يعقد المؤتمر الشعبي العام هذه الأيام اجتماعات مفتوحة ومكثفة للتداول في شؤون وطنية عديدة وينتظر أن يبحث في عدد من المشاريع الإصلاحية.تتزامن الاجتماعات مع عودة الرئيس علي عبدالله صالح من جولة خارجية ناجحة التقى خلالها ابرز قادة العالم واستخلص عبرها عددا من المعطيات التي تتيح مواكبة الظروف العالمية بمواقف وإجراءات محلية ما يعني أن اجتماعات "المؤتمر الشعبي" مرشحة للخروج بقرارات أساسية تتصل بمستقبل اليمن في السنوات القادمة. لا ادري إن كان المؤتمر سيراجع تجربته في الحكم خلال العقدين الأخيرين وهي تجربة غنية بدروس مفيدة لليمن في مجالات البناء والتنمية الاقتصادية والبشرية والوحدة والديموقراطية و مفيدة أيضا للمؤتمريين أنفسهم فهم يمثلون حزبا هو الوحيد الذي يستطيع القول انه حزب وطني خالص وليس جزءا من منظومة حزبية عابرة للحدود دون أن يعني ذلك الانتقاص من وطنية الآخرين وإنما إقرارا بواقع قائم وتأكيدا على أن المؤتمر نشأ من أجل اليمن وليس من أجل تعميم إيديولوجيته خارج الحدود كما هي حال كل الأحزاب اليمنية التي تتبنى إيديولوجيات صالحة للتعميم على اليمن وعلى غيره من البلدان .هكذا يعتبر الماركسي اليمني أو الاشتراكي اليمني أن الاشتراكية والماركسية أداة بناء واحدة لليمن ولغيره من الاوطان ويعتبر الإسلام السياسي أن نظريته هي الحل لليمن ولغيره ويعتبر الناصري أن الناصرية هي الحل لليمن ولغيره ويعتبر البعثي أن البعث هو الحل لليمن ولغيره في حين يعتبر المؤتمري أن حلوله السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمشاكل اليمنية ناجمة عن طبيعة هذه المشاكل كما تقدم نفسها على أرض الواقع وليس كما تتحدد في الإطار الإيديولوجي. لا نقول هذا الكلام على سبيل التنظير واختراع فروق غير موجودة بل نقوله استنادا إلى أدلة بادية للعيان ونكتفي هنا باستعراض بعضها: أثناء مفاوضات الوحدة كان تيار الإسلام السياسي في اليمن يرفض مشروع الوحدة الاندماجية لأنها تتم مع ماركسيين كافرين أي أنه كان يريد الوحدة بدون الماركسيين الذين يختلف معهم إيديولوجيا.لو اعتمد اليمنيون نظرية الإسلام السياسي في الوحدة لكانوا ما زالوا حتى اليوم شطرين وربما أكثر. في السياق نفسه اشترط الماركسيون تحقيق الوحدة عبر إقصاء خصومهم منها وكانوا يختلفون معهم في النظرة إلى الحكم على أساس إيديولوجي. طرف يميل إلى الماوية و آخر يخلص للينينية ولو ترك مشروع الوحدة لموقف الطرفين لأصبح اليمن أشطارا وليس شطرين . طبعا لا يخفى عنا وعن الجميع أن الخصومات الإيديولوجية اليمنية تغلف خصومات اجتماعية لكن محاججتها لا يمكن أن تتم على الأساس الإيديولوجي الذي تعلنه وليس الانتماء الذي تبطنه. في الموقف من الوحدة كان المؤتمر الشعبي متخففا من الإيديولوجية وبالتالي حرا في معالجة مشكلة التشطير بوسائل عملية تتناسب مع واقع المشكلة وليس مع طبيعتها الإيديولوجية فكان أن تجاوز الحاجز الإيديولوجي الذي وضعه الإسلام السياسي عبر السماح له بالتعبير عن إيديولوجيته الاعتراضية في مناخ ديمقراطي وبالتالي تحويل عدائه للماركسيين من عداء مطلق إلى عداء سياسي نسبي وتجاوز الحاجز الإيديولوجي الناجم عن خصومات الماركسيين بان رضي بإقصاء ثلاثة من قادة طرف منهم إلى خارج البلاد وحماية الاخرين في إطار المؤتمر الشعبي العام. هكذاوجد المؤتمر مخارج عملية للوحدة اليمنية وانتشلها من التمترس الإيديولوجي وهذا الأمر ليس بسيطا وليس تحصيل حاصل ولا يمكن المرور عليه مرور الكرام إنه قضية مصيرية في حياة اليمن واليمنيين شاء الجاحدون أم أبوا. منهج المؤتمر في اعتماد المخارج والحلول العملية للازمات و للمشاكل اليمنية نلاحظه بوضوح في التعاطي مع المشاكل الاجتماعية المعقدة مثال: تيار الحداثة الإيديولوجي الذي يخترق كل الأحزاب ما عدا الإخوان المسلمين ويشكل قاعدة تفكير خريجي الجامعات الأجنبية و معظم خريجي الجامعات اليمنية يطرح حلا ايديولوجيا ردايكاليا للانتماء القبلي اليمني وبالتالي يرى أن العصبية القبلية تمنع انبثاق الفرد ولو قيض لهذا التيار أن يتولى الحكم وأن يضع أفكاره موضع التطبيق لكان اليمن اليوم بلا أفراد وبلا حداثيين ولا من يحزنون. ذلك أن هذه الفئة النخبوية لا تزن الشيء الكثير في موازين القوى الاجتماعية اليمنية وبالتالي من السهل أن تهزم بالوسائل السلمية والعسكرية وغيرها وهي تدين اليوم بنموها واتساعها وتطورها إلى الحل العملي الذي اعتمده المؤتمر الشعبي العام للمشكلة القبلية والذي يقوم على دمج القبائل في السوق الرأسمالي المحلي على محدوديته وإشراكهم في مؤسسات الدولة والجيش وبالتالي تغيير الأسس الاقتصادية لبنيتهم العصبية وتوفير شروط تعايشهم مع الحداثيين . هذا الحل العملي للمشكلة القبلية ليس سهلا ولا يمكن أن يتم في مدى زمني قصير بل عبر دورة اقتصادية اجتماعية كاملة بدأت بعض ملامحها بالظهور تدريجيا من خلال تغير طبيعة صنعاء من مدينة معزولة وصغيرة تتجاوز بالكاد حدود بواباتها إلى مدينة شاسعة تكاد تحتل السهل الصنعاني برمته. اكتفي بهذا القدر من الأمثلة للقول أن المؤتمر الشعبي العام لعب دورا مصيريا في حياة اليمن واليمنيين وعليه أن يواصل هذا الدور وفق المنهجية نفسها دون أن يخشى من الهجمات الإيديولوجية والأحكام القيمية التي تطلق عليه محليا أو تلك التي تستدرج من الخارج. وهي من نوع: حزب السلطة. أو حزب الديكتاتورية أو حزب الفساد. أو الحزب الواحد. أو حزب الوظيفة أو حزب القبائل....الخ. فهو بالفعل حزب السلطة وقد أحسن عموما في إدارتها في المسائل المصيرية اليمنية كما لاحظنا للتو. و ليس حزبا ديكتاتوريا بالتأكيد فهو الذي يحمي الديموقراطية الناشئة ويتيح لمتهميه إطلاق تهمة الديكتاتورية عليه في منابرهم.وهو ليس الحزب الواحد لأنه لو كان كذلك لما استطاع إخواني أو ماركسي أو ناصري أو بعثي أن يتنفس في اليمن كما هي الحال في بلدان الحزب الواحد التي تخلو من كل التشكيلات السياسية الوارد ذكرها.وهو ليس حزب الوظيفة على الرغم من وجود الكثير من الموظفين في صفوفه ولعله يحسن صنعا بوضع أسس أكثر صرامة والتزاما في عضويته وفي تحديد شروط للعضوية تتيح لمناضليه القدامى والجدد الأكثر اقتناعا وإيمانا بمشروعه الوطني تولي المراكز الأساسية فيه. وأخير هو ليس حزب الفساد على الرغم من نمو ظاهرة الفساد في الدولة وفي المجتمع الأمر الذي يطرح على الحزب مهمة وطنية جديدة وإيجاد حلول خلاقة لها عبر تشديد الشروط الأخلاقية للعضوية وللوظيفة العامة وتحصين إدارات الدولة تجاه الفيضان الوظيفي ورفع مستوى الرواتب واحترام التسلسل والهرمية الإدارية وتوسيع قاعدة الكفاءة في اختيار الكادرات العليا والمتوسطة وتشديد المحاسبة الإدارية وتحويل قضايا الفساد إلى المحاكم والامتناع عن حلها بالتراضي ... الخ. قبل أكثر من عشرين عاما أسس الرئيس علي عبدالله صالح "المؤتمر الشعبي العام" ليكون إطارا يمنيا تناقش فيه الحلول العملية للمشاكل الوطنية المعقدة ولقيادة مشروع وطني يمني طموح يحقق الوحدة وينهي الحروب الأهلية و ويبني أجهزة دولة حديثة ويستثمر الثروات الوطنية لمصلحة كل اليمنيين ويحقق الديمقراطية و ينقل اليمن من مجاهل التخلف إلى مسرح العصر . بعد عشرين عاما تحقق عدد كبير من أهداف المؤتمر وفي طليعتها الوحدة اليمنية. بعد عشرين عاما يمكن للمؤتمر الشعبي العام أن ينظر بفخر إلى الإنجازات التي حققها وأن يحاسب نفسه على أخطاء ارتكبها وأن يظل ممثلا لتيار وطني عريض متسامح وان يكون أقل انفعالا تجاه الاستفزازات التي يتعرض لها والأحكام القيمية التي تطلق عليه والاتهامات الفئوية التي يرشق بها بعد عشرين عاما من العمل الوطني اليمني يمكن للمؤتمر أن يقول لليمنيين إلى اللقاء في إنجازات أخرى وأداء أحسن ومستقبل يمني أفضل.