كتب/قادري أحمد حيدر إن الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، في صورة دولة السلطة، أو السلطنة، قد تمكن من خلال أدوات القمع والقهر والهيمنة على السلطة والثروة، من ان لا يبقى شيئ خارجه (المجتمع، الأحزاب، النقابات، الصحف، الانتخابات، الحكم المحلي، وكافة مؤسسات الدولة) وسمح فقط بحرية إعلامية اعلانية (هامش ديمقراطي مقيد) وفي سياق كهذا فإن حكم العصبية، والفردية، قد حدد إطاراً مسبقاً لعمل وحركة ونشاط الأحزاب والنقابات، ووظيفة محددة للانتخابات، وللحكم المحلي، بما لا يخرج عن إعادة إنتاج النظام القائم، والبنية السياسية السائدة. إن النخبة السياسية، القبلية، العسكرية، الفئوية "العائلية" في صورة الحكم العصبوي الفردي هي الفاعل الأساسي والوحيد في تحريك السلطة، وفي إدارة المجتمع، وفي تحديد مسارات عملهما وتحركهما، وأهم خاصية للحكم القائم هي تنظيم الإدارة السياسية للصراع بالأزمات، وهي عملياً وتاريخياً واحدة من صفات وخصائص وطبائع الدولة السلطانية، أو الجمهورية القبلية العسكرية كحالنا في اليمن اليوم، وفي هذا السياق من المهم الإشارة إلى أن هناك مستويين من الأزمات، وشكل ادارتهما، مستوى ايجابي لإدارة الأزمات تقوم به الدولة المؤسسية المدنية الحديثة، كاملة الشرعية، التي تعد وتؤهل نفسها لإدارة الأزمات المحتملة، ومواجهتها، وتخطط سياسياً، وتنظيمياً، وإدارياً، واقتصادياً، لإدارة الأزمة والعمل على الحد من احتمالات تطورها، والتحكم بتداعياتها وهو ما يفتقر إليه الحكم القائم. والمستوى الثاني: هو المستوى السلبي المتخلف الذي يدير به الحكم العصبوي القائم أزماته وصراعاته مع قوى المجتمع المختلفة، (الاحزاب السياسية، النقابات، منظمات المجتمع المدني عموماً، الصحافة) حيث ينحصر دور الحكم ووظيفته فقط في الاستعداد الدائم لإدارة الصراع بالأزمات، وهي الآلية الوحيدة المناسبة له لإعادة إنتاج السلطة أو الحكم العصبوي، الفردي. إن إدارة الصراع بالأزمات ومراكمة إنتاجها دورياً، وعلى جميع الأصعدة، هو بالفعل ما تؤكده حقائق وشواهد الواقع المختلفة الجارية في البلاد منذ ثلاثة عقود، والتي جددت إعادة إنتاج نفسها بصورة أعمق وأخطر وأشمل مع حرب 1994م ، وليس أدل على ذلك من دخول حرب صعدة دورتها الدموية السادسة ولأكثر من ستة أشهر، متواصلة، والوجه الآخر لإدارة الصراع بالأزمات هو اتساع ظاهرة الحراك السياسي الاجتماعي الاحتجاجي السلمي في الجنوب: إن الانفجارين القائمين وتداعياتهما، في صورة الانفجار المذهبي الطائفي، السلالي، والانفجار السياسي والاجتماعي في الجنوب، هما وجهان يعكسان أزمة وفشل نظام الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، والانفجاران في جوهرهما تعبير عن أزمة سياسية بنيوية وطنية شاملة، (أزمة حكم وعلاقات حكم، وأزمة سياسة وطنية، وأزمة اقتصادية اجتماعية تنموية)، اننا أمام نظام حكم يهرب من حل أزمات الواقع والبلاد إما إلى حلول جزئية تكتيكية، أو حلول ترقيعية، لا تحل المشكلة، بل تهدئها بمسكنات مؤقتة، وترحل مشاكل الواقع إلى زمن قادم مجهول، لم يعد بإمكان المجتمع والناس القدرة على تحمله والصبر على مكارهه، أو بتعليق مشاكله والأزمات التي انتجها على مشجب التدخل الخارجي، ويراكم بوعي أو بدون وعي ولا تخطيط شروط انفجار الوضع الداخلي وتفككه، وتداعياته ويحيلها جميعاً إلى المجهول. إن نظام الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، فقد شروط استمراره الموضوعية والتاريخية، بعد أن تحول إلى ملك عضوض، وبصورة سافرة منذ ما يقارب عقدين من الزمن، وصار معيقاً ليس لتطور المجتمع، والسياسة، والديمقراطية، بل هو صار معيقاً وكابحاً لإمكانية تطوره الذاتي الخاص، بعد أن أوصل البلاد إلى طريق مسدود، على كافة المستويات، وصار يخلق مصاعب، ومتاعب، ومشاكل كبيرة للداخل (التطور السياسي والاقتصادي والديمقراطي الوطني)، وللخارج (القاعدة والجماعات التكفيرية والعلاقة التكتيكية بها)، وليس اشارات تقارير النظام الدولي إلى صلته بها سوى واحدة من أزمة علاقاته مع الداخل والخارج. إن القضية السياسية الجنوبية، وظاهرة حرب صعدة، والأزمة الاقتصادية الاجتماعية الطاحنة، وظاهرة القاعدة والمليشيات المسلحة المختلفة (القبلية والدينية) جميعها ليست سوى مظاهر وصفات لطبيعة دولة السلطنة، أو الحكم العصبوي، الفردي، المركزي، القائم، وهو حكم فئوي عصبوي جزئي يعتمد على الحروب الداخلية الصغيرة والكبيرة، وهو حكم قوي داخلياً شكلياً، وضعيف خارجياً عملياً، وهو في جوهره حكم جباية ريعية، رعوية (سلطة خراجية)، تحتكر السلطة والثروة لذاتها، وفي ذوي القرابة، والأعوان، ضمن نظام من الموالاة دقيق ومحسوب، ومن صفات الحكم القائم أو السلطنة، انها لا تشتغل بالانتاج، ولا صلة لها بالعمل كقيمة، وليست معنية بالتنمية الإنسانية، بل هي تحتقر العمل، ورأس مالها يتحدد بوجودها في قمة السلطة، وفي مراكمة القوة العسكرية ؛ عبر صفقات السلاح السرية ، والعلنية ، ومن خصائصها وصفاتها انها سلطة منتجة للشقاقات في المجتمع - المدينة والريف - دورها ووظيفتها ينحصران في إنتاج معارضات على شاكلتها، وتؤكد الخبرة السياسية والاجتماعية التاريخية ان جميع محاولات الحكم القائم إدارة صراعات المجتمع، والسياسة بالأزمات إنما ترتد إليه عكساً وضداً، وجميع محاولاته إلغاء المجتمع بإضعافه وتفكيكه، ونقل أزماته الذاتية إلى المجتمع، ومحاولة حلها على حسابه، إنما تعود إليه في نهاية المطاف أزمات معقدة، ومركبة، ومتفجرة في وجهه، وذلك هو عقاب التاريخ والواقع. فمن لا يتعلم من التاريخ ، محكوم عليه بتكراره . إن غياب الدولة الوطنية المدنية، المؤسسية، وهيمنة حكم عصبوي فردي مركزي افقد الحكم القدرة على إدارة البلاد، وصراعات المجتمع بصورة رشيدة وعقلانية، وعصرية، وأفقده كذلك القدرة على إيجاد مؤسسة سياسية حديثة واحدة لصناعة القرار فيه، وهو ما يفسر حالة الاضطراب والارتباك في واقع تعدد مراكز القرار والقوة فيه، وخير شاهد على ذلك الموقف غير الواضح والمرتبك من القضية الجنوبية، والوقوف بين عدم الاعتراف بها وكأنها غير موجودة، وبين مواجهة الحراك السياسي الجنوبي بالرصاص والقتل، وهو قمة الاعتراف العملي بالقضية، وكذا الموقف المضطرب والمتناقض في تفسير وقراءة حرب صعدة، حتى صار النظام السياسي القائم في صورة الحكم العصبوي حالة مكشوفة على الخارج: سياسياً، واقتصادياً، وأمنياً، وعسكرياً، وحتى حدودياً، حكم مكشوف على الخارج، ومغلق على الداخل، ومن هنا سهولة اختراقه وامكانية أقلمته وتدويل أوضاعه الداخلية عند أول محطة صراع، وهو ما بدأنا نشهد ونقرأ ملامحه في صورة ما يجري اليوم. إن الرؤية التي بين أيديكم ، السياسية الاستقرائية النقدية للواقع، ولطبيعة الحكم العصبوي، الفردي، المركزي القائم، توصلت إلى أن سياسات الحكم - طيلة الثلاثة العقود المنصرمة - لم تنتج سوى الفشل والعجز. وتؤكد الرؤية أن طول ثبات مدة الحكم الفردي واستمرارها طيلة هذه المرحلة، وعلى قاعدة سياسية اجتماعية متخلفة، أفقد الحكم شرعيته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والديمقراطية، والوطنية، وهي فترة حكم طويلة دون أي إصلاحات أو تغييرات حقيقية في بنية النظام السياسي، أي دون شرعية إنجاز على أي مستوى كان، إلا إذا اعتُبرت الحروب الداخلية الصغيرة، والكبيرة، وتراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وازدياد حدة الفقر 60%، والبطالة، والتضخم، وغياب الدولة الوطنية المؤسسية في حكم الانجاز. وترى الرؤية أن طول مدة البقاء في الحكم، فضلاً عن احتكار السلطة والثروة، قد ولد في عقل الحكم العصبوي ثقة زائفة بالذات، وحالة رضى عن الواقع القائم، وأن ليس في الامكان أبدع مما هو قائم، وهي في تقديرنا واحدة من أزمة علاقات الحكم العصبوي الفردي بالمجتمع، وبكافة أطراف الحياة السياسية، ناهيك عن أزمة علاقات الحكم الداخلية، وهو ما يهدد بانفجار المجتمع من داخله، واحترابه ضد بعضه البعض. إن الرؤية في إطارها الفكري السياسي العام تستشعر كل ذلك وتحاول ان تلامس بمبضع الجراح التشخيصي النقدي ظواهر وجوانب الأزمة وتحديد أهم سماتها الجوهرية الراهنة والماثلة في التالي: السمة الأولى: هي أن الحكم العصبوي الفردي المركزي، وصل إلى درجة عدم القدرة على الاستمرار في الحكم بالطريقة القديمة - الجديدة، وخاصة اسلوب إدارة الحكم التي جرى تكريسها ومحاولة تعميمها من بعد حرب 1994م دون تكلفة اقتصادية، وسياسية، وأخلاقية، ووطنية، باهظة، وهي إحدى السمات الجوهرية للأزمة السياسية والوطنية الشاملة التي تعيشها البلاد. السمة الثانية: اتساع رقعة المعارضة السياسية المنظمة، وتوسعها لتعم وتطال فئات وشرائح وطبقات اجتماعية واسعة، كانت إلى زمن قريب في قلب الحكم، وجزءاً من بنيته السياسية العامة، إضافة إلى اتساع قاعدة المعارضة الشعبية والجماهيرية في صورة الاحتجاجات الجماهيرية السياسية السلمية في كل محافظات الجنوب، وتوسيع وقائع حرب صعدة لتشمل محافظات أخرى في الشمال- وما خفي هو الأعظم -، ووصولها إلى حد دخول السعودية طرفاً في الحرب في الحدود اليمنية، السعودية. بل وتمويلها المالي ، والعسكري ، لحرب صعدة ، ناهيك عن اشتراكها الفعلي فيها . السمة الثالثة: تآكل شرعية النظام السياسية والوطنية والدستورية وفقدانه المستمر لمشروعيته الاجتماعية والوطنية التي تمتد من الشمال إلى الجنوب. السمة الرابعة: ضيق القاعدة الاجتماعية والسياسية والجماهيرية للنظام، وظهور حالة تذمر سياسية ووطنية حتى داخل الحزب الحاكم، وانحصار قاعدة الحكم في نطاق ذوي "القرابة" وجماعات المصالح الصغيرة من الأعوان، وحتى فقدانه جزءاً مهماً من امتداده الاستراتيجي القبلي. السمة الخامسة: اتساع الأزمة الاقتصادية والمالية والتجارية الطاحنة، وهروب الاستثمارات المحلية الوطنية إلى الخارج، وتدمير الطبقة الوسطى، ووصول من يقعون تحت خط الفقر حسب تقرير التنمية الإنسانية إلى 59%، وحسب تقرير الأداء الحكومي المقدم لمجلس النواب يوليو 2009م. السمة السادسة: ان النظام الحالي وطيلة ما يقارب العقدين، دمر الأنساق الاجتماعية والثقافية والوطنية التاريخية، التي تشكلت طيلة الستة العقود الماضية، ووسع الفجوة بين الشمال، والجنوب، لتطغى الجغرافيا (الهوية الجهوية) على حقائق التاريخ الوطني، في محاولة لإعادة صياغة التاريخ الوطني ليس بالعودة إلى الماضي فحسب، بل ولما هو الأسوأ في الماضي، وفقاً لشروط القراءة الجغرافية الضيقة لمعنى الوطن، والذي يفكك بالنتيجة المعنى الكلي الجامع لمعنى الوطن، والوطنية، والمواطنة، وما يشهده الجنوب كله، وصعدة، تأكيد وخلاصة للسمات الجوهرية العامة للأزمة السياسية والوطنية الراهنة. وفي كل ما سبق تتحدد الطبيعة الخاصة والعامة لنظام الحكم القائم، وتوصيفه بأنه حكم عصبوي، فردي، مركزي، معاد في جوهره لقضية بناء الدولة الوطنية المدنية المؤسسية الحديثة، وهنا يكمن غياب سؤال المشروع السياسي الوطني الديمقراطي، وفي القلب منه سؤال بناء الدولة الوطنية المدنية ، المؤسسية. مظاهر الأزمة السياسية والوطنية: أولاً : القضية الجنوبية: 1 - تاريخية القضية الجنوبية: إن الرؤية النقدية التحليلية التي بين أيديكم ، ليس من أهدافها البتة الغوص في تفاصيل التاريخ كأخبار، وأحداث، ووقائع، فذلك لا يدخل في صلب اهتمامات الرؤية ولا يخدم أهدافها، فالبحث في صفحات التاريخ مجرداً، لا يضيف إلى الرؤية النظرية الفكرية السياسية شيئاً. ولذلك تؤثر الرؤية الاكتفاء بتقديم استخلاصات نظرية منهجية فكرية سياسية عامة حول ما تريد الوصول إليه. وبالعودة إلى التاريخ السياسي الاجتماعي الاقتصادي في ظل الإمامة، وخاصة في ظل الإمامة المتوكلية الحميدية، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وقيام الدولة الاستقلالية الشكلية المتوكلية الإمامية، بعد خروج الاتراك العثمانيين، تأكد معها ان الإمامة لم تعمل سوى أن ترث الاتراك مادياً، وسياسياً، وسلطوياً، ولم تقدم إجابات سياسية وطنية على أسئلة الاستقلال الحارقة، بل هي أعادت إنتاج ما كان قائماً في أسوأ صوره المأساوية، وتأكد أكثر ان الأفق السياسي الإمامي شبه الاقطاعي، غير قادر على استيعاب مشروع سياسي للتوحيد الوطني الداخلي في الشمال، بل ولا حتى مشروع سياسي لبناء جيش وطني حديث، ناهيك عن بناء دولة وطنية. فقد كان النظام، والمجتمع غارقين في تخلف شبه قروسطي، ولم يسمح نظام الإمامة المغلق على ذاته بفتح أي نافذة للنور، أو الإطلال على العالم من حوله، إلا بحدود ضيقة جداً، وفي نطاق تلبية مصالح صغيرة يومية تفرضها الحاجة السريعة لسير أمور النظام، وليس لها أي أثر في تطور الاقتصاد، والسياسة، والفكر، والمجتمع، فقد كانت البنية السياسية الاجتماعية الإمامية، بيئة طاردة للسكان، بيئة شقاقية وانشقاقية، ولا تقبل بالآخر، ناهيك عن حالة الاستبداد الثيوقراطي، الذي كان سبباً في الهجرة الواسعة والكبيرة النطاق إلى عدن، وإلى الخارج، وكان الفضاء السياسي والمكاني الجنوبي هو جسرنا وامتدادنا الجغرافي للتواصل مع العالم من حولنا، ومنذ أواخر عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بدأت المشاريع السياسية المختلفة تهل وتطرح على أرض الجنوب لتحديد هويته السياسية، والجيوسياسية، وكان حظ المشاريع الآتية من الاستعمار عديدة في هذا الاتجاه، ومنذ النصف الثاني من اربعينيات القرن الماضي، بدأ الفضاء السياسي الجنوبي، وتحديداً في مدينة عدن، يحتدم بالمشاريع السياسية المختلفة، وبدأت الملامح الفكرية والسياسية لخطاب الهوية للمدينة عدن، وللجنوب يعلن عن نفسه، وشهدت الحياة السياسية العدنية حالة خطاب سياسي واضح، خطاب الجمعية العدنية أولاً، وبعدها في صورة خطاب رابطة أبناء الجنوب العربي، وغيرها من المشاريع السياسية، التي وجدت مرتبطة بنشوء وظهور الحركة السياسية الديمقراطية المعارصة (الوطنية، والقومية، والاشتراكية)، والتي ظهرت متساوقة مع تحولات اقتصاديةوتجارية، وصناعية جديدة شهدتها المدينةعدن، وجميعها تيارات، وخطابات، حاولت تقديم إجابات فكرية وسياسية على سؤال الهوية السياسية والوطنية لعدن، وللجنوب برمته، في علاقته مع بعضه البعض، وفي علاقاته بامتداداته الوطنية في اليمن الطبيعية. ولا يمكننا حقيقة هنا إنكار أو تجاهل أثر نتائج الحرب العالمية الأولى، واتفاقية سايكس بيكو، على المنطقة، ونهاية الامبراطورية الاقطاعية العثمانية، بقدر ما لا يمكننا تجاهل الأثر الثوري التحرري لثورة أكتوبر الاشتراكية على كل الشرق، وخصوصاً على المنطقة العربية، التي هيأت جميعاً الأرضية السياسية التحررية لانتعاش الانتفاضات الفلاحية والقبلية والشعبية في كل الجنوب ضد الاستعمار البريطاني أولاً، وبعدها ضد الوجود الاستعماري الانجلوسلاطيني، بصورة واضحة وشاملة، وخاصة بعد أن أدرك الاستعمار البريطاني خطورة تطور الانتفاضات الفلاحية، والقبلية في جنوب الوطن، وبدأ معها وفي سياقها يسعى للحد منها وقمعها، وفي سبيل ذلك قدم مساهمته الأمنية والعسكرية في تشكيل حرس من أفراد القبائل لتحل محل المشاة البريطانيين، هذا بعد أن أدخل سلاح الجو كقوة ضاربة، وزاد من عدد قواته في جنوب البلاد، حتى إنشائه قوات حراسة لحماية النظام، في العديد من المناطق، تحت إمرة ضباط بريطانيين، وعرب، وبتمويل بريطاني، ومهمة هذه القوات ذات طبيعة مزدوجة، حماية حدود المناطق الداخلية وما حولها، وكذا حماية الحدود مع مملكة الإمام يحيى. وفي 1934م ثم تشكيل جيش محميات عدن (الليوي)، وفي عام 1937م أعلنت بريطانيا أن جنوباليمن مستعمرة للتاج البريطاني، بعد فصلها عن مستعمرة الهند الشرقية، وملحقة بوزارة المستعمرات البريطانية، خطوة لفرض الحماية والرعاية والتبعية على جميع المشيخات والسلطنات، والامارات، والمناطق، بعد ربطها بالعديد من المعاهدات، والاتفاقيات، وقسمت الجنوب إلى محميتين: محمية عدن الشرقية، والمحميات الغربية، على قاعدة «فرق تسد» ومع النصف الأول من الخمسينيات استكمل الاستعمار البريطاني فرض سيطرته وسلطته على جميع المحميات. لقد شكل الانتصار العالمي على الفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية، فاتحة تحررية وقومية إنسانية للعالم قاطبة، وكان لذلك قطعاً أثره الكبير في تزايد وتيرة الكفاح السياسي الوطني التحرري، وحركة المقاومة ضد الاستعمار البريطاني، وكانت مدينة عدن هي القابلة والحاضنة السياسية والوطنية، والتعددية التحررية، لفرز القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، وهي التي وفرت الأرضية الفكرية والسياسية لانتاج المفاهيم والأفكار الوطنية والتقدمية الجديدة، كما كانت هي القابلة السياسية والوطنية التي احتضنت ورعت الاحرار اليمنيين الفارين من حكم الإمامة، وفي مدينة عدن تشكل أول تنظيم سياسي معارض لهم، حزب الأحرار اليمنيين 1944م. لقد لعبت النوادي الثقافية والأدبية، والجمعيات الأهلية والخيرية، دوراً نهضوياً وتنويرياً ثقافياً، وفي سياق تبلور الهوية السياسية لعدنوالجنوب، ظهرت قبل الجميع الجمعية الإسلامية للتأكيد على الهوية الإسلامية لأبناء الجنوب، ولتوحيد مسلمي جنوب الجزيرة العربية، وبالموازاة لها، أو ضداً لتلك الدعوة ظهرت الجمعية العدنية، ذات الدعوة للهوية العدنية الخاصة بأبناء عدن، وهي تشمل جنسيات وقوميات وإثنيات متعددة، (عدنيين يمنيين، عرب، اجانب)، تحت شعار عدن للعدنيين كهوية سياسية اجتماعية، ثقافية، جغرافية، لأبناء عدن، ومطالبة بفصل عدن عن مناطق الجنوب، وعن جنوب الجزيرة العربية كلها، ومطالبة بحكم ذاتي لمدينة عدن مفصول عن المحميات، ووضعها ضمن دول الكومنولث البريطاني، ولم تكن الجمعية العدنية معارضة لاستمرار الوجود البريطاني في عدن وكل الجنوب. كما انها لم تشترك في الكفاح السياسي والوطني ضد الاستعمار، وبقيت الجمعيةالعدنية جماعة سياسية صغيرة منعزلة عن الواقع الجديد الذي بدأ يتشكل في كل الجنوب، كما ان الجمعية وصلت إلى درجة عدم القدرة على تلبية الطموحات والمطالب الاستعمارية الجديدة حول وحدة عدن والمحميات، حتى انقسمت على نفسها وتشرذمت، وفي هذا المناخ السياسي والاجتماعي والوطني، ظهرت رابطة أبناء الجنوب العربي، وهي لحظة مواجهة سياسية وتجاوز ابداعي وطني لمشروع الهوية العدنية حيث اتسع نطاق الهوية السياسية للرابطة، الداعي لوحدة أبناء الجنوب، تحت شعار تشكيل دولة واحدة لجميع أبناء الجنوب (جنوب الجزيرة العربية بما فيها مسقط وعمان) وكانت لرابطة أبناء الجنوب كهوية سياسية جديدة علاقات جيدة وقوية مع قيادة حركة الأحرار اليمنيين، وحزب الأحرار، ودورهم في مساندة الأحرار كبير وواضح. ومن معطف رابطة أبناء الجنوب خرجت وتشكلت الحركة السياسية الوطنية الديمقراطية المعاصرة بمختلف اسمائها، وتلاوينها الايديولوجية والسياسية والتنظيمية، ووجد الجنوباليمني نفسه في حالة احتشاد واحتدام لصراع هويات سياسية وفكرية واجتماعية، انتجت فيما بعد حالة وطنية يمنية جديدة، لم يعرفها كل التاريخ السياسي اليمني القديم، والوسيط، والحديث، حالة وطنية يمنية نوعية جديدة. لقد احتضن الفضاء الجيوسياسي الجنوبي جميع الهويات مستوعباً صراعاتها وتفاعلاتها، واحتداماتها في السياق الاجتماعي الوطني، منتجاً حالة ذهنية وسياسية ووطنية جديدة، هي نقلة نوعية في التفكير السياسي اليمني المعاصر، وخطوة باتجاه بلورة فكرة التوحيد والاندماج الوطني، وان كان محصوراً في نطاق الرؤية والخطاب، وهو ما تحاول هذه الرؤية ، إعادة تسجيله كتاريخ للفكرة، وللقضية. إن خطاب الحركة السياسية الوطنية الديمقراطية المعاصرة، الذي نما وتشكل على قاعدة الجغرافيا السياسية الجنوبية، هو أول من بلور وانتج صيغة وحالة الوطنية اليمنية المعاصرة، وهو أول من قدمها في صورة مشروع سياسي وطني، حول الوحدة اليمنية، وكان سياسياً، وموضوعياً، وتاريخياً، هو التجاوز والنفي السياسي والوطني لمشاريع الاتحادات والوحدات القبلية والعسكرية والدينية القديمة (في صور مشاريع وحدات شمر يرعش، والمكاربة وجميع الاقيال، والاذواء، أو القيادات الاقطاعية السياسية القائمة على قاعدة الوحدة بالحرب والدم).