تفيض تجربة الفنان هاشم علي باحتياطات وافرة من المعالجات الواقعية ذات الآفاق التجريبية الأشبه بالنحت على صخر.. فالفنان هاشم علي مقيم في مرابع تأملاته وقراءاته ومشاهداته منذ ستينات القرن المنصرم وربما قبل ذلك.. وكان اختياره القنوع بالإقامة في مدينة "تعز" حالة موصولة بالبيئة المحيطة المترعة بالألوان والفولكلور وثقافة العمل الشاق والشواهد التاريخية. لقد تحولت تلك البيئة عنده الى معين لا ينضب، ومدد يغترف منه الفنان متجولاً في ظواهرها وما يتجاوز تلك الظواهر، رائياً لفلسفة التوازن وحكمة الاستمتاع المضني بالحياة، كاشفاً لعناصر تلك الحياة الحقيقية، غير آبه بما سوى ذلك من غايات صغيرة كثيراً ما تشكل مصيدة قاتلة للمبدعين. بهذا القدر من الاستقامة القنوعة كان مرسمه مدرسة أولى لكثرة من الفنانين سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. فقد دأب تلاميذه المباشرون على سلوك ذات الدرب وإعادة تدوير متوالية الفنان "المعلم" حتى صارت المدرسة الواقعية السحرية للفنان هاشم علي بصمة تطال كوكبة واسعة من التشكيليين اليمنيين.. بل أنها الأبرز حتى اللحظة في الساحة الفنية التشكيلية اليمنية. السر الأكبر في إبداعية وأسبقية هاشم علي في درب التأصيل المعرفي والذوقي للتشكيل اليمني المعاصر يكمن في نزعته "النووية الدائرية" التي استقرا فيها المكان الواحد بوصفه مكاناً يتجاوز حدود المكان، ومحطة تتواشج مع اللامرئي من الأمكنة واللاملموس من الأزمنة، نزعة فلسفية تبلورت في دواخله عطفاً على فضاءات التأمل والكسل الفلسفي الذي أحاطه بأنسجة حريرية من تقاطعات الفكر والانطباعات والرؤى والمقاربات، حيث كان مرسمه ومازال مساحة أخرى لما يتجاوز التشكيل، وقراءات لآداب عربية وأجنبية تنبع أساساً من لغة شكسبير التي يجيدها والتي توفر لعشاق المعرفة دروباً سالكة وروافد متعددة لقراءة ما يشبع نهمهم للمعرفة. منذ ستينات القرن المنصرم وهو يرسم دون توقف، وبالمقابل يحافظ على ذلك الفراغ "الاختياري" مع الآخر المقلق. والزمان المفعم بالصغائر.. وأحوال المكان التي تتهادى كعواصف الرمل. هذه الخاصية لا تنتمي لموقف سلبي تجاه الوجود والآخر، بل أنها تحاول الإمساك بأهداب الممكنات عطفاً على دهريه الزمن وتحولاته القاهرة، ولهذا السبب بالذات ظل يحايث موضوعات البيئة المحيطة، ويرسم أحوالاً وشواهد، ويناغم بين المرئي والمبهر، اللامرئي الموحي، فيما سنمثل له في بضع قراءات بصرية. * 7 أعمال دالة مجموعة الأعمال السبعة التي نحاول قراءتها في هذه المقاربة تحيلنا مباشرة الى الفاعلية الاستثنائية لألوان الفنان، بل الى واقعية أقرب لواقعية "ماركيز" السردية، حيث تتواشج الألوان مع إيحاءات وفضاءات سديمية أقرب الى منامات الأحلام، إخلال جوهري بالهارمونيا (التناغمية) اللونية المألوفة الى تناغمية مبتكرة (تصل/ وتفصل) بين المتقابلات فيما تجترح تجويزات لونية مدهشة. وفي خلفيات موضوعاته ذات الطابع الحركي (الديناميكي) يغيم الأصل ويتماهى مع المدى المفتوح في إشارة تحيل الخلفيات (back ground) التقليدية الى حالة احتضان حميم ومتناغم مع موضوع اللوحة، فلا فصل بين الكائنات والطبيعة، ولا خصوصية لعنصر على آخر، ولا معنى للتركيز على جزئية بذاتها ففي لوحتي المرأة مع الحمار نرى أن العناصر المشار إليها لا تقف عند حدود الابتكار النغمي في العلاقة بين عناصر اللوحة بل تسمح لحركية الأجسام بقابليات للتمدد والانكماش، كأنها موصولة بقوانين الفيزياء اللامرئية.. في لوحته التي نشاهد فيها امرأة على ظهر حمار يجري مندفعاً يركز الفنان على وجه الحيوان ويمدده لأسباب تعبيرية إيحائية.. فيما تكون الراكبة حالة موازية لهذا التمدد.. (الرجل الممدودة واليد الأطول من مداها المألوف.. أيضاً درجة تحرير الأنساق اللونية وتجويز الغنائية البصرية المموسقة دونما عناء أو تخشب). * أعمال استاتيكية ذات الحالة نلاحظها بصورة مغايرة في أعماله التي يمكن وصفها "إجرائيا" بالثابتة أو الاستاتيكية وهي في مجملها تدوير لعديد من البورتريهات الفردية والجماعية مع إقامة مديدة في الموسيقى اللونية الموصولة بعالم البهاء والفولكلور والملابس. في هذه التجربة يركز الفنان على الألوان مع اعتبار ضمني لمصادر النور والضوء.. يقدم مفردات بصرية تتسم بدرجة عالية من التكوين المتوازن والاختيارات الممعنة، لا يسمح لغواية الريشة بأن تخربش هدفه المركزي المتعلق بالإشارة الى موسيقى الوجود المرتبطة بثقافة العمل اليمانية ذات الجذر العميق في التاريخ، يتوسل الى العيون ليكشف المتعة والصفاء الداخلي، القوة الحقيقية النابعة من التجاذب مع معطيات الحياة وضروراتها، يسجل الحالة الأبهى لامرأة الزمان والمكان التي تنشر ظلال حضورها الإنساني المبدع كعاملة فاعلة في الإنتاج والعطاء الموفور، كأنما يومئ ضمناً لتلك المرأة المصادرة وراء جدران المدن "الارستقراطية المنحلة" المفارقة لثقافة اليمن التاريخية والقابعة في ظلامات الأبوية البربرية. * جواهر الجبال وفي اللوحة المنشورة للمنازل القروية المتناثرة في قمم الجبال نقف على شاهد كبير لأحوال العمارة والبيئة والتراث، فاليمانيون دأبوا تاريخياً على بناء قراهم فوق قمم الجبال كنوع من فلسفة الاعتماد على الذات، فالقرى التاريخية المتناثرة في قمم الجبال تعتمد في تدوير حياتها على مياه الأمطار الموسمية التي يتم تخزينها في صهاريج حجرية كبيرة منحوتة في قلب صخور الجبال، وكافية لتأمين مياه الزراعة والاستخدام الآدمي حتى موعد أمطار موسمية جديدة، والزراعة المروية بمياه الأمطار تتم عبر بناء المدرجات الجبلية من أعلى الجبل الى سفحه باستغلال عقلاني للمساحات المتاحة وعن طريق عمل شاق يعكس إرادة وروحية مناجزة لإيقاع الحياة، فالتربة يتم تأمينها من أدنى الوادي، وترصف الحجارة وتتم تسوية المدرجات ثم استزراعها انتظاراً للأمطار، ويعتمد سكان القرى المعلقة في تلك القمم الخرافية على خيرات الأرض ودوابها ونباتاتها البرية المستخدمة للعلاج، حتى إنهم يكونون في حالة اكتفاء تام، لا علاقة لهم بالعالم كله. لا يريد الفنان هاشم علي الإشارة فقط الى هذه الحقائق الماثلة عياناً الى يومنا هذا، بل يسجل ذلك التوازن المدهش بين الإنسان والطبيعة، وذلك الرشد العاقل في التفاعل مع البيئة، حيث يعطي لكل ذي حق حقه، فللنباتات مداها المفتوح، وللحيوانات بيئتها الطبيعية، وللإنسان ما يكفيه. ألا يمثل هذا السلوك رداً عميقاً على همجية الإنسان المعاصر وتهافته على المكاسب متناسياً أنها لن تدمر الطبيعة والأحياء الحيوانية فقط، بل ستدمره هو بالذات. ينبهنا الفنان الى خطورة ما يجري الآن حيث تهجر هذه القرى وتموت فيها أسباب تدوير الإنتاج والحياة، وتندثر المعالم أمام مرأى ومسمع الجميع. ها هي صرخة أخرى توجه للمعنيين بهذه الحقيقة الفريدة في تاريخ اليمن وثقافته، وقد التقطها الفنان الأديب والوزير خالد رويشان، الذي بدأ لتوه في تكريس بعض ذاكرة المؤسسة الثقافية والسياحية اليمنية للنظر الى مصير تلك القرى. من الناحية الفنية تتجلى خصوصية وحنكة الغنائية البصرية الموحية للفنان في مثل هذه اللوحة التي يكتنفها الغموض الجميل، وتتراتب فيها عوامل النظر والبصر مذكرة بخروجات الانطباعيين الأول في فرنسا، ولكن بقيم روحية مغايرة تماماً. "عن صحيفة الخليج"