في أكتوبر 2015م نشر موقع ميدل إيست آي، تقريراً مطولاً أعده الصحفي البريطاني المخضرم ديفيد هيرست، كشف فيه عن وثيقة استراتيجية سرية أعدها فريق مقرب من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد تكشف أن أبوظبي فقدت الثقة في قدرة الرئيس المصري على خدمة المصالح الإماراتية بعد دعمه بمليارات الدولارات، وفقرات من حديث منسوب لبن زايد قال فيه بالحرف الواحد "يجب على هذا الرجل (السيسي) أن يدرك أنني لست صرافاً آلياً... أنا أعطي ولكن بشروطي، أنا أعطي، إذاً أنا أحكم". أعتقد أن الأمر الهام في تلك الوثيقة، هو كشفها الوجه الحقيقي لبن زايد خاصة ما يتعلق بطريقة تفكيره وسعيه لمد نفوذه وتحكمه في دول أخرى، علاوة على القاعدة الأساسية التي تنطلق منها سياسته وهى الثمن الذي سيحصل عليه مقابل الدعم الذي يقدمه للطرف الآخر، وهنا يطرح السؤال نفسه إذا كان بن زايد يريد أن يتحكم في قرار وسياسة دولة بحجم مصر نظير ملياراته لنظام السيسي، فما هو الثمن الذي سيطالب به محمد بن زايد من هادي وحكومته ومن ورائهم السعودية نظير مشاركة الإمارات في العدوان على اليمن؟ وما هو الثمن المطلوب من الحراك في الجنوب تحديداً جراء دعمه اللامحدود لهم ولمشروعهم الانفصالي؟ خاصة أن كلفة المشاركة الإماراتية في الحرب مرتفعة جداً وبالذات مع تجاوز عدد قتلى القوات الإماراتية ال 105 عساكر، حسب البيانات الرسمية، وعدم استبعاد أن يكون العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير.
-غموض في إدارة نظام بن زايد للوضع في المحافظات الجنوبية والشرقية:
ترجح السياسة الإماراتية الحالية في اليمن، أن الثمن المطلوب يتجاوز التحكم في قرار وسياسة الدولة اليمنية،الى دعم إعادة تقسيم اليمن واقتطاع جزء منه وضمه الى السيادة الإماراتية مستقبلاً، وهو ثمن يفوق قدرة حلفاء ابوظبي في اليمن تقديمه لها وتحمل تبعياته الداخلية عليهم حتى لو قبلوا بتقديمه لحليفتهم الخليجية، ويبدو جليا ادراك ابوظبي لهذه الحقيقة، الامر الذي جعلها تعمل على تحقيق أهدافها عبر انتهاج خطة يكتنف غالبية بنودها الغموض والتناقض، ما جعل حلفاءها قبل خصومها في حيرة من أمرهم وغير مستوعبين ما الذي تريده ابوظبي بالضبط.
صور كثيرة عبرت عن غرابة وتناقضات سياسة بن زايد في اليمنوالمحافظات الجنوبية والشرقية تحديدا، فتارة تظهر اهتماماً عاليَ المستوى في تقديم المساعدات الاغاثية وتنفيذ عملية واسعة لترميم المدارس والمباني المتضررة من الحرب، كما قدمت شحنات نفطية ومولدات كهربائية ضمن جهودها لمساعدة السلطة المحلية في تحسين مستوى الخدمات الرئيسية، و دعمت بسخاء أجهزة الامن بالمركبات والاسلحة اللازمة لتعزيز قدراتها ورفع ادائها الأمني.
- نقاط غامضة :
لكن، وبصورة مناقضة تماماً، أظهرت ابوظبي بروداً عجيباً ولا مبالاة غير مفهومة في حالات كثيرة نورد بعض الأمثلة:
الأولى: تجاهلها الحالي لأزمة الصرف الصحي الأخيرة، وغرق معظم أحياء عدن بمياه المجاري، وما رافقه من انتشار مرض الكوليرا في بعض مناطقها، وقبل ذلك أظهرت أبوظبي تلكؤاً وبطءاً شديداً في التجاوب مع مناشدات ومعاناة أبناء عدن في رمضان الماضي لمساعدتهم في معالجة مشكلة الكهرباء، خاصة مع تزايد حالات الوفاة جراء ارتفاع درجات الحرارة، واكتفت الحكومة الإماراتية بتقديم قرض مالي لحكومة هادي لمعالجة محدودة للمشكلة وبصورة أوحت بوصول نظام بن زايد لمرحلة من الضيق والرغبة في وقف المساعدات والخدمات المجانية لأبناء عدن ومحيطها.
الثانية: تجاهل ميناء عدن وعدم الاكتراث بتنشيط حركة الملاحة فيه:
قد يتفهم البعض أسباب التململ الإماراتي وعدم رغبته في تقديم مزيد من الأموال والمساعدات لأبناء عدن ومحيطها جراء ارتفاع فاتورة الحرب في اليمن والضائقة المالية التي تعاني منها الإمارات كغيرها من الدول المنتجة للنفط مع تراجع أسعاره العالمية، لكن الأمر غير المفهوم هو تجاهل أبوظبي التام لميناء عدن وعدم إبداء أي رغبة حقيقية أو توجه لتطوير أدائه وإعادة النشاط التجاري إليه خاصة أن الإمكانات والخبرات العالمية التي تمتلكها موانئ دبي ستعزز من فرص نجاح ذلك، وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة، خاصة مع حقيقة أن استعادة الميناء لعافيته سيجعل عدنوالمحافظات المحيطة بها في غنى عن أي مساعدات جديدة، وسيزيل عن كاهل الإمارات العبء المالي هناك.
لكن ما يحدث هو العكس تماماً، ويؤكد صحة ما طرحناه في الحلقة الثانية من خفايا الدور الإماراتي في اليمن بخصوص سعي نظام بن زايد لإبقاء ميناء عدن في وضعه البائس لأسباب تناولناها في تلك الحلقة، ولعل آخر الأدلة على صحة هذا الطرح ما كشفه الصحفي فتحي بن لزرق رئيس تحرير صحيفة عدن الغد في منشور له على صفحته في الفيسبوك قبل عدة أيام عن تلقيه اتصالاً من أحد المسؤولين بميناء عدن يستفسر فيه عن مدى صحة الخبر المنشور في الصحيفة بشأن تزويد الإماراتيين لميناء المكلابحضرموت بتاج بحري (سفينة صغيرة تقوم بجر البواخر إلى داخل رصيف المناولة)، وكانت وكالة أنباء الإمارات قد ذكرت في ال27 من أكتوبر الجاري عن تسليم هيئة الهلال الأحمر الإماراتي ميناء المكلا قاطرة بحرية حديثة أسمتها "التك".
المفاجأة هنا ما كشفه مسئول ميناء عدن من إرسال إدارة الميناء ل13 مذكرة للإماراتيين طالبوا فيها بمساعدتهم في توفير تاج بحري ولو بالتقسيط، لكن دون أي رد من الإماراتيين، تخيلوا مطالبة ممتدة لأكثر من عام من أجل الحصول على سفينة صغيرة لتغطية جانب حيوي في حركة الميناء التجارية، ومع ذلك تجاهل الإماراتيون الأمر بصورة تكشف عن نوايا سلبية تجاه الميناء، وفي الوقت ذاته يبدون تبايناً واضحاً في طريقة تعاملهم واهتمامهم بميناء المكلا، ورغبة في تطويره تتجاوز مسألة صغره وتواضع إمكانياته، وهى مرتبطة في الغالب بتوجه عام تبدي فيه أبوظبي اهتماماً خاصاً بحضرموت وتوجهاًً لتطوير البنية التحتية فيها بصورة لا نجده في توجهها نحو عدن، والتي يغلب على نشاطها هناك المساعدات الإنسانية والديكورية.
الثالثة: صورة أخرى من تناقض وغموض سياسية أبوظبي في المحافظات الجنوبية والشرقية، تظهر في الجانب الأمني والعسكري، فرغم تقديمها لمساعدات ضخمة لأجهزة الأمن والألوية العسكرية في عدن لإحكام السيطرة الأمنية على عدن ومحيطها، لكنها تعمدت إبقاء تلك الأجهزة غير موحدة تحت قيادة واحدة، رغم ما يسببه ذلك من ثغرات أمنية مكنت الخلايا الإرهابية من اختراق حزامها الأمني وتنفيذ عمليات داخل عدن من حين لآخر، ولعل الأمر الأكثر غرابة يتعلق بتجاهل الإمارات دعم مسلحي ما يسمى المقاومة الجنوبية في المناطق الحدودية في جبهات الصبيحة وكرش ولودر رغم أن ذلك يعتبر أمراً ضرورياً لفرض تقسيم اليمن إلى شطرين، شمالي وجنوبي، كما ترمي إليه في المرحلة الأولى من مخططها التقسيمي.
الرابعة: هناك غموض كبير فيما يتعلق بالدور الذي تقوم به أبوظبي فيما يتعلق بإعادة تشكيل الجيش في المحافظات الجنوبية والشرقية، فإلى جانب تأسيسها لجيشين يتبعانها مباشرة: الأول في عدن، ويعرف بقوات الحزام الأمني ويقوده رجلها القوي الوزير السلفي هاني بن بريك. والثاني، في المكلا وتعرف بقوات النخبة الحضرمية.. فإنها تحرص على تشكيل الألوية العسكرية الأخرى على أسس مناطقية وقبلية بحتة، الأمر الذي لايثير الشكوك فقط في وجود نوايا مستقبلية لتقسيم الجنوب إلى كيانين أحدهما في حضرموت والآخر في عدن،بل يتجاوزه إلى احتمال إعادة الجنوب إلى أيام السلطنات والمشيخات ال 23 التي كانت قائمة في زمن الاستعمار البريطاني.
النقطة الخامسة: رغم ما تبديه الإمارات من حماس في محاربة الإرهاب، والذي أظهرته قبل أشهر خلال حملتها الكبيرة لطرد القاعدة من المكلا ومدن حضرموت الساحل وقبل ذلك دورها في طرد القاعدة من عدن وامتداد السيطرة الأمنية إلى لحجوأبين، لكن ما يزال السماح لعناصر القاعدة وداعش بالانسحاب من حضرموتوعدن باتجاه أبينوشبوة مع احتفاظهم بكميات هائلة من الأسلحة التي سيطروا عليها من معسكرات الجيش بما فيها السلاح الثقيل، غير معروف الأسباب، كما لايبدو مفهوماً سبب تأجيل العملية العسكرية التي أعلن عن قرب شنها منذ عدة أشهر لطرد القاعدة من محافظة شبوة ذات الأهمية الاستراتيجية.
يضاف إلى ذلك عدم اهتمام أبوظبي في تمكين السلطة المحلية وأجهزة الأمن في أبين من القيام بمهامها للحيلولة دون عودة القاعدة للسيطرة مجدداً على مدن المحافظة بعد طردها منها وبالذات مع عودة عناصر القاعدة في الأسابيع الأخيرة إلى منطقة الوضيع، مسقط رأس هادي، عقب انسحاب القوات الحكومية منها، وما يتسبب فيه هذا الوضع من إبقاء التواصل البري بين حضرموتوعدن شبه مقطوع، وتكريس وضع مستقل بين الإقليمين، وكأننا أمام نسخة مشابهة لوضع قطاع غزة مع الضفة الغربية.
من خلال طبيعة وديناميكية التحرك الإماراتي على الأرض في المحافظات الجنوبية والشرقية وتفاوت مستوى الاهتمام من منطقة إلى أخرى، يمكن القول إن الأجندة الإماراتية في الجنوب اليمني تركز على تحقيق عدة أهداف، لعل أهمها هدفان رئيسيان، هما:
الأول: التركيز على انتزاع أرخبيل سقطرى من اليمن وضمه إلى السيادة الإماراتية، ويبدو جلياً اعتبار أبوظبي ذلك هدفاً رئيسياً تسعى لتحقيقه في أسرع وقت ممكن، وتتعامل معه كأولوية مطلقة، وتسخر من أجل تحقيقه الجزء الأكبر من جهدها وإمكاناتها المخصصة لأجندتها في اليمن، وهذا سيكون محور الحلقة المقبلة.
الهدف الثاني: إحكام القبضة على إقليم حضرموت الذي يضم محافظات: (شبوة، حضرموت،المهرة، إضافة إلى أرخبيل سقطرى) وتبلغ مساحته أكثر من 55% من إجمالي مساحة اليمن، تمهيداً إما لضمه بعد ذلك إلى دولة الإمارات، أو تحويل الإقليم إلى دويلة مستقلة عن اليمن، لكن مع وضعها تحت وصاية غير مباشرة للنظام الإماراتي، ورغم أن هذا الأمر يعتبر هدفاً رئيسياً آخر لأبوظبي في اليمن، لكنها مضطرة للعمل على تحقيقه على مراحل والانتظار لعدة سنوات قادمة حتى تتجاوز عدداً من العقبات الرئيسية، خاصة ما يتعلق بالأطماع السعودية في حضرموت، والمواقف الرافضة المتوقعة لعدن وصنعاء من هكذا توجه، لكن قد تلجأ أبوظبي في حال فشل مسعاها لتقسيم السعودية، لمحاولة التوصل إلى تفاهم مع الرياض بشأن تقاسم إقليم حضرموت، بحيث تستقطع سقطرى والمهرة وجزءاً من حضرموت مقابل استحواذ السعودية على الجزء الأكبر من مساحة حضرموتوشبوة... وللحديث بقية.
- تنويه: اعتذر عن تأخر نشر هذه الحلقة لأسباب خاصة، كما اعتذر عن اللخبطة في ترقيم الحلقات.