يحكى أن إحدى القرى كانت تشتكي من الموت المتكرر يومياً بين أفراد القرية نتيجة شربهم من ماء البركة الوحيدة المتواجدة في القرية وهي مصدر استقرارهم ومعيشتهم مع حيواناتهم، فتطوع أحد رجال القرية لمعرفة سبب موت أفراد القرية نتيجة شربهم من ماء البركة وتبين له بعد التحري والتحقق والبحث والتقصي أن هناك حية سامة تعيش بجوار تلك البركة تخرج ليلاً وتبث سمومها في تلك البركة ما يؤدي إلى موت أفراد القرية وحيواناتهم، فما كان من ذلك الرجل المتطوع إلا أن اخذ فأساً حاداً ومكث بجوار تلك البركة ينتظر خروج تلك الحية القاتلة السامة ليقطع رأسها بتلك الفأس الحادة وعند خروجها هوى بالفأس على رأسها وأصابها بجرح خطير إلا أنه لم يقض عليها ولكنها لم تخرج بعد ذلك لبث سمومها، وشرب الناس من البركة ولم تحدث أي حادثة وفاة ومرت السنوات ومضى قطار عمر ذلك الرجل المخلص الذي تطوع للقيام بقتل الحية وعندما أحس باقتراب منيته قال لنفسه: لابد أن أصالح وأسامح كل إنسان قمت بإيذائه أو ظلمه أو الاضرار به، وبعد أن سامح وصالح الجميع تذكر أن هناك حية لم يتصالح معها ولم تسامحه على ما اقترف في حقها حين هوى بفأسه على رأسها وكاد أن يقضي عليها فذهب إلى تلك البركة يترقب خروج تلك الحية أياماً وليالي بل شهوراً. وفجأة خرجت تلك الحية السامة في إحدى الليالي المقمرة ووجدت أمامها ذلك الرجل صاحب الفأس يقول لها: اشعر بأن أجلي قد اقترب وأن منيتي قاب قوسين أو أدنى كما ترين حالتي وضعفي وقد تصالحت وتسامحت مع كل الناس فلم يتبق أحد أتصالح معه إلا أنتِ فهل تسامحينني قبل أن يحاسبني الله في الآخرة فقالت له: كيف اسامحك واصالحك وهذا أثر فأسك واضحاً في رأسي. كتبت وتذكرت هذه القصة في الوقت الذي يتحدث فيه الناس في الجنوب عن قيمة التصالح والتسامح وهي من القيم الإنسانية التي حضت عليها الأديان السماوية والقوانين الوضعية فالدين يقول لنا (ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ويقول لنا: (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وأمر بالتعاون والتكافل والتسامح والتصالح وقال عن الصلح بأنه خير وقال لنا (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وحض على اجتناب التفرق والتمزق والتشتت لأن ذلك يولد الضعف والتنازع والحقد وأن التجمع والتقارب والتآلف والتعاضد قوة ومنعة، ولكن ينبغي أن يكون هذا التصالح والتسامح بين الضحية والجلاد لا بين ضحية وضحية وذلك من خلال قيام الجلاد والمتسبب في مآسي البلاد والعباد بالإقرار والاعتراف بالذنب والجريمة تجاه ضحيته بل ضحاياه وان يقوم بتعويض الضحايا عن حقوقهم التي أهدرها، بعدها يقوم الضحايا بقبول تلك التعويضات التي لاتسقط بالتقادم أو عدم قبولها ثم تأتي مرحلة التسامح وتكلل بالتصالح والثقة المتبادلة .وينبغي أن تكون هناك مصارحة قبل المصالحة مبنية على صدق النوايا من بداية التفكير بهذه الخطوة الحضارية المتمثلة في التصالح والتسامح حتى منتهاها مع عدم نسيان أن الهدف من هذا التسامح والتصالح هو توحيد الكلمة والصف من اجل استعادة الحقوق والتفكير بعقلية الرجل الواحد لا بعقلية الجماعات والفئات والاحزاب المتنافرة والمختلفة بل المتضاربة التي لا يجمعها جامع أو يربطها رابط وكل فئة أو جماعة لها أجندة خاصة بها تختلف عن الأجندات الأخرى ومتناقضة معها. إن من يدعو للتصالح والتسامح عليه ألا ينسى أنه في عالم واحد وفي عصر واحد بدأ يتقارب وكأنه قرية صغيرة والقوي فيه هو التكتلات الاقتصادية والعسكرية والضيف فيه هو الباحث عن الانسلاخ والتمزق والتشظي من جسد الأمة ذات المصير الواحد وهذا العصر والزمن لايرحم من كان شعاره الهروب والانطواء والانزواء ولا يصيب الضعف والخور إلا المتشتت والمنقسم.