خلال منتصف القرن الماضي ومع تشكل الاحزاب الوطنية في المنطقة العربية بمختلف اتجاهاتها ( الليبرالية والدينية والقومية واليسارية ) كانت الاهداف الكبرى المرتبطة بالتحرر من الاستعمار الاجنبي هي التي تشكل الاساس لهذه الاحزاب وانعكست بالتالي في وثائقها وادبياتها، وكانت مسألة الحريات وحقوق الانسان غائبة عن برامج هذه الاحزاب، التي اعتقدت بانها ثانوية. وبعد وصول العديد من الاحزاب سالفة الذكر الى السلطة بعد التحرر من الاستعمار، شرعت في بناء نماذجها ( الوطنية ) وفقا لشعاراتها وتجاهلت حقوق الانسان، وعملت على اقصاء الآخر او تهميشه بل والقضاء عليه في العديد من التجارب. وعندما فشلت اغلب هذه النظم في بناء مشروعها الحضاري لم تستخلص قيمة حقوق الانسان وحرياته الاساسية عند مراجعة الاخفاقات والانحسارات لمشاريعها الفكرية . وقبل ان يأفل القرن الماضي بعقد ونيف حدثت تطورات كبرى ، ازاحت معها قوة كبرى تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ، وبالتالي تأثرت بنى العديد من دول المنطقة التي اطلقت على نفسها دول التحرر الوطني، وفشلت تجاربها لأسباب عديدة وكان ابرزها الحريات وحقوق الانسان . وفي عقد التسعينيات دخل العالم عهدا جديدا تتواكب فيه عولمة الديمقراطية مع عولمة الاقتصاد بعد انهيار انظمة الحزب الوحيد، الا ان انهيار الكتلة الشرقية لم يجر تدعيمه كانتصار للديمقراطية وحقوق الانسان بقدر ما دعم عمليا كانتصار للرأسمالية واقتصاد السوق ، وتمت كل الاستراتيجيات الغربية للدفع في هذا الاتجاه بشكل يعمق التبعية للغرب الرأسمالي سياسة واقتصادا، وباستثناءات قليلة فقد ادت محاولات الدمج السريع لهذه المجتمعات في اقتصاد السوق الى اطلاق آلية رهيبة تطحن في دواليبها ملايين الافراد، سارعت بالتفكك الاقتصادي لهذه الامم، حيث تنتشر البطالة، ويتعمم الفقر، ويتعاظم البؤس، وتزهو الجريمة المنظمة، وتنفجر الحروب. هذه الفجوة بين قبول التنمية ملمحا اساسيا لحقوق الانسان والواقع المعاش، ادت الى التفاوت بين الدول الغنية والفقيرة بشكل مطرد وحرمان الملايين من مداخيل التنمية الاساسية المتمثلة في التعليم، والصحة، والسكن، والبيئة، ووجود اكثر من بليون شخص في العالم ضمن فئة الفقر المدقع . كما ان حكومات الدول النامية لم تبذل الجهد اللازم لتمتع جميع المواطنين بالتنمية وحقوق الانسان. ودخلت اغلب الدول العربية في عملية الدمج السريع، وتحول اقتصادها السياسي الى اقتصاد لدول ريعية، افقرت المواطن وهمشت حقوقه ، وللأسف لم تستطع الاحزاب التقليدية على ادراك ذلك او بقيت في موقف المتفرج، نظرا لإقصائها ، والذي يمثل انعكاسا لسياساتها السابقة التي اهملت فيها حقوق الانسان واقصت الآخر. و في هذا السياق تشكلت حركات جديدة سياسية وحقوقية، منها من اتخذ حقوق الانسان منهجا لمطالبه، والبعض الآخر وظف صراع الهويات للنيل من مشروعيته، وبالتالي وجد انحيازا لمطالبه المحدودة على حساب حقوق الانسان. ولم تكن اليمن بمنأى عن هذه المتغيرات ، ولهذا شهدت كغيرها من الدول العربية، حركة حاشدة مطالبة بإحداث تغير تحولي، نحو الدولة التنموية الملتزمة بالحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان . ووسط موجات المناشدة الشعبية لهذه المطالب، جاء الحامل السياسي ممزوجاً بتراثه السياسي والفكري، ومتأثرا بالظروف الموضوعية العلائقية، ليقدم بدائل، اكتفت بتغيير الوجوه، وابقت على النظام الريعي، واستثنت بذلك حق الانسان في التنمية وحرياته العامة. ان ما يجري اليوم في اليمن من تطورات هو تجسيد لفكر الغلبة الذي تكرس على مدار العقود الماضية في حكم اليمن، هذا الفكر الذي لم يستوعب بان هذا العصر هو عصر حقوق الانسان وحرياته. وعلى قوى الحركة السياسية في اليمن - سواء المنتصر منها اليوم او المهزوم - ادراك ان الجماهير العريضة تطالب بنظام تنموي عادل لن يقدر على الوفاء به فصيل او فكر او اتجاه بعينه، وعليها الاستفادة من عبر الماضي حين اعتقدت بعض القوى انها قادرة على انجاز تحولات بمفردها، الا انها اخفقت ولم تجن لشعوبها غير التأخر والدمار . اليمن يحتاج اليوم الى تكاتف كل القوى الوطنية، وعلى هذا القوى مراجعة العقل واستلهام العبر من دروس بعض الدول العربية التي دُمرت بالكامل بناها التحتية ومؤسساتها الوطنية ثمرة لصراعات كان يمكن تفاديها بالحوار وتغليب البعد الوطني. والانسان اليمني يريد دولة مدنية حديثة تتعانق فيها كل الانتماءات التي تنتصر لحقوق الانسان وحريته. فلنعمل جميعا على تحقيقها افرادا وقوى سياسية . اخيرا اناشد انا العبد لله، الاخوة في انصار الله، باعتباري واحد من الذين وقفوا يوما معهم في سبيل نيلهم مطالبهم الحقوقية خلال الحروب الستة ودفعت ثمن هذه المواقف على حساب اوضاعي السياسية والوظيفية والامنية، اناشدهم احترام حقوق الانسان، والافراج عن المعتقلين، ورفع الحصار على رئيس الجمهورية وعلى الوزراء ، والجلوس مع بقية القوى الوطنية للوصول الى حلول جذرية لمشاكل اليمن ، وعلى رأسها حقوق الانسان . والله من وراء القصد .