لا تكتمل سعادة الإنسان إلا إذا منح كافة حقوقه ومنها حق التعبير والانتماء وحق الشراكة في السلطة والثروة، فقد جبل الإنسان على حب الحرية والدفاع عنها بأغلى ما يملك: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق فالحرية من المقدسات والنفائس التي بموجبها يعطى الإنسان قيمة ومكانة وتسلب منه عند افتقادها. جاءت الشرائع السماوية لتحرير الناس من عبودية بعضهم البعض؛ فبعض الأحكام الشرعية أوجبت كفارات بعض الذنوب عتق رقاب محددة من رق العبودية. اعتاد الناس على ترديد بعض العبارات وممارسة بعض التقاليد - تختلف من قبيلة إلى أخرى - لكنها في جوهرها تتفق في تجسيد معاني الإباء والعزة ورفض الذل والخنوع. كانت مظاهر الاستعلاء والعظمة والتمييز العنصري محل رفض في أوساط المجتمعات؛ خاصة تلك التي انتشر فيها التعليم بشكل كبير وسكنها الثوار ورجال التغيير منذ الانطلاقة الأولى ضد منظومة الكهنوت الإمامي المتخلف. ثمة عوامل وأسباب عملت مجتمعة على عودة أدعياء الاصطفاء والحق في السلطة والخمس من الأموال والثروات - بشعارات ووسائل متعددة. يقاتل الحوثيون كي يصبحوا (سادة) وحكاما ومسؤولين وأن يتولاهم الناس كأمر تعبدي محض - كما يزعمون - ويقف إلى جانبهم آخرون: يرسلون أبناءهم للقتال ويقدمون أموالهم دعما واسنادا ليصبحوا في النهاية أشباه عبيد. المتحوثون يتلقفون توجيهات (السيد) ويرددونها ليل نهار - خاصة تلك المتعلقة بتوصيف الشرعية وقادتها- ويظلون كذلك حتى تأتي توجيهات جديدة - قد تكون على النقيض من سابقتها - لكنهم تقابلونها بنفس الحماس والجدية. المتحوثون يؤكدون مرارا أنهم سيقاتلون (حتى آخر قطرة من دمائهم وأبنائهم..) ويختمون تأكيداتهم بالقول: (تنفيذا لأوامر سيدي قائد المسيرة القرآنية السيد..)، فالمتحوثون أبرز عوامل طغيان الطاغية، ولهذا قال ابن خلدون: "لو خيروني بين زوال الطغاة وبين زوال العبيد لاخترت بلا تردد زوال العبيد لأن العبيد يصنعون الطواغيت". يرقص المتحوث طربا ويصرخ عاليا ويطلق الأعيرة النارية عند تشييع أحد أبنائه أو أقاربه الذي قتل في معارك التمكين للحوثيين؛ فإذا جاءت ذكرى استشهاد الحسين يبكون ويضربون الخدود ويشقون الجيوب، دون مراعاة لبعدي الزمان والقرابة. يزداد الحال غرابة ودهشة عند سماعك لحملة الشهادات الأكاديمية العليا وهم يصفون عبد الملك الحوثي ب (الحبيب والسيد القائد الملهم والمؤيد من السماء) وغير ذلك من عبارات المدح والثناء التي لم يقولوها في الرسول الكريم. اصطف متحوثو جامعة صنعاء في إحدى قاعات الجامعة لترديد البيعة بعد إحدى (الزينبيات) ممثلة (السيد القائد) في أدب واحترام لم يحظ بهما معلم الصفوف الأولى من تلاميذه، وقبل أيام تلقى أساتذة إحدى كليات الجامعة اشعارا بالتوجه إلى (مدرسة في عصر لاستلام السلة الغذائية)! جرحى المتحوثين لا يعالجون كما ينبغي، وأسراهم غير مأسوف عليهم، وبعض قتلاهم لا يشيعون ولا يدفنون. المتحوثون فقدوا كافة حقوقهم المشروعة وبعض احتياجاتهم الأساسية لتتمة حياتهم المفترضة، فهذه وتلك لا تتاح إلا في الأجواء الديمقراطية والتعددية السياسية والتبادل السلمي للسلطة، وتلكم المفاهيم والقيم لا تلتقي - بأي حال من الأحوال - مع المعتقدات بالحق الإلهي في السلطة والثروة والسيادة. على الرغم من وجود سياسيين ومثقفين وأكاديميين في أوساط (المنخرطين) في صف الحوثي، إلا أنهم تساووا جميعاً أمام عنجهيته وامتثال أمره، فأصبح الجميع من العامة والبسطاء، وهؤلاء وصفهم المفكر الكواكبي بقوله: "العوام هم قوة المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويجول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغتصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون: كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدونه رحيماً، يسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإذا نقم عليهم بعض الأباة، قاتلوهم كأنهم بغاة". تقول العرب: (السعيد من اتعظ بغيره) وكان يفترض أن يتعظ المتحوثون الصغار بما حل بأكابرهم من العذاب والتنكيل والنهاية المأساوية - لكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا، (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون).