تشهد أوروبا منذ اندلاع أزمة الأسواق العالمية ظواهر قلما عرفت مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية، ففي اليونان وفي العاصمة أثينا بصورة خاصة عادت بعض الجمعيات إلى إغاثة الفقراء وتقديم شوربة يومية لأناس ضربتهم الأزمة وما عادوا قادرين على تغطية تكاليف غذائهم اليومي ولوحظ في عدد من المدارس أن الطلاب يعانون من أعراض الجوع أو من النقص في الغذاء ولا يبدو حتى اليوم أن هذه الظاهرة متجهة إلى تراجع فقد عمدت الحكومة إلى تخفيض الحد الأدنى للاجور الى 400 يورو. وهي تعد بتخفيض آخر إذا ما اخفق برنامج الإنقاذ الاقتصادي الذي تشرف على تطبيقه حكومة مشتركة من اليمين واليسار.. وتشير الأنباء الواردة من اثينا إلى أن متقاعدين لم يتسلموا رواتبهم منذ خمسة اشهر وان حجم البطالة في هذا البلد ضرب أرقاما قياسية جديدة... في هذا الوقت يخشى الجميع من أن تمتد الازمة الاقتصادية الى اسبانيا أو ايطاليا وربما إلى دول أخرى.. علما بان فرنسا كادت أن تخرج من العملة الموحدة مؤخرا ويتجرأ البعض على طلب شراء الجزر اليونانية لحل الازمة في اليونان ويجري حديث متواتر عن احتمال فشل مشروع الاتحاد الاوروبي برمته اذا ما اخفق قادة الاتحاد في ايجاد حل للتدهور الاقتصادي السريع و المتواصل. ولعل بوادر الفشل في حل الازمة تزداد ظهوراً يوما بعد يوم فالنجاح يحتاج الى حكومة اوروبية واحدة وهو امر متعذر في ظل تعدد الحكومات وسيادات الدول ذلك ان الاقتصاد لا يمكن ان يدار بمعزل عن السياسة وواقع الاتحاد الاوروبي يفيد ان الاقتصاد الاوروبي يعمل بايقاع 27 حكومة لكل منها سياستها وهو ينمو دون صعوبات تذكر عندما تكون مؤشرات النمو مرتفعة ولكنه يتدهور بقوة عندما تكون مؤشرات النمو هابطة او متعذرة .. والواضح ان حال اوروبا المأزومة تضعف الى حد كبير موقع الغرب على المسرح الدولي الامر الذي يمكن ملاحظته بوضوح في المبادرة الروسية الصينية للاقتراع بالفيتو في مجلس الامن حول الملف السوري. فما معنى هذا الاقتراع وما هي أبعاده.؟ الفيتو الروسي الصيني المزدوج من الصعب المرور على الفيتو المزدوج الروسي الصيني في مجلس الأمن حول سوريا مرورا عاديا. ذلك انه لم يسبق منذ نهاية الحرب الباردة أن تجرأت دولة دائمة العضوية في المجلس على تحدي الإرادة الأمريكية في ملف دولي مهم ما خلا فرنسا حليفة واشنطن التي رفضت أن تمنح الرئيس السابق جورج بوش شرعية دولية في احتلال العراق لكنها عادت ووافقت على إدراج الاحتلال الأمريكي تحت المظلة الأممية وبالتالي لم تخرق مبادرتها سقف التباين في وجهات النظر وتنافس المصالح في إطار الحلف الواحد. أن تتجرأ دولتان عظميان على تحدي الإرادة الغربية في الملف السوري فلهذا التجرؤ معان عميقة واستراتيجية . والملفت في هذا الصدد هو الفيتو الصيني أكثر من الروسي لأنه يفصح عن نية بكين في خوض المجابهة المفتوحة في الشرق الأوسط انطلاقا من الملف السوري وبالتالي الدفاع مباشرة عن المصالح الصينية وليس عبر طرف آخر ويبدو أن بكين التي رفعت الفيتو عاليا في وقت كانت تستطيع الامتناع عن التصويت ما كانت تخشى رد الفعل الأمريكي والغربي تماما كموسكو التي ربما أدركت أن اللحظة تاريخية وان لا خوف من العقاب الأمريكي الأوروبي باعتبار أن هامش المناورة لدى الغربيين بات ضعيفا للغاية على المسرح الدولي إلى الحد الذي يتيح الشراكة الفعلية معهم في إدارة شؤون العالم بل منافستهم بقوة في الشرق الأوسط. والراجح أن البلدين اعتمدا هذا التحدي في ظروف أمريكية وأوروبية شديدة الحرج فقد تبين للعالم بأسره أن الولاياتالمتحدة التي احتلت العراق منذ العام 2003 لم تتمكن من فرض كامل أرادتها على الحكام الذين عينتهم وقد خرجت من هذا البلد تحت جنح الظلام ضعيفة لا تلوي على تنظيم احتفال تتلقى فيه شكر العراقيين الذين سلمتهم الحكم. وتبين أيضا أن حرب أفغانستان تمعن في إلحاق الأذى بالحلف الأطلسي الذي لم يتمكن ليس فقط من السيطرة على هذا البلد الواسع الأرجاء بل لم تتم له السيطرة التامة على كابول وهو يتحدث عن حل تفاوضي مع حركة طالبان التي فشل الحلف في قهرها. ولا بد من التذكير هنا بان انهيار الاتحاد السوفييتي قد تم بعد هزيمة الروس في أفغانستان والراجح أن تكون هزيمة الأطلسي غير المعترف بها بعد سببا في تراجع أسهم الحلف في موازين القوى الدولية هذا التراجع المعطوف على أزمة أسواق عالمية ألحقت أذى كبيرا بالوسائل الاقتصادية للامريكيين وحلفائهم الاوروبيين ولعل انعقاد التراجع العسكري في العراق وافغانستان على التراجع الاقتصادي الذي لم يتم فصولا بعد تسبب في ظهور لحظة ضعف قياسية في نسبة القوى العالمية عبرت عنها بكينوموسكو بوضوح عبر الفيتو المزدوج حول الملف السوري. بيد أن أسبابا أخرى ربما ساهمت في استخدام الفيتو المزدوج من بينها حرص البلدين على الحؤول دون الهيمنة الامريكية والاوروبية التامة على الشرق الأوسط وبالتالي الانفراد بشؤون العالم على حدود موسكووبكين وثانيها التلويح للدول التي ترغب بالتمرد على الارادة الغربية بانه صار بوسعها الاعتماد على دولتين عظميين لا تخشيان العقاب الامريكي.وثالثها الاعلان ضمنا بان التعددية في القرار الدولي باتت قائمة وهي في سبيلها لان تحل محل الاحادية الامريكية التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة و رابعها ان الصين وموسكو متضامنتان وانه ليس من السهل الاستفراد بأي منهما الامر الذي يعزز الرهان عليهما دون الخوف من العواقب وخامسها أن الفيتو المزدوج يضيق هامش المناورة الغربي في التدخل في الشؤون الداخلية الصينية والروسية وبالتالي يجعل المعارضين في البلدين يعدون للمئة قبل الرهان على تدخل غربي في شؤونهما الداخلية عبر نصرة هذا الفريق او ذاك في مواجهة الدولة المركزية علما ان روسيا تخشى من تمرد الاقليات داخل الاتحاد الروسي والصين تبدي قلقا متزايدا من التدخل الغربي في ملف التيبت وربما ايضا في ملف الاقلية الصينية المسلمة على الحدود مع افغانستان .وسادسها أن اللعبة الديمقراطية التي يرعاها الغرب على حدود الاتحاد الروسي والتي غالبا ما تنتهي بالانضمام الى الحلف الاطلسي ما عادت ميسرة كما في السابق وبخاصة في جورجيا واوكرانيا واسيا الوسطى والراجح ان الفيتو المزدوج يبعث برسالة الى الاطراف السياسية في هذه البلدان مفادها ان اليد الروسية باتت طويلة وان احدا لا يستطيع حمايتها اذا ما ارادت ان تحصل على مكاسب غربية انطلاقا من موقعها على الحدود الروسية. ثمة من ينظر إلى الفيتو الروسي الصيني المزدوج على انه لحظة عابرة في ظرف عابر وان واشنطن وحلفاءها سرعان ما يستعيدون زمام المبادرة بعد الانتخابات الرئاسية في واشنطن وباريس التي من المفترض أن تتم في بحر هذا العام الأمر الذي يصعب الركون إليه اقله من هذه الزاوية ذلك أن الانتخابات غالبا ما تكون مناسبة لشتى أنواع المزايدات في الداخل والخارج خصوصا عندما يكون المطلوب استعراض القوة والنفوذ وليس حجبها علما ان روسيا أيضا ستشهد انتخابات رئاسية هذا العام وليس من الصعب على المرء ان يدرك ان الفيتو الروسي قد يكون الناخب الابرز لصالح بوتين في الطريق الى الكرملين. لا ليس الفيتو المزدوج لحظة عابرة في العلاقات الدولية بل محطة سيكون لها ما بعدها.