(1) لن نقول كما قال الرئيس (سابقا) علي عبدالله صالح يوم التوقيع على المبادرة الخليجية في الرياض (التوقيع مش مهم.. المهم ما بعد التوقيع).. ولكننا نقول عما جرى يوم الثلاثاء الماضي عندما وافق ملايين اليمنيين على اختيار (عبدربه هادي) رئيسا توافقيا لليمن.. نقول: ما حدث مهم ومهم جدا.. لكن ما بعد ذلك هو الأكثر أهمية بما لا يقاس أبدا.. فما قبلها كان أشبه بكلمة (النهاية) توضع في نهاية أي شيء.. لكن ما بعدها هو البداية بكل ما فيها من أثقال التأسيس ووضع الأسس السليمة لبناء اليمن الجديد.
ما قبل الانتخابات الرئاسية المبكرة انتهى.. والمهم الآن هو ما بعدها، وسر الأهمية هو ألا تتكرر أخطاء المحطات الفاصلة في تاريخ اليمن المعاصر بأخطائها وشطحاتها، وأنانيتها، وجنونها وصولا إلى تكرار (المآسي)!
محطات عديدة مرّ بها اليمنيون ضاعت فيها البوصلة الهادية إلى بداية الطريق الصحيح لنهوض الوطن والشعب، واستعادة حقه في أن يعيش كريما بين الشعوب المكرمة من حكامها وليس كالشعوب التي كان حكامها يخادعونها ليل نهار بأنها تعيش تحت سلطانهم حياة الكرامة والعزة والحرية.. ثم إذا بهم يكتشفون الحقيقة وأنها كانت حياة الوضاعة والذلة والعبودية!
(2) محطات عديدة ضاعت فيها فرص تاريخية؛ ولو حسبناها فقط من يوم نجاح ثورة 26 سبتمبر وثورة 14 أكتوبر وما تلاهما من محطات لشكلت معرضا مأساويا للفرص الضائعة.. لكن للإنصاف فإن كل تلك الفرص في كفة وفرصة 22 مايو 1990م في كفة أخرى.. فالفرص السابقة جرت وقائعها في أجواء عامة وخاصة تمتد أمامها طرق للسير ليس من بينها طريق واحد كان واضحا ومحددا في الحديث عن التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، وإشاعة الحريات العامة، وضمان الحقوق الأساسية للإنسان.. على العكس مما كان الحال عليه يوم (22 مايو 1990) عندما كانت هذه المبادئ والقيم معلنة نظريا ومثبتة وواضحة في الدستور والقوانين، وفي الأحاديث والالتزامات العلنية للحكام، ورائجة في كل وسائل الإعلام الحكومية والحزبية والخاصة! وكذلك كان الحال غالبا في العالم الذي ولج إلى زمن نظام عالمي جديد قيل للبشر إنه يقوم على هذه المبادئ، ويقيس المقبول والمرفوض في علاقاته وفقا لها وبها.
لا مجال للمقارنة بين فرصة (22 مايو 1990) وما سبقها من الفرص.. لكن المآل كان أشبه بما سبق إلى حد ما في مصير السلطة، وإن كان المختلف الوحيد هو أن الشارع اليمني كان أكثر وعيا بالمبادئ والقيم التي تعرضت لتفريغ مضامينها الحقيقية، وتم استبدالها بنظام جديد ظاهره الديمقراطية الكاملة وحقيقته إعادة إنتاج لعهود الشمولية السابقة التي أثمرتها الفرص الضائعة القديمة.
ولا مجال للمقارنة – أيضا- أن فرصة (22 مايو 1990) كان يمكن أن تضع اليمن واليمنيين على الطريق السليم لتصحيح الأخطاء الكارثية للفرص السابقة؛ لو أن القوتين المهيمنتين آنذاك كانتا صادقتين في حديثهما عن القبول بالديمقراطية ومستحقاتها، وحرصتا على تأسيس دولة الوحدة تأسيسا صحيحا ولو دفعتا كلتاهما الثمن من احتكارهما للسلطة وكل مقومات الدولة، وتخلصتا من عقلية: أنا الدولة.. والدولة أنا.. وكان يمكن لهما التسامي على الأنانية والتعلم من تجارب الفرص الضائعة بأن يحرصا على أن تكون البداية الجديدة سليمة من اليوم الأول (بأن يجعلا الفترة الانتقالية فترة تأسيس نظام دستوري سليم وحوار حقيقي كما يرجو اليمنيون أن يحدث الآن).. لكن للأسف الشديد؛ تكرر في فرصة 22 مايو 1990 ما حدث في المحطات السابقة حيث يؤسس القابضون على السلطة دولة لذواتهم وليس للشعب. وإلى حد كبير كانت النهاية متشابهة لدى الطرفين؛ مع فارق التوقيت، ومع فارق الوسيلة، ومع فارق المنتصر، ومع فارق الهدف؛ ففي التوقيت؛ كان فارق 22 عاما أخرى تاه فيها الطريق وطال.. وكان لامناص من حرب أهلية ثم ثورة شعبية لإعادة تصحيح المسار!
وفي فارق الوسيلة فقد كانت هذه المرة ثورة شعبية سلمية وليس انقلابا عسكريا ولا انقلاب قصر، ولا حركة تصحيحية، ولا ثورة مسلحة ولا حرب أهلية.. ولا أي شيء آخر مما عرفه تاريخ اليمنيين. وفي فارق المنتصر؛ فقد كان المنتصر اليوم بإذن الله هو مجموع الشعب وليس حزبا، ولا مذهبا، ولا قبيلة، ولا منطقة ولا فردا.. فالجميع كان مشاركا في الثورة، وفتح طريقاً جديداً للمستقبل، يستوعب الجميع وهو الشرط الذي به وعليه وله قامت الثورة الشعبية السلمية.
وأما فارق الهدف؛ فقد كان من أسباب الصمود والانتصار في الثورة الشعبية السلمية أن الهدف منها لم يكن انتصاراً لنظرية سياسية محددة، ولا لتوجه أيديولوجي معين.. بل كان واضحا من البداية أن الهدف هو تصحيح أخطاء الفرص الضائعة، وإعادة بناء يمن جديد غايته إقامة العدل والمساواة، وضمان الحريات للجميع، وإنهاء أزمة السلطة واحتكارها. والوسيلة إلى ذلك: الحوار بين الجميع – حتى المجانين سياسيا والضالين فكريا- للاتفاق على تفاصيل الآليات التي تحقق إقامة النظام العادل الذي يحمي الجميع من بعضهم، ويوفر شراكة لهم جميعا دون إقصاء أو تهميش!
(3) هذا الحوار حول الدولة الجديدة الذي يفترض أن يحدث في المرحلة الانتقالية الثانية هو الذي كان يجب أن يحدث في محطة (22 مايو 1990) لو كانت النيات قد صحت في إعادة السلطة إلى الشعب.. ولكن حدث ما حدث، وركب كل طرف رأسه وأصر على رأيه محتميا بالحديد والنار.. وها نحن أولاء بعد 22 عاما نعود إلى نقطة الصفر، أو محطة الانطلاق من جديد هذه المرة، ولكن بعد أن تخلصنا من الأصنام البشرية؛ فاليوم لا يمكن أن نسمح لأحد أن يقول إنه هو الأصل والفصل، وهو الرائد والقائد والمؤسس، وهو الذي ضحى وبذل وتحمل، وما يريده يجب أن يكون وعلى الجميع الموافقة عليه، وما لا يريده لا قيمة له.. وهذا السيف وهذا الميدان، ومن كذب جرب!
اليوم نبدأ بداية جديدة.. وحين نختلف حول تفاصيل وآليات، ويعجز الجميع عن شيء منها فأمامنا الشعب نعود إليه في انتخابات أو استفتاءات حرة ونزيهة ليقول - أو يقول ممثلوه في البرلمان- رأيه في هذا المختلف عليه؟ من اليوم؛ لا قداسة لبشر بيننا، ولا قداسة لحزب، ولا قداسة لتجربة ماضية، ولا قداسة لفكرة بشرية أو لرأي إنسان، أو مجموعة، مهما كان موقعه ومهما كان إسهامه! اليوم الشعب هو الذي يولي حكامه، ويحاسبهم، ويعزلهم في انتخابات حرة ونزيهة.. ولو كانوا من الذين ناضلوا سنوات طويلة.. أو بذروا بذور الثورة.. أو رعوها وسقوها.. أو كانوا من أوائل الصارخين ضد المظالم والأخطاء.
اليوم: لا قداسة لبشر؛ ولا حصانة لأحد؛ ولا امتياز خاص ليمني؛ من اليوم؛ فليخلع الجميع أردية القداسة البشرية، والحصانة الظاهرة والباطنة.. وليعلموا أن المسؤول هو أجير لدى الشعب؛ والأجير والأجراء يبحثون فقط عن السلامة وإتقان عملهم خوفا من صفعة على الظهر.. أو كما يقولون: خوفا من انتخابات نزيهة تطيح بهم من كراسيهم إلى البيوت إن كانوا محظوظين.. أو إلى ساحة القضاء إن كانوا قد لعبوا بذيولهم!
* للتأمل: رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أعرابي) من بني مذحج عليه قباء كسرى وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفاه فقال: (الحمد لله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه)..