن والاقتصاد وحقوق الإنسان (ويعني فشل الدولة عدم قدرتها على السيطرة على أراضيها ولجوئها للقوة وفشلها في اتخاذ قرارات مؤثرة وعدم قدرتها على توفير الخدمات وفشلها في التعامل بفاعلية مع المجتمع الدولي، وعدم قدرتها على جمع الضرائب، إضافة إلى معدلات الفساد والجريمة). هل فينا من أحد بمقدوره أن يسخر من هذه المعايير؟
ما هو واضح ويمكن تحقيق إجماع حوله هو أن النظام السياسي يدير البلاد بطريقة لا تفتأ توفّر كل ذرائع التمرّد عليه، ثم بعد ذلك تتفرّغ الأجهزة الأمنية والعسكرية لمواجهة المتمرّدين! الحراك الجنوبي، والنموذج الحوثي، وحراك حميد الأحمر وسلطان السامعي الوشيكين، يغترف مبرّراته من هذه الدوّامة الكبيرة التي يخلقها النظام: الفقر والفساد والفوضى. إذ لا يمكن أن يُشار بالسبّابة إلى متورّط آخر غير أولئك الذين أداروا البلاد في لحظة دخولها في الدوّامة. لنأخذ مثالاً أخيراً: نشر موقع عدن برِس المعارض تقريراً حول نيّة السلطات الفرنسية حظر طيران اليمنيّة من التحليق فوق أراضيها. تاريخ هذا التقرير كان سابقاً لتاريخ سقوط الطائرة اليمنية بأكثر من شهر من الزمن. أشار الموقع، ضمن تقريره، إلى انشغال مدير عام طيران اليمنية بمؤسسته الجديدة: طيران السعيدة، مما أغرق مؤسسة طيران اليمنية في الفوضى طبقاً للتقرير. وبطريقته الخاصة أدان الموقعُ النظام السياسي اليمني الذي يتيح فراغاً هائلاً تتضخّم فيه عوامل الفساد والفوضى. بعد أربعة أسابيع سقطت الطائرة اليمنية في البحر، وانقسم اليمنيّون: هذا فساد، لا هذا قدر .. و غنّت لهم فيروز " شالك رفرف بالحارة عالنسمة شال.. هيدا لحلح، طيارة، لأ هيدا شال "!
من جديد: يفشل النظام السياسي اليمني في مواجهة دعاوى ومقولات ناشطي الحراك الجنوبي عمليّاً، ويتخوّف من أن يتجه إلى إسقاطهم أخلاقياً عبر وسائل مكيافيللية مرعبة . كما ولا يزال يمدّهم بتلك المبرّرات القاطعة، من قصص الفوضى والفساد، التي تمنحهم الإحساس بنبل المقصَد وقصر الطريق وحتميّة استعادة الدولة، طبقاً لمقولاتهم. وبين الطرفين تحضر السماءُ، كلّ يشدّها لطرفه. إنها معركة مقدّسة، إذن. يقول الحراكيون: سقط لنا شهداء، وسقط قتلى للاحتلال. فيرد عليه إعلام خالتي فرنسا: سقط مخرّبون، واستشهد جنود! وهكذا .. دواليب! أما نحن، الذين لا جمل لنا في الحراك، ولا حمارَ في السلطة المستفيدة من كونها سلطة، فنحن – كما يقول الجفري- سقطنا بين تطرّفين: تطرّف يريد الإبقاء على الفساد والفوضى، وتطرّف آخر يريد الانفصال! ويبدو أن كلاً منهما سيمد خصمه بمبرّرات سلوكه لزمن يتطاول في المستقبل. فلدى الحراكيين ما يكفي من المبرّرات، هكذا يزعمون. بينما يسعى النظام السياسي لاتخاذ الحراك قميص عثمان الجديد للإبقاء على الأوضاع كما هي، وتعزيز الفساد والفوضى والمحسوبيات وشراء الذمم وإهدار المال العام بذريعة: الوقوف صفّاً في مواجهة الخطر!