إن نقف نستلهم من أحد رُشْدا، أو نستمد منه هداية؛ أو نمضِ نتعبد الله عز وجل باتباع سنته و اقتفاء أثره، فذلكم هو محمد صلى الله عليه و سلم الذي ليس لأحد من الناس معه أو بعده هذه الأحقية التي ألزمنا الله بها ، جل في علاه : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا) و قوله عز من قائل :( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). و إن يحتفِ البعض بذكرى ميلاده في عادة جرت بهم، أو طقوس ابتدعها بعضهم توظيفا لحاجة في نفوسهم ؛ فإننا نتمسك بمنهجه في كل أمر من الأمور اتباعا و طاعة، و اقتداء على مدار اليوم و الساعة و اللحظة، امتثالا لما أمرنا به و حثنا عليه : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا و بالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا) :
وراءك يا رسول الله نمضي و يتبع صفَّنا للمجد صفُّ على رغم المعاند والمعادي لواء محمد أبدا يَرِفُّ
لم يكن ميلاد محمد صلى الله عليه و سلم مجرد ميلاد فرد استثنائي ، ولا ميلاد بطل قومي، أو شخصية تاريخية، أو شخصية عبقرية نابغة، فتلك صفات و مواصفات لأشخاص و أفراد تعج بهم الحياة البشرية، ممن ينبغون و يتميزون بهذه المجالات أو تلك.
و لكن كان ميلاد محمد صلى الله عليه و سلم ميلاد أمة ارتبط ميلادها بميلاد نبي الرحمة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) و نبي الهدى و النور: ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ).
و نبي الحياة الذي أحيا البشرية بعد موات؛ هو محمد عليه الصلاةو السلام : ( أفمن كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ).
فهل رأيتم أمة مترامية الأطراف تولد بميلاد فرد واحد، كما وُلِدت أمة العرب بميلاد النبي الكريم محمد صلى الله عليه و سلم، و أمم شتى بعدها، و لا تزال الأفراد و المجتمعات تحيا بهديه، و تستقيم إذا تمسكت بتعاليمه؟
إننا - هنا - لا نفتئت القول، و لا نبالغ في الكلام، و لا نتعسّف التعبير في وصف الحقيقة، و لكننا نتكلم عن حقيقة مثُلت على الأرض، و عاشها الناس واقعا، و هي حقيقة مازالت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها :
رسول الله ذكرك فَيْضُ نور يُردّد كل يوم بالأذان
فإن أداءه دعوى لجند و إرشاد إلى أسمى المعاني
و أحمد خير من أرسى نظاما تدين به الحياة مدى الزمان
و لئن سالت الحروف في وصف شأن المصطفى صلى الله عليه و سلم بتلقائية، وتدفقت الكلمات حية بيسر و سهولة، و أنشئت العبارات برصانة و حصافة ؛ فليس مرجع ذلك لبلاغة الشعراء، و لا لفصاحة الخطباء ، و لا لعبقرية الأدباء، و لكن لأثر و مآثر النبي المصطفى، الذي أنطقت مواقفه و سيرته و أخلاقه أساليب اللغة و أسرار العربية، حتى مكنت الخطيب المفوّه من أن ينطلق في رحابه مغترفا منه بلباقة، و متكلما عنه باقتدار، و مكنت الشعراء من الإبحار في بحور القصائد العصماء، بلا تكلف، و لا مبالغة، حتى وجد قائلهم نفسه يقول بصدق :
خُلِقتَ مُبَرّأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
أو كما قال الآخر :
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا
و قبلهما أجمل الحقيقة ابن رواحة رضي الله عنه :
و الله لولا أنت ما اهتدينا و لا تصدقنا و لا صلينا
حين جاء المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يكن للعرب دور له بال بين الأمم ، و لا أثر يذكر، بل كانت البشرية ككل في جهالة جهلاء و ظلم مستطير :
أتيت و الناس فوضى لا تمر بهم إلا على صنم قد هام في صنم
فعاهل الروم يطغى في رعيته و عاهل الفرس في كِبْر أصمّ عَمِ
و يعبر شاعر عربي عن وضع العرب قبل مجيئ النبي المصطفى، بقوله :
و هل أنا إلا من غزية إن غوت غويت و إن ترشد غزية أرشد
أو قول الآخر ؛ يصف مآسيهم الدائمة و تناحرهم المستمر :
و أحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
جاء محمد عليه الصلاة و السلام و العالم يعيش في ظلام حالك، و ظلم ناهك، و بؤس هالك مقيم، فمضى يزرع أثره و مآثره، و يُوْدِع في الناس هدْيَه و هُداه ، و الأرض - يومها - كافرة بما جاء به، معادية لدعوته، مناوئة له، و ليس معه في أول أمره - على الأرض - من معين أو نصير، غير امرأة آمنت به، و صِدّيق صدّقه بما جاء به، و صبي تابعه، و كان أولئك الثلاثة على التوالي : خديجة بنت خويلد، و أبو بكر الصديق، و علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين .
لكنه عليه الصلاة و السلام، مضى يُعطّر الكون برسالته و تُعلّم الناسَ كلماتُه، و يمدّ الجميع بهديه و إرشاداته . يغشى الناس في مجالسهم دون خوف، و يحاور آحادهم أو جموعهم دون كلل، و راح يبني البناء لبنة لبنة، و يمضي برسالته خطوة خطوة، و يرصّ الصفوف فردا فردا، غير عابئ بالصعاب، و لا مستكين للمتاعب و المشاق.
و صار هذا الجهد،، و هذه الطريقة هو المنهج الذي سار عليه أتباعه من بعده، من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، و من فتية آمنوا بربهم، و من نساء قانتات صالحات ، ما وهنوا و لا استكانوا، و ما أقالوا و لا استقالوا، بل ظل شعار الصادقين و الصادقت على الدوام ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا ).
ها نحن نستذكر اليوم ، و نتذكر البداية من حين : ( إقرأ ) فواجهه الملأ من قريش بقولهم : ( تبا لك ) فاستعصى بإيمانه غير محبط و لا وجل، يستأنف بث النور، و نشر الهدى ؛ نتذكر الخطى الثابتة، و العزيمة الصامدة، و الجهاد الأغر لمحمد صلى الله عليه و سلم ؛ لنمضي في أثره، و نترسم خطى دعوته و سيرته، نتمثلها عملا، و نَعُبُّها اقتداء، و نهتدي بها ميدانا، و نستعصي بها ثباتا و إقداما، و هذا لعَمْري هو خير احتفاء.
فسبيلنا،و سُبُلنا؛ مستقاة من تعاليمه و إرشاداته، و لسنا من أولئك الذين يستجدون باسمه الأموال ظلما، و ينتسبون الية استعلاء و طغيانا، بمزاعم خُرافية ما أنزل الله بها من سلطان ؛ مع أنه عليه الصلاة و السلام يقول قولا فصلا و ليس بالهزل لأمثال هؤلاء الأدعياء : ( إن أولى الناس بي المتقون من كانوا و حيث كانوا ).. و هو حديث يطابق قول الحق تبارك و تعالى :( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).
و الفرق بيننا و بين هؤلاء الأدعياء أننا نؤمن أن رسالة محمد جاءت للعالمين نذيرا ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فيما الكهنوتية الحوثية و من على شاكلتها تريد أن تقزّم الرسالة الربانية و الدعوة المحمدية و أن تحصرها في سلالة ليس إلا، في كذب أَشِر، و معصية مطلقة ؛ لقول الحق تبارك و تعالى : ( تبارك الذي نَزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا).
لقد آن الأوان في أن تصدع بما أمرت به و أن تجهر بأن : حي على الفلاح، حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله رب العالمين ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله عل بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين ).