كشفت المهاترات الأخيرة بين المثقف ورجل الدين عن تقليدية كليهما إذْ لا يقل المثقف تقليدية عن رجل الدين؛ لأنه يمارس نفس فعله الإقصائي ويتعمد الإلغاء والنفي تماما، ففي حين يمارس رجل الدين فعل التكفير فإن المثقف يمارس فعل التشويه والشتم والتهجم على رجل الدين.. كلاهما يؤكد عبر هذه الأفعال أنه غير قابل للتعايش والتسامح ناهيك عن إلغائه لفكرة التعدد والمغايرة وذلك يجسد انتهاك كل منهما حرية الآخر الشخصية والعامة.. أثبت المثقف بذلك وبما لا يدع مجالا للشلك أنه أشد سلفية من السلفي نفسه، فهو لم يثبت للآخر أنه أكثر تتسامحا وإنسانية، بل أثبت أنه أكثر عدوانية لفظيا على الأقل، وفي أحيان كثيرة أثبت أنه على استعداد للقيام بممارسة العنف المادي إن توفرت له الظروف.. من وجهة نظري أن رجل الدين بحاجة إلى مثقف إشكالي على وعي كبير بحساسية المواقف والأفعال وردود الأفعال الناتجة عنها كي يساهم في عملية إخراج رجل الدين من عزلته اللانهائية المركبة، فتلك تعد مهمة المثقف دون غيره لكن أي مثقف بإمكانه القيام بهذه المهمة!! وهل سينجز المهمة مثقف أكثر عزلة وبؤسا وعدوانية من رجل الدين؟! لم يعد خافيا على المتابع الحصيف أن المحيط الديني مليء بمن لا علاقة لهم بالأمور الدينية كالفتاوى مثلا كما لم يعد خافيا أن المحيط الثقافي مليء بالكائنات الدخيلة، فالدخلاء على الطرفين يزيدون اتساع الفجوة الهائلة ويعمدون عن جهل أو عن خبث إلى زيادة الطين بلة للأسف. وكما اختلط الحابل بالنابل من زاوية الكائنات الدخيلة على المحيطين الديني والثقافي فإن ثمة أسبابا لا يمكن إغفالها البتة فثمة عاملان محوريان منها أولهما الأدلجة وثانيهما الارتزاق، فلا يمكن إنكار مسألة طغيان النزعة الأيديولوجية والسياسية على رجل الدين في كثير من الأحيان كما يتضح من معظم فتاواه وهو ما جعله ينحرف عن مساراته الصحيحة فنفر منه الآخرون وتخندقوا للدفاع عن ذواتهم من تكفير محتمل أو محقق وما سيترتب عليه من محاكمات وملاحقات قانونية وقضائية.. كما لا يمكن إنكار وجود السماسرة وتجار الأقلام داخل إطار المجال الثقافي بالإضافة إلى هواة ينقصهم الوعي الإنساني وباحثين عن الشهرة عن طريق ما سيصدر من فتاوى، فأصبح كل شيء حينئذ فاقدا للمعاني والقيم وجعل كل ما يقوم به رجل الدين مدعاة للسخرية، وبالمقابل كل ما يقوم به المثقف مدعاة للاشمئزاز والشفقة.. لأن كليهما ينطلق من أهداف شخصية بعد أن انحرف عن مساره الصحيح. هل سيؤدي المثقف دوره التنويري النابع من أعماقه المسئولة بدلا من الفعل الهلامي الذي يقوم به بناء على مصالحه المادية التي يرغمه على ممارستها الطمع وضغط الحاجة في معظم الأحيان؟ وهل سيؤدي رجل الدين دوره كقطب تنويري أيضا بدلا من ممارسة فعل بوليس الآداب والنزول إلى بؤر ضيقة من أجل الصراعات الصغيرة مع كاتب أو فنان ما من أجل رأي أو فكرة أو وجهة نظر؟ ينبغي أن يعي رجل الدين أهمية ودور المثقف وبالمقابل ينبغي أن يعي المثقف أهمية ودور رجل الدين، وعليهما معا أن يكونا أسوياء، فلا يمكن لكائن فاقد للأهلية أن ينجز فعلا سويا.. والفعل المختل لا معنى له ولن يقدم سوى الخراب.. فمن المؤكد أنه لا يمكن اكتمال دورة الحياة برجل الدين وحده، أو المثقف وحده، ولا يمكن أن يجتمع هذين في سياق التنوير الإنساني طالما وهما يتلبسان لبوسا تقليدية صرفة ويعمدان إلى الإقصاء والتغريب والنفي، كمان أن النزعة العدوانية التي يعملان على بثها في أوساطهما ضد بعضهما ستعمد على توسيع دوائر الغربة بينهما وإذا اتسعت دوائر الغربة وتكاثرت ستظل الحلقات مفرغة ولن يفيدا المجتمع في شيء.