لأنها كثرت وتعددت، وصارت ذات قالب رسمي؛ فلم يعد للأعياد الوضعية والأيام العالمية تأثير ذو بال في حياة الناس.. ولم تعد أعياد أو أيام الشجرة، والأم، والعمال، والفلاح، والمرأة تثير اهتماماً كبيراً أو قليلاً.. وزاد الأمر بلة ازدياد الأيام العالمية لكل شيء تقريباً؛ مثل الأمراض الخطيرة بكل أنواعها (عافى الله الجميع منها)، والخدمات العامة مثل البريد، والتعليم، والماء، والمرور، والاتصالات.. ويخلق ما لا تعلمون! ومن نافلة القول أن كثيراً من هذه الأعياد والأيام العالمية والمحلية قد نالها شيء من سخرية الناس واستخفافهم؛ وخاصة عندما تتبناها بحماس سلطة حاكمة غير شعبية ولا محبوبة.. ويتمنى الشعب لها مصيراً أسود من.. يوم القيامة نفسه! واليوم العالمي للمرأة هو أحد هذه الأيام التي ابتليت بالمناكفة السياسية والحزبية، ولا تشعر به عموم النساء اليمنيات، ويريد البعض أن يجيّره لأجندته الخاصة في صراعاته الفكرية العشوائية مع الإسلاميين خاصة، وتبييض ماضيهم المؤسف مع المرأة والرجل على حد سواء! ويمكن بسهولة ملاحظة أن احتفاء هذا البعض بيوم المرأة هذا العام جاء على منوال السنوات السابقة في تحويله – باسم التضامن مع المرأة- إلى إعادة مؤسفة للصراع السياسي والفكري والثقافي حول الهوية الحضارية للأمة الذي كان أحد عناوين الصراع الشامل في المجتمعات الإسلامية والعربية خاصة؛ سواءً أكان ذلك في أيام السيطرة الاستعمارية المباشرة أو في مرحلة الحكم الوطني المستبد الغاشم الذي أذل أبناء الأمة دون تفريق، وفي ظل أكثر الشعارات البراقة خداعاً وزيفاً التي أوصلت الأمة إلى هذا المستوى المرعب من الانحطاط الحضاري الشامل!
••• لسنا ننكر أن الوضع العام للمرأة يعاني من مخلفات سنوات الفقر الحضاري، والانحطاط المؤلم الذي عاشته الأمة قبل أن تسقط في قبضة العدو التاريخي لها.. ونتفق أن المرأة عانت أكثر من الرجل، وحرمتها التقاليد غير السليمة عدداً من حقوقها الإنسانية.. لكن اختلافنا هو مع الذين يجعلون ذلك وسيلة للتفلت من الهوية الحضارية الإسلامية للأمة؛ بدعوى أن تلك المعاناة سببها الإسلام وليس الفهم القاصر له لدى المسلمين.. ودون مراعاة لتأثيرات الحالة العامة التي كانت الأمة فيها في قبضة عدوها، وكان هو أحد المروجين لما سمي بحرية أو تحرير المرأة.. فلا شك أن أي دعوى ولو كان ظاهرها الخير تأتي من العدو فإنه من الطبيعي أن يواجهها الناس بحذر شديد. وتوجس أشد، ورفض حازم! وعلى شاكلة ما يروى عن المجاهد الجزائري ابن باديس باعث النهضة الجزائرية الثقافية للمحافظة على الهوية العربية والإسلامية للجزائريين؛ الذي يروى أنه قال: "لو قالت لي فرنسا: قل: لا إله إلا الله.. لما قلتها!".. فالاستعمار لم يكن يريد الخير بهذه الأمة وكل أمة استعمرها.. وها هي الشعوب التي كانت في قبضة الاستعمار ما تزال هي الشعوب التي تسمى بالعالم المتخلف.. فلا سنوات الاستعمار أخرجتها من التخلف.. ولا سنوات الحكام الوطنيين الذين ارتبط كثير منهم بالاستعمار عوضتهم خيراً!
(وللمقارنة فقد كان من أوائل قرارات سلطة الاحتلال البريطاني في مصر عند احتلالها 1882 هو إلغاء التعليم المجاني وإغلاق المدراس الحكومية! وفي مستعمرة عدن ظلت الأمور في حالة شنيعة من التخلف والفقر والجهل حتى مرور مائة عام على الاحتلال، وليس إلا في نهاية الثلاثينيات عندما بدأت السلطة الاستعمارية البريطانية في عدن في توسيع الخدمات التعليمية والصحية، ومن الطبيعي أنها لم تؤتِ شيئاً من ثمارها إلا متأخرة أي قبل سنوات قليلة من جلاء المستعمر.. ولا زلت أتذكر ما كان يقوله كبار السن الذين تعلموا في الأربعينيات عن المقررات البسيطة التي درسوها في مدارس الحكومة القليلة.. وفي عدن وغيرها لم تفتح سلطة الاستعمار جامعة لرفع مستوى الناس.. وفي مصر مثلاً كان المواطنون هم الذين بادروا لافتتاح أول جامعة أهلية غير دينية (جامعة القاهرة الآن)!
ولأنه الاستعمار وزمنه؛ فقد كان من الطبيعي أن تحدث خلافات عميقة بشأن بعض ما يستجد من ظواهر ومسميات ارتبطت بشكل أو بآخر به وبمؤيديه من الموالين له ولأجندته الفكرية والمتأثرين بها.. وكان موضوع المرأة وتطوير حالتها أو تحريرها وفق المصطلح الشائع هو أحد مسائل الخلاف هذه، وهل يكون تطويراً أو تحريراً لها في إطار الإسلام أو ضداً له وتمرداً عليه؟ وليس تجاوزاً القول إن هناك تياراً كان قوياً ومهيمناً في تلك الفترة دفع بالأمر في اتجاه ليكون تحرير المرأة عملية مؤسسة على مبادىء علمانية متفلتة ومتمردة على الإسلام ونظرته الوسطية (وليس حتى نظرة المتشددين!).. وجعل من مفهوم حرية المرأة معركة صراع كبيرة نجح في الانتصار فيها في تلك المرحلة؛ وخاصة في ظل جبروت الأنظمة العلمانية واليسارية المتطرفة وضعف التوجه الإسلامي؛ قبل أن تبدأ مكاسبه في التراجع مع استعادة المشروع الإسلامي لقوته الشعبية والفكرية فيما عرف بالصحوة الإسلامية.
في رائعة الأديب المصري الراحل إحسان عبد القدوس "أنا حرة" تجسيد لهذا الخلاف المر حول مفهوم تحرير المرأة وحرية المرأة.. والحق أن الكاتب رغم توجهه الليبرالي إلا أنه انتصر في جانب من روايته لمفهوم أكثر وطنية لحرية المرأة من المفهوم الضيق الذي يجعله مجرد تقليد الأجانب وغير المسلمين في حياتهم الاجتماعية المنفلتة، والتمرد على الأسرة، وتحدي التقاليد وتعاليم الدين، ورفض الخضوع لأي سلطة.. أو كما عبرت عنه الرواية على لسان البطلة المتمردة، وصار عنوانا للرواية ونهجها في حياتها اليومية ب "أنا حرة".. ورغم ذلك إلا أن هذه الفتاة الحرة (!) اكتشفت بعدما حطمت كل القيود الدينية والاجتماعية أنها لم تحصل على الراحة ولا السعادة ولا الحرية بالضرورة.. أو كما خاطبت نفسها: "ليست هذه الحرية: أن تخرج كما تشاء، وتصادق الرجال.. وتعود متأخرة كما تشاء.. وأن تكذب لتبرر تصرفاتها، وأن تتمرد فتسمح للشباب بتقبيلها!".
في خلاصة الرواية كان هذا الحوار بين الفتاة المتمردة وبطل الرواية المناضل ضد الاحتلال الأجنبي لبلده، الذي يحاول أن يقنعها أولا أن لا حرية حقيقية لرجل أو امرأة في ظل الاستعمار.. وأن مفهوم الحرية العبثي الذي تتبناه ويجعلها تتمرد ضد ما تظنه هيمنة الرجل الزوج أو الأب أو الأخ أو المجتمع ليس هو الحرية الحقيقية.. ولنقرأ هذا الجزء من الحوار: - وصلت للحرية.. الحرية التي تعتبرها العباسية (حي قاهري شهير) قلة أدب.. أنا دلوقت حرة.. وما أظنش أني قليلة أدب! - وما أظنش أنك حرة! - أنا تحررت من كل حاجة! - ناقصك أنك تكوني حرة! - أنا عايزة الحرية علشان أعمل اللي أنا عايزاه! عايزة الحرية علشان أشتغل! - الرجالة بيضحوا بقوتهم علشان الحرية! - يعني كنت عايزني أتجوز راجل يستعبدني؟ - ما أنت دلوقت متجوزة شركة أمريكية بتستعبدك! قد يكون الزوج أرحم بك من الشركة الأمريكية! -كل الأسياد.. كلاب! -الحب هو العذر الشريف الوحيد للعبودية!
••• ولأن الحديث له جوانب أخرى تستحق التطرق إليها وخاصة في هذه الظروف التي تمر بالأمة.. فسوف نواصل غداً بإذن الله تعالى..