ترى كيف يقرأ الإنسان الأحداث؟ ولماذا يختلف عليها؟ وما دلائل اختلافه هذا؟ هل الاختلاف طبيعة بشرية؟ أم أنه نتاج صيرورة تاريخ النوع البشري التي تتغير وتتطور مع تغير وتطور تاريخه على هذا الكوكب؟ لا شك أن هناك أساسا ما يفسر مثل هذا التباين والاختلاف، فما هو هذا الأساس إذن؟ سأحاول الوقوف على هذا الأساس من خلال منهج حفري يقوم بقراءة الظاهرة من أعلى إلى أسفل عبر معطياتها وتراكماتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية، ومن ثم البيولوجية والطبيعة للكائن البشري، بصفته فاعلا في محيطه ونتاج ذلك المحيط في الوقت نفسه. وآمل أن أتمكن بهذا المنهج من إيضاح الفكرة والوصول إلى ذهن القارئ إذا ما تمكن من الربط بين منعطفات وتعاريج السطور التالية: تمثل الأحداث مختبرات حقيقية لدراسة نوازع ومحركات النفس البشرية، ومثالنا على ذلك الحدث المصري الذي يعد نموذجاً بارزاً في كيفية تعاطي الإنسان مع الحدث قراءة وفمهاً، قراءة يمكن أن نقرأ من خلالها طبيعة النوع البشري وتطور مسيرته التاريخية بمعطياتها وكوابحها الراهنة، ومآلات تلك المسيرة. فبحث وتحليل هذا الحدث تبين لنا أن من يرى الحدث من زاوية أن الجيش أطاح برئيس منتخب، سيصل إلى نتيجة بأن ما حدث هو انقلاب عسكري. ومن يرى الحدث من زاوية أن الجيش استجاب لخروج ثلاثين مليون مصري خرجوا مطالبين بعزل رئيس رفض العودة إلى الشعب لإجراء انتخابات مبكرة، سيصل إلى نتيجة بأن ما حدث هو ثورة وليس انقلاباً. وتفسيري، عند هذا المستوى من التحليل، لهذا التباين، راجع إلى الكوابح والمعوقات التالية: 1- الأيدلوجية: فمعتنقي الأيدلوجيات اللاهوتية سيقفون مع مسمى الانقلاب العسكري، ومناهضيها سيقفون مع مسمى استجابة الجيش لإرادة الشعب كما حدث حين الإطاحة بمبارك. 2- المصالح: فالقوى المتضررة من التغيير على الصعيدين الداخلي والخارجي ستقف مع مسمى الانقلاب العسكري، والقوى المستفيدة منه ستقف مع مسمى استجابة الجيش للإرادة الشعبية. 3- مستوى الوعي: فذوو الوعي السطحي ممن يفهمون ويفسرون الظواهر مبتورة عن أسبابها وأساساتها سيقفون مع مسمى الانقلاب العسكري، وذوو الرؤى العميقة والموضوعية، سيرون أن الجيش الذي انحاز إلى صفوف الجماهير في 30 يونيو ضد مرسي هو نفس الجيش الذي انحاز إلى صفوف الجماهير في 25 يناير ضد مبارك. ولا يستقيم المنطق بتسمية أحدهما ثورة والآخر انقلابا. وفي كل الحالات المصالح والحقائق الاجتماعية أكثر تأثيراً وفاعلية في الحياة من الحقائق العلمية، إذ لا يستطيع المنطق العلمي أن يلغي انحيازات ونوازع ومصالح النفس البشرية مهما كانت قوة براهينه. هكذا هو الإنسان عند هذا الطور المتدني من الوعي، قد تحدث نقلة أخرى في مسيرة هذا الكائن بعد بضعة آلاف أو عشرات الآلاف من السنين، وعندها سنكون أمام منطق آخر لا يشبه منطقنا اليوم ولا يلتقي معه، إلا بالقدر الذي يلتقي فيه منطقنا اليوم بمنطق أسلافنا من الكائنات الدنيا. فالمعطيات العملية المتاحة تذهب إلى أن عمر النوع البشري حوالي 65 مليون سنة مقارنة بعمر الكوكب الذي يعيش عليه، والذي يتجاوز أربعة ونصف مليار سنة، من أصل خمسة مليار سنة هي العمر الافتراضي للكوكب، أي أن النوع البشري لا يزال في مرحلة الطفولة بينما الكوكب الحامل له يعيش مرحلة الشيخوخة، ولكن بقي من هذه الشيخوخة حوالي نصف مليار سنة، وهي كثيرة فعمر الإنسان مقارنة بعمر الكوكب أشبه بفقاعة تظهر وتختفي في طرفة عين، فإذا لم يتعرض النوع البشري لحادث كوني أو بيئي مميت خلا هذه الملايين من السنين فبإمكانه في جزء بسيط منها أن يغير الكثير، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار معطيات واقع التطور العلمي والتقني المتسارع، حيث أنجز الإنسان منذ اختراع المحرك في سبعينيات القرن السابع عشر، أي خلال 300 سنة تقريباً أكثر مما أنجزه خلال 65 مليون سنة من تاريخه، وعليه فإن ما سينجزه الإنسان خلال بضعة آلاف أو عشرات الآلاف من السنين سيكون حاسماً ليس على مستوى التطور التقني وريادة واستعمار أطراف الكون فحسب، وإنما على مستوى إحداث نقلة وطفرة في النوع البشري نفسه، فأحفادنا بالتأكيد لن يشبهونا إلا بالقدر الذي نشبه فيه أسلافنا من الكائنات الدنيا. هذا ليس خيالاً ولا شعراً وإنما هو حساب منجزات النوع البشري خلال بضع مئات من السنين ومقارنتها بعمره السابق وما بقي له من عمر قبل أن يفنى هذا الكوكب الحامل له. والذي قد يغادره إلى أطراف سحيقة في هذا الكون قبل ذلك اليوم بوقت قد يطول. فخلال 100سنة فقط من التطور التقني شكلت الفرق بين سرعة الجمل والحصان وسرعة الطائرة والصاروخ وهي في حدود ألفين كيلومتر في الساعة، ماذا لو أننا تمكنا في ظرف عشرة آلاف سنة من الوصول إلى صرعة الضوء 300 ألف كيلو متر في الثانية، وتمكنا من مضاعفة قدرات المناظير وأشعة موجات الراديو آلاف المرات، وهي المعوقات الثلاثة الرئيسية في وقتنا الراهن التي تحول بيننا وبين استكشاف الفضاء البعيد؟ ماذا سيحدث حينها؟ طالما والقياس هنا بآلاف وعشرات آلاف من السنين فلا أستبعد أن يكون بمقدور أحفادنا حينها الذهاب للهو في محيط كوكب المريخ والعودة لتناول الغداء مع آبائهم.لا شك أن ريادتنا لأطراف الكون واتصالنا بحياة وكائنات ذكية لن يشكل ثورة في كيفية تعاطينا مع محيطنا الكوني فقط، وإنما سيشكل ثورة عقلية وذهنية وقيَمية، بحيث لن نعود بعد الحدث كما كنا من ذي قبل، وإنما نصبح كائنات مختلفة تماماً. فالحدث لا يغير الواقع المادي والاجتماعي للمجتمع وإنما يغير الواقع الذهني والعاطفي للكائن للإنسان. صحيح نحن نصنع الأحداث ولكنها تصنعنا في الوقت نفسه.التاريخ يخبرنا بوقائعه الثابتة أن الإنسان كان أكثر وحشية وأقل وعياً وإنسانية مما هو عليه اليوم. وغيرتنا أحداث فاصلة مثل اكتشاف النار واختراع المحراث، وتدجين الجمل والحصان، واكتشاف الحديد، واختراع السيف والقوس والنُشاب، واختراع منظومة الصرف الصحي التي مكنتنا من بناء مدن متسعة، واختراع الأسبرين، واختراع المغزل والنظار الفلكي والمطبعة والمحرك والذرة. وقياساً على نفس المنوال ليس بوسعنا أن نفترض إلا أن الإنسان سيكون في تاريخه المستقبلي البعيد أقل وحشية وأكثر تقنية، ومن ثم أكثر وعياً وإنسانية. في ذلك الوقت القادم البعيد سوف ينظر أحفادنا إلى الكوابح الأيدلوجية والمادية والذهنية التي نعاني منها اليوم على أنها كانت من صفات كائن أثري وتاريخي قديم كان يعيش على كوكب يسمى الأرض، تحدر منه كائنهم المعاصر حينها. أي أن الكوابح التي نعاني منها اليوم ليست طبيعة بشرية وإنما هي ضرورة تاريخية. النظرة الشمولية والكونية ضرورية لنا كبشر فبها ندرك من كنا بالأمس ومن نحن اليوم ومن سنكون في المستقبل، وبدونها نظل حبيسي دوامة من الوهم لا مخرج منها. د. ناصر محمد ناصر