انتقل المجتمع التونسي، ثم المجتمع المصري، من السكون إلى الحركة الجماهيرية الموجيّة. من اللافعل، السلبية العدوانية، إلى الفعل الكامل: الإيجابية الصارمة. قبل أن تتشكل دوائر الغضب الصغرى اللانهائية، في مصر على سبيل المثال، على شكل موجة عالية المد، سريعة الترّدد، ضخمة الفولتيّة كان المجتمع المصري قد انزوى إلى ركن نائي انعزالي اتفق علماء النفس السلوكيون على تسميته ب «السادية الماسوشيّة». وهي حالة مركبة من نقيضين. فالسادية تعني الاستمتاع بتعذيب آخرين، بينما تنصرف الماسوشية إلى الاستمتاع بوقوع العذاب على الذات. يضيف السلوكيّون، من أمثال أحمد عكاشة، إلى هذه الطبيعة المنحرفة سمة ثالثة: السلبية العدوانية.PASSIVE-AGGRESSIVE PERSONLAITY DISORDER .. لسنا بصدد درس في علم النفس السلوكي، ومع ذلك فمن الملائم أن نشير إلى أن الشخصية السلبية العدوانية، التي كانت السمة الأبرز في الشخصية المصرية الحديثة بحسب السلوكيين المصريين، ظهرت عبر مجلى غير مألوف، نقيض-أخلاقي، هو النكتة السياسية الجنسية، وإهانة الملك العام. فالمجتمع الذي استكان تماماً بسبب الفعل الأمني الضاغط، طويل المدى، تشكلت لديه حزمة من الانحرافات النفسية-السلوكية، وجعلته يزيح عدواناته المتراكمة عبر عملية شديدة السلبية: الاعتداء على الحق العام، صراعات الأكثرية والأقلية، وصناعة النكتة الجنسية السياسية، الموجهة في الغالب على نحو رمزي أو صريح تجاه الطبقة الحاكمة. كان منسوب النكتة السياسية الجنسية في مصر يرتفع على نحو حاد. وكان الاستهتار بموضوعة الحق العام، الملكية العامة، قد بلغ أقصى ممكناته. حتى إن إشارة المرور الحمراء لم تعد تعني: توقف. وفيما يبدو فقد خرج الجميع عن السياق الوطني، رغم محاولات نانسي عجرم وشيرين. في هذه اللحظة الفارقة كان الجميع، أيضاً، يتواطئون على فكرة مبدئية: لا يمكن للمجتمع أن يستمر في المستقبل على هذا النحو. فلقد توافرت فيه عوامل تفكّك عالية القدرة التدميرية، أسماها أحمد عكاشة، أشهر النفسانيين المصريين، بثقوب الضمير في كتاب حمل العنوان نفسه. وعلى طريقة أبطال المأساة خرج الشعب المصري عن بكرة أبيه لكي يدمّر الحواجز. التقى الجميع في الميادين، وكأنما تذكروا لأول مرّة كم أنهم مصريون، وكيف أن هذا البلد المخطوف هو بيتهم الأم. في مثل هذه الظروف السلوكية والنفسية المعقّدة، التي هي انحرافات ناشئة بفعل الضغط السياسي طويل المدى، لم يكن ثمّة من طريق أمام هذه الكتلة البشرية الضخمة سوى نسف الحواجز واستعادة التاريخ، أو: استلام المستقبل برمّته، بكل عفشه وعلاماته. يجوز أن نتحدث عن المجتمع التونسي بمثل هذه الطريقة. ويمكننا أن نلخص فكرة كهذه على نحو أكثر بساطة: لقد خرج المجتمعان من الهامش إلى المركز، كتلة واحدة. احتلوا المركز. كان ميدان التحرير مجرّد رمز عملياتي لصورة العبور هذه. في اليمن كان الخروج مشابهاً، ولكن السياق النفسي والسلوكي كان مختلفاً. تشابهت المقولة السياسية لكن جماعة العبور الكبير لم تكن على تلك الدرجة من التفكك والحيود السيكولوجي كما كان الحال في تونس ومصر. فعلى مدى 20 عاماً واليمني يخوض في النشاط السياسي على طريقة صموئيل كوليردج في قصيدة البحار القديم: ماء في كل مكان، ولا قطرة للشرب. كان النظام التونسي يدمر المعايير السلوكية عبر شبكة الخوف التابعة له، لكنه كان أيضاً يبني الكورنيش والكفتيريا الجامعية، ويحتفي باللباس النظيف. على هذا المستوى الخارجي المخادع أمكن أن يقول الفنان المصري محمود ياسين في احتفالية سنوية لنقابة المهن التمثيلية، 1999، للرئيس مبارك: لقد صنعت من مصرَ نمراً اقتصاديّاً حقيقيّاً، متجاوزاً أخطاء الأسيويّين. وكان شيراك يقول عن تونس: إنها المعجزة. لكن اندفاع الكتلتين البشريتين في مصر وتونس تجاه حواجز النظام وآلياته التحكمية كان عنيفاً، طغيانيّاً، بحيث تعذر معه القول: إن هاتين الموجتين العاتيتين قدمتا للتو من «حديقة النمور والمعجزات». لقد كان واضحاً أنهما خرجتا من نارٍ على تَل. كان غرق عبّارة المسافرين المصريين في البحر الأحمر مجرّد مزمورٍ جنائزي صغير يقول الحقيقة الكاملة. وأصبح مؤّكداً، قبل أن يتنحى مبارك بلحظات، أن هذه البركة الضخمة من البشر التي تملأ الميادين والأزقة هي أولئك الذين ماتوا في اليمّ في ليلة بائسة لم تحُل دون أن يحضر مبارك مباراة كرة قدم في ستاد القاهرة. أسند كتفه إلى كتف سوزان ثابت، وهي تشاهد الماتش بحنان، بينما أسند أقارب الضحايا خدودهم إلى منزلة من الدموع والتوهان. كانت القشات التي بمقدورها أن تكسر ظهر البعير قد تجمعت مرّة واحدة، وبدلاً عن أن تكسر ظهره فقد سلخت جلده وعظمه، وجعلته أحاديث. عشرون عاماً وصالح يوهم المجتمع اليمني بالصورة: صندوق الانتخابات. خضعنا لواقعية لعنة عمدة لندن السابق «ليفنغشتاين»: لو كانت الصناديق في العالم الثالث يمكن أن تغير شيئاً لكانوا قد ألغوها منذ زمن. لكن الشعب اليمني، تابعاً لطبيعته العنيدة وغريزته الأسطورية في التحدّي، كان يقول لنفسه: غداً سنهزم حزب صالح. كان المشهد: نظام صالح الطفيلي يستحوذ على المستقبل والماضي من خلال جماعة أوليغاركية طفيلية عبر إجراءات شكلانية مهمّتها تعزيز شرعية اللاشرعي الوحيد. وكانت الجماعة البشرية، بما فيها التنظيمات السياسية الاحترافية في اليمن تسمح لنفسها بالقول: إنه عملُ حزب سياسي. حتى إن حزب الإصلاح نسب هزيمته في انتخابات 1997 إلى قوى فوقية قدريّة. وفي برامجه الخاصة بالتربية الأخلاقية والتأهيل السلوكي كان الحزب يقول لأعضائه: بما كسبت أيديكم. بالرغم من أن القيادة السياسية للحزب تعلم جيّداً أن هزيمة الحزب أمام جماعة صالح حدثت لسبب آخر، وهو أن أياديهم لم تكن تكسبُ شيئاً! باستثناء تلك اللقطة الفاترة: إصبع في زجاجة، الزجاجة كلها حبر، وكرّاس الأسماء بلا ذمّة ولا ضمير.
عندما يتحدث الطب النفسي السلوكي عن مفهوم إزاحة العدوان Hostility displacement فهو يتيح مجالاً للإشارة إلى مثل هذه المتتاليات والظواهر. فبمقدورنا القول إن منسوب العدوان لدى الضمير الجماعي اليمني كان أقل منه لدى المجتمع المصري، على سبيل المثال. فمنذ وقت مبكر كتم النظام المصري أنفاس المجتمع، وأظهر لهم تلك الحقيقة المبكّرة: أنا، فقط. لكن النظام اليمني ظل يخادِع، ويناوِر، ويعزز شرعيته بطرق شديدة الالتواء والخطورة تتيح له عملية الاستحواذ لكنها أيضاً تظهر الفرد اليمني كما لو كان مشاركاً حقيقياً خسر بسبب سوء حظوظه. في الشوط الأخير أدرك الجمهور اليمني هذه الحقيقة ولكن عبر «يقين سياسي» أكثر منه من خلال عمليات نفسيّة معقدة. خرجت الكتلة اليمنية إلى الميادين تحت مقولة سياسيّة بلورتها في جملة شديدة الوضوح واحتشدت حولها بحضارية مبهرة. كانت الصورة في مصر أشد تعقيداً من ذلك. لقد تبلورت الجملة السياسية، هذا أمر صحيح، لكنها كانت أيضاً طافية على موجة تسونامية هائلة من العدوان والكراهيّة. يضمر اليمنييّون الآن في قلوبِهم رضا حول فكرة عدم محاسبة الرئيس، الذي لا يزال يقتلهم ويلعنهم. بينما يحاسب المصريّون رئيسهم ويجرونه إلى المشنقة، وهم يرون «حرمه» تسقط فريسة جلطة في شرايين القلب التاجية. وفي الأيام الثلاثة الأولى للثورة أحرقت الجماهير غالبية عربات وأقسام الشرطة في مصر. أما اليمنيّون فإن أكثر ما يفكرون بعمله هو كتابة تلك الجملة الساحرة: مغلق من قبل الشعب، على الأبواب. لقد أخرجهم الوعي السياسي لوحده. أعني ذلك الوعي الذي استطاع أن ينجز شرحاً مفصّلاً وتكتيكياً لأسئلة اليمني المعاصر: ما الذي جعلنا على ما نحن عليه؟ ولهذا يتأخرون الآن في الإقدام على خطوات أكثر عنفاً وراديكاليّة. يعبرون على طريقة المتنبي: على قلق كأن الريح تحتي، لأنهم يريدون أن يديروا معركتهم مع النظام بطريقة شبيهة بطريقته وبخسارة أقل. كان صالح يستحوذ على الصناديق ويعزز شرعيته الميّتة دون أن يكترث لما يمكن أن تقوله الجماهير، غير عابئ بالطريقة التي يمكن أن تنظر بها فيما بعد لهذه الشرعية المكتسبة. بالنسبة للجماهير، فقد خرجت أخيراً لتسترد الشرعية والصلاحية رغماً عن أنفه، دون أن تكترث لما يقوله من تخوين وتهديد وسباب. قلبت المشهد الذي اخترعه صالح، وغنّت أغنية سيرانو دي براغراك، في رائعة الشاعر لإدمون روستان: لكنني في اللحظة الأخيرة أفوز. وعلى طريقة ماجدة زكي في مسلسل «حقي برقبتي»: وكما قال «آراغون» اللي يلعب الدّحْ ما يقولش أح!