من يرى السياسي العربي يدافع عن سياسته، ولا يقبل وجهة نظر الآخرين، بل ويهاجم ويخطف وربما يقتل كل المختلفين معه أو الواقفين في خندق آخر يدرك حجم الخلل (العميق) الفكري والثقافي والسياسي الذي نعاني منه نحن العرب والمسلمين حكاماً ومحكومين. السياسي العربي متمترس وراء فكرته يضغط الزناد على كل من يخالفها أو يحاول تفنيدها أو يحاول طرحها تحت مجهر العقل والمنطق السياسي المتفق عليه تماماً كحق مقاومة الاحتلال..
من السياسيين العرب، من يكون وحش ضاري يفترس كل من يختلف معه خاصة لو كان من أبناء جلدته أو عمومته أو من يشتركون معه في الدين والعرق واللغة.. وحمامة وديعة مع كل من يسلبون حقه وليس رأيه فقط وينهبون ممتلكاته ويجرحون في كرامته ويسوون به التراب..
السياسي العربي يصنع هذا وهو طائر ظل طريقة ولا يعرف أين يحط رحالة، يتصرف بإرادة الآخرين، ويشتغل على وتر التصريحات والمقابلات والحوادث، وليس له حق بمعرفة المعلومات أو زيارة أرشيفها.. فلا حرية في بلده ولا أمن.. لا نظام في وطنه ولا قانون ..
أدرك كم أن السياسي العربي مجروح ومصادر حقه، ويحس بأن لعنة التاريخ تطارده بالإضافة إلى لعنة الجغرافيا، وأدرك كم هو غير عميق وغير دقيق في كل تصوراته لأمور السياسية حيث كل أمور السياسة ليست في يده هو فقط ينتظر الخبر ليعلق عليه ويفنده، يوافق عليه أو يعترض عليه، أدرك كم أن إحساسه بعدم الفاعلية بعدم الجدوى أحياناً يجعله أكثر عويلاً من غيرة، أكثر تأوهاً ممن سواه، أكثر تحسراً ممن عداه، ما أصعب أن تتخبط أي أحد المواقف والأحداث يمنة ويسرة وهو عاجز عن التدخل فقط يسير مع الريح ويطير مع الغبار ..
السياسي العربي مجروح حقاً وهو معذور وغير معذور فمن يقل أو يبدو للعيان أنه سياسي ويقول انه غير مجروح، الجرح عميق، والنزف طال أمده، والاستبداد والتوريث والقهر سمة تتصف بها الحكومات العربية، والأشلاء في كل هذا العالم عربية وإسلامية، والواقفين وراء القضبان ليحاكموا من قبل هذا العالم هم عرب ومسلمين،ومن يتكبدون المخاطر ويخضعون للتجارب العلمية الغربية.
عرب ومسلمين، ليس لأنهم اقل آدمية لا.. ولكنهم أقل فهماً للسياسة وأقل إدراكاً لمعناها وكينونتها، وأكثر فهماً للتبعية والانقياد، وأكثر قدرة على العمل دون فهم، والتصرف دون وعي. لكنهم قد يكونون أقل آدمية في نظر حكوماتهم وأنظمتهم.
ليس هذا من باب جلد الذات المجلودة أصلاً، ولكنه من باب التشخيص للمرض ومحاولة لإيجاد تبرير لهذا الوضع الذي نعيشه ولا نملك تغييره، أليس من المحرج أن نقول أننا لا نستطيع تغيير نمط عيشنا؟ أليس من المعيب أن نصل إلى حال لا نملك فيه قرارنا ؟ أليس هذا حال يصبح فيه العار عارياً حسب وصف الدكتور عزمي بشارة.
السياسي العربي إما واقفٌ على باب السلطان، أو رئيس لحزب سياسي يدافع عن فكرته، أو عضو من أعضاء التنظيمات السياسية، أو متحدث باسم نظام يمثله رئيس لا يفهم من السياسة إلا اسمها، أو قابعاً في أحد سجون هذه الدول العربية والإسلامية والتي تجاهر بسجن الناس ومصادرة حرياتهم، أو مخطوفاً لأنه قال رأي أو نشر مقال أو تحدث عن فضيحة من فضائح الخاطفين، أو مجنوناً في أحد الشوارع نتيجة التعذيب سواء البدني أو النفسي والذي يتمثل في الحالة العامة التي يعيشها الناس، أو لاجئاً في أحد الدول الغربية التي تتشدق بحرية الرأي وهي صادقة أحياناً، أو كاتباً لا تنشر كتبه إلا بعد أن يكتب وصيته، أو شجاعاً بأسماء وهمية غير حقيقية .
السياسي العربي يمشي وروحة على كفه، ووصيته في جيبه، وكفنه على ظهره، يخرج من بيته وأولاده يبكون ويدعون الله أن يكتب له العودة، يجلسون دائماً إلى جانب التلفاز ويهرعون جميعاً عند كل رنة تلفون، يفرحون كثيراً عندما يفتح الباب عائداً، وكثيراً ما يأخذون إليه أكله وملبسة في السجن، نادراً ما يرونه مبتسماً فهو دائماً يحمل هم القول ووجع الكلمة، وكثيراً ما تضطهده السنين كما تضطهده الحكومات .
مسكين هذا السياسي العربي لا يرى شيئاً لوحده، ولا يصنع شيء لنفسه ولا لمجتمعة، يتهم من قبل كثيرين بأنه متشدق وصاحب مصالح حتى وإن كان غرضه شريفاً ويريد صناعة حياة أفضل لهذه الشعوب التي تعودت على حياة البؤس والفقر والتخلف، ويتهم من قبل آخرين أنه من أجهزة الأمن "المخابرات"، فلا يأمنه احد ولا يصارحه احد خاصة لو كان من العامة ويلبس لبسهم ويتعاطف معهم، ويتهم من قبل كثيرين بالجنون والخروج عن نطاق المعقول.
السياسي العربي يمشي على الجدران، ويخاف من كل من يمشي في الشارع، يتوقع كل شيء من المارة، إذا خاطبه أحدهم يجيبه بفزع ويرد عليه بسرعة تدل على الخوف والقلق، يخاف ان يمشي في الممرات الليلية، ولا يحضر السهرات، يخرج كالعصفور صباحاً ويعود مثله في المغرب، لا يملك إلا مكتبه وقلمه والجدران إن كان ثمة مكتب، ليس لديه طموح سوى أن يبقى حياً ليربي أطفاله ويعلمهم كما يريد أي سياسي يدرك أهمية التعليم في تقدم الأمم ورقيها، لا يسأل من الله سوى الميتة الحسنة ربما لأنه من تجربته يدرك أن الميتة البشعة هي قسمة السياسي العربي إما اغتيال سياسي أو هجوم انتحاري سببه فكر أو رأي،أو خطف بدون عودة،أو سيارة تعتريه بالخطأ ليخرج المتهم بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
السياسي العربي يتأوه دائماً من حاله، يشقى وهو لا يعرف لماذا، يتساءل دائماً لماذا لم أكن نجاراً ؟ أو حدادا ؟ ً أو فلاحا ً؟، لماذا أوجع رأسي بكل هذا ؟ وبكل هذه المتابعات والتنقلات، صحبته لا تدوم، وراحته لا تكاد تستمر لساعة، شغله الشاغل الخبر وهمة الكبير تحليله وتفسيره.
اللعنة الكبرى تصيب كل من يمارس السياسة في العالم العربي ويطرح رأيه بموضوعية وصدق .. أما السياسي الزاحف سوف تصيبه لعنة لكنها أخف من سابقتها بكثير.
ولعلم السياسي أنه في السياسة ليس هناك شيء ثابت فالكل خائف ومدجن من يزحف ومن يمشي على الجدران.