ما يحاوله مارك أورين في ختام كتابه هو التوصل إلى حد أدنى من الوضوح فيما يتعلق بصلات الولاياتالمتحدة المستقبلية بالشرق الأوسط. غير ان ما يخرج به القارئ من الفصل الثامن والعشرين من الكتاب الذي يحمل عنوان «حرب الثلاثين عاماً»، وهي الحرب التي يرى أنها شكلت اطار علاقات واشنطن بالعواصم العربية منذ عام 1981 حتى اليوم، ومن مختتم الكتاب أيضاً هو أبعد ما يكون عن الوضوح، وربما كان المنهاج السليم هنا هو أن يطرح القارئ نفسه الأسئلة الأكثر أهمية حول هذه العلاقات وأن يتصدى للإجابة عنها بنفسه أيضاً. والمؤلف يختزل في هذا الفصل الأخير علاقات أميركا بالشرق الأوسط منذ اليوم الأول لإدارة ريغان وحتى ورطة ما بعد غزو العراق، فلا يملك القارئ إلا التساؤل: كيف جميعاً؟ يكفي ان نتذكر ان المؤلف يقدم لنا أحداث الحادي عشر من سبتمبر على النحو التالي، في صفحة 582 من كتابه: «ماتت التصورات الفانتازية المتعلقة بالشرق الأوسط على حين غرة في الساعة الثامنة والدقيقة السادسة والأربعين من صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001. ففي تلك اللحظة اصطدمت طائرة نفاثة كانت في طريقها إلى لوس انجلوس، بعد ان اقتادها ارهابيو القاعدة، وهي تقل اثنين وتسعين راكبا وعشرة آلاف جالون من الوقود بالبرج الشمالي لمركز التجارة العالمي وعلى النحو نفسه سيكون رعب اصطدام طائرة يونايتد إيرلاينز مختطفة بالبرج الجنوبي بعد سبع عشرة دقيقة». وعلى الصفحات التالية نرصد عرضاً لاهثاً لغزو ربع مليون جندي، 90% منهم من الأميركيين، للعراق، وكيف أن الزهور والأرز لم تكن في استقبالهم، وإنما مقاومة سرعان ما تتحول إلى المستنقع الدموي الراهن. - رؤية للمستقبل: على الرغم من أن التساؤل حول مستقبل علاقات الولاياتالمتحدة بالشرق الأوسط هو موضوع يستحق اهتماماً خاصاً إلا أن المؤلف يخيب أمل القارئ مجدداً حين يمنح هذه الموضوعات مساحة بالغة الضآلة من كتابه وجهداً عابراً أيضاً. وهو يشير في هذا الصدد إلى أن النقاش حول الطبيعة الجوهرية للشرق الأوسط وعلاقاته بالولاياتالمتحدة لا يظهر أي إشارة إلى انحساره أو تراجعه، فالشعب الأميركي الذي سعى تقليدياً إلى تحويل المنطقة إلى مرآة للولايات المتحدة، يمكنه اليوم أن يرى انعكاسه المهشم على صقال مرآة العراق المتكسرة. وهذه الانكسارات، حسب رؤية المؤلف، يحتمل أن يتسع نطاقها. وفي المستقبل تلوح صدامات محتملة لا تفتقر إلى النطاق الهائل بين إيران وأطراف أخرى في المنطقة. وإذا كنا نلمح هنا التفكير الإسرائيلي بالتمني في اشتعال الشرق الأوسط، فإن المؤلف لا يتردد في الذهاب إلى توقع معاودة اشتعال ما يسميه ب «النزاعات» بين الفلسطينيين والمجموعات التي تحظى بتأييد الإيرانيين، الأمر الذي لابد للأميركيين من التورط في عواقبه. وهنا ينتقل المؤلف إلى تناول النفط، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً في أذهان الكثيرين على امتداد العالم بالشرق الأوسط، والذي يقول إنه يتعين على العالم أن يجد بديلاً له كمصدر للطاقة، والذي يزداد ندرة وترفع تكلفته كل عام، حيث يشير إلى أنه قد يواصل إيقاد حرائق من شأنها أن تلتهم الثروة من الموارد البشرية الأميركية. ويتابع مارك أورين نبوءاته، التي تجعله يشبه كساندرا، العرافة المأساوية التي تطل في الغيب لتحكي عن الدم والدخان والنار، فيقول إن الولاياتالمتحدة إذا أكملت، على نحو ما هو متوقع، انسحابها من العراق بحلول عام 2009، فإنها ستكون قد أتمت ثلاثة عقود ممتدة بلا انقطاع من الصدامات المحتدمة في الشرق الأوسط. وهو يتوقع أن نهاية حرب الثلاثين عاماً هذه قد لا تفضي إلى شيء إلا أن تكون إيذاناً باندلاع صراعات أخرى ربما تكون أكثر تدميراً تدوم وقتاً طويلاً في القرن الحادي والعشرين. ويختتم أورين الفصل الأخير من كتابه بالإشارة إلى أنه على الرغم من هذه الزلازل والنوائب، فإن الولاياتالمتحدة يمكن توقع أن تمضي قدماً في نماذجها التقليدية من التورط في الشرق الأوسط. ولكن ما الذي يعنيه هذا على وجه الدقة؟ إنه يعني، حسب تعبير أورين، أن صانعي السياسات الأميركيين سيواصلون المضي قدماً بمهمتهم المدنية باعتبارهم وسطاء ومحررين في المنطقة، ويكافحون من أجل إقرار «سلام أميركي» فيها. والكنائس وجماعات التبشير الأميركية ستواصل السعي ل «انقاذ المنطقة» روحياً، ومنتجو الأفلام التي تدور حول الشرق بكل ما فيه من غموض وتهديد لن ينقصهم الجمهور أبداً، والموضوعات التي أفرزت في غمار ما يزيد على قرنين من الزمان من تفاعل أميركا مع الشرق الأوسط سوف تواصل إبراز هذه الصلات وتوثيقها وتحريكها على امتداد أجيال. من حق القارئ العربي أن يبادر إلى التساؤل: هل المؤرخ مارك أورين جاد في هذا الذي يقوله؟ ونرد بالقول إنه إذا لم يصدق ان هذا الكلام كتبه أورين ونشرته دار جادة ومحترمة، مثل دار نورتون ناشرة الكتاب، فما عليه إلا أن يقرأ الصفحات العشر التالية التي يقدمها لنا المؤلف تحت عنوان «مختتم». بهلوانيات عجائبية بدلاً من أن يقدم أورين في هذه الصفحات العشر خلاصة رصينة لدراسته، فإنه يقدم بهلوانيات عجائبية يقارن في إطارها بين رحلة جون لديارد، الذي كان أول مغامر أميركي يطرق أبواب الشرق الأوسط قبل ما يزيد على قرنين من الزمان وبين ناتانيل فيك ضابط القوات الخاصة الذي جاء إلى الشرق الأوسط في معية قوات غزو العراق. والمؤلف ينقل عن فيك قوله في معرض تذكره لانطباعاته الأولى عن الشرق الأوسط «أحسست بالتشتت بصورة مطلقة وبالحيرة التامة وبأنني في قاعة مرايا». وهذا الإحساس الذي خامر فيك لا يمكن إلا أن يكون طبيعياً، فهو قائد سرية قوات خاصة عبرت الحدود الكويتية إلى العراق في 20 مارس 2003 على رأس فرقة المارينز الأولى للقيام بعملية استطلاع للدفاعات العراقية، وهو يتساءل «كيف يمكن أن تفهم أين أنت بينما ليس بمقدورك حتى أن تقرأ لافتات الشوارع؟». وربما كان فيك محقاً، فالعراقيون الذين لم يستقبلوه بالأرز والزهور، كما كان يتوقع، لم يقوموا أيضاً بتغيير لافتات شوارعهم وكتابتها بالإنجليزية لإدخال السرور والاطمئنان على نفسه. يقول أورين إن فيك وزملاءه الذين استبدت بهم الحيرة بصورة متزايدة حول دورهم العسكري غير الواضح في العراق الذي يتمزق بين الديمقراطية والفوضى انتهى بهم الأمر إلى أن تصبح مهمتهم هي البقاء على قيد الحياة ومحاولة تحسين حياة العراقيين بقدر ما في وسعهم. ويضيف إن القوات الأميركية بينما تحاول حماية نفسها من مخاطر الشرق الأوسط وتساعد أبناء المنطقة إنها تكرر من الناحية العملية أقدم تورط أميركي في الشرق الأوسط، وذلك بالطبع في إشارة إلى «حرب السنوات السبع» بين أميركا ودول المغرب العربي بعيد استقلال المستوطنات السابقة عن التاج البريطاني. ومن هذا الفهم المغلوط أساساً للعلاقة بين أميركا والشرق الأوسط يعيد المؤلف سرد رواية تدخلات الولاياتالمتحدة في المنطقة، من دون أن يفلح لا في الكتاب نفسه ولا في هذا الموجز في إيضاح أي «مساعدة» على وجه الدقة حاول الأميركيون تقديمها للمنطقة في أي وقت من الأوقات على امتداد قرنين من الزمان باستثناء مساعدة إسرائيل على أن تكون القوة الأكثر تسليحاً وعتاداً وعدوانية وتسلطاً في الشرق الأوسط. أخطاء رهيبة مرة أخرى يعود مارك أورين إلى الضابط الأميركي ناتانيك فيك لينقل عنه عبارة واضحة الدلالة يقول فيها: لقد وقعت أخطاء رهيبة، فقد فشلنا في إيقاف النهب، وأخفقنا في إغلاق الحدود، وقمنا بحل الجيش العراقي. ويوضح لنا المؤلف أن فيك نشر لتوه يومياته عن حرب العراق في كتاب بعنوان «على بعد طلقة» وانه قد تقدم لمواصلة الدراسات العليا في نشاط الأعمال والحكومة، وأنه كتب يقول: «لقد كنا عمياناً، كنا أقوياء ولكننا لم نكن أذكياء». ويشير المؤلف كذلك إلى أنه ناقش فيك حول أفكاره خلال شربهما القهوة معاً في أحد مقاهي حرم جامعة كامبردج. وينقل عنه قوله: «لقد زرت أربعة بلاد في الشرق الأوسط، لكنني لم أستخدم جواز سفري في أي منها». لكن الفقرة المهمة من كلام فيك ستأتي، أكثر وضوحاً وإيجازاً وأعمق دلالة، فهو يقول فيما ينقله عنه أورين: « لقد آمنت بالحرب ومازلت أؤمن بها.. وأبناء الشرق الأوسط يمكنهم السير في درب التحديث أو المضي في الطريق الذي مضت فيه إفريقيا جنوب الصحراء. إن الخيار متروك لهم». بغض النظر عما يقوله فيك، فإننا لا نملك إلا أن نلاحظ الفارق بينه وبين جون ليدبارد، وهو نفسه الفارق بين أميركا سنوات البداية وأميركا اليوم. وإذا كان ليديارد قد وصف رحلته إلى الشرق الأوسط، عن صواب أو خطأ لا يهمنا هذا الآن كثيراً، بأنها «عبور إلى المجد» على نحو ما عبر، فإن رحلة فيك وزملائه إلى الشرق الأوسط، التي لم يستخدم فيها جواز سفره رغم عبوره أربعة بلاد عربية، كما يقول متباهيا، ليست إلا سقوطاً في مستنقع دموي موحل. عود على بدء لقد رأينا في مستهل تناولنا لهذا الكتاب كيف أن دار نورتون قدمته للقراء على امتداد العالم باعتباره العمل الذي يسد فراغاً حقيقياً في المكتبة العالمية حيث يقدم تغطية شاملة لأكثر من 230 عاماً من علاقات الولاياتالمتحدة بالشرق الأوسط. ورأينا أيضا كيف أن والتر راسل ميد من مجلس العلاقات الخارجية الأميركية قد اعتبر هذا الكتاب إنجازاً بارزا، وعملاً مهما سيغير الطريقة التي ينظر بها الأميركيون إلى دورهم في الشرق الأوسط وما وراءه. والمؤرخ نيال فيرجسون من جامعة هارفارد ومؤلف كتاب «العملاق الهائل» لا يتردد في القول إن القارئ إذا اعتقد أن تشابك أميركا مع الشرق الأوسط بدأ منذ روزفلت وترومان فإن كتاب أورين سيكون بمثابة اكتشاف له. ويصف مايكل برنشتاين في صحيفة «نيويورك تايمز» الكتاب بأنه عمل قوي وصورة تستقطب الاهتمام». وبوسعنا أن نستطرد فنورد المزيد والمزيد من هذه النوعية من الكتابات التي تنتمي في جوهرها، إلى الآليات التي تستخدمها صناعة النشر الغربية في الترويج لما تقدمه من كتب. غير أن الحقيقة الأساسية تظل قائمة، وهي أن المكتبة العالمية لا تزال تفتقر إلى سفر جامع، شامل،علمي، موثق يتناول المئتين والثلاثين عاماً التي تمتد عبرها العلاقات بين أميركا والشرق الأوسط، فكتاب أورين يعاني من مشكلة حقيقية هي أنه من خلال الخلط بين الأجناس البحثية قدم لنا عملاً يذهب عميقاً في تقديم مسرد بالرحلات والمغامرات الأميركية ثم يزعم لنا أنه يقدم دراسة تاريخية جادة لقرنين من هذه العلاقات أو يزيد بينما ما لدينا ليس إلا تلخيصا لوقائع الستين عاماً الأخيرة من هذه العلاقات كل تفاصيله موجودة بالفعل بين أيدي القراء. وعلى امتداد الجزءين السادس والسابع من الكتاب تتعدد التلفيقات التي يقدمها المؤلف بخصوص العلاقة بين إسرائيل والولاياتالمتحدة، وهي العلاقة التي يلخصها هو نفسه بأنها رحلة قامت بها تل أبيب من وضعية الصديق المقرب لأميركا إلى وضعية الحليف الوحيد في المنطقة. وعلى الرغم مما يشير إليه بعض المعلقين على الكتاب ومنهم فيرجسون من دقة البحث التي أنجز العمل في ظلها، إلا أننا سرعان ما ندرك أن الدقة الوحيدة الموجودة بين أيدينا هي الدقة في الكذب وتضليل القارئ الغربي حول أبسط وقائع التاريخ الحديث في المنطقة. وهذا ليس بالأمر العجيب، فالقارئ يعرف أن إسرائيل استخدمت منذ البدايات المبكرة الكذب كأداة للعمل الدعائي والتضليلي بما في ذلك المطبوعات التي تأخذ طابع المشروعات البحثية الكبيرة. هذا هو على وجه الدقة ما يجعلنا نتطلع إلى جهد بحثي عربي كبير تتصدى له المؤسسات البحثية أو يتصدى له باحثون عرب لانجاز عمل متكامل يغطي امتداد العلاقات التي ربطت الولاياتالمتحدة بالمنطقة على امتداد 230 عاماً.