نائف أحمد القانص علاقات روسيا مع دول الشرق الأوسط لها تاريخ طويل، وترتبط روسيا بشعوب المنطقة بمختلف الصلات الاقتصادية والثقافية والروحية منذ فترة طويلة. و هذه العلاقات الطويلة الأمد جعلت من روسيا أحد اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، وخاصةً في مجال حل النزاعات والتحديات في هذه المنطقة. من ناحية أخرى كانت دول الشرق الأوسط أيضاً تنظر دائماً إلي روسيا وسياستها الخارجية بثقة كبيرة. کما أن مواقف روسيا المحايدة والمتوازنة والتي تدعو إلي حل جميع القضايا في الشرق الأوسط على أساس مبادئ القانون الدولي، کان لها أهمية خاصة لبلدان المنطقة. و مع ذلك، في السنوات الأخيرة وخاصةً بعد التطورات الثورية في بعض البلدان العربية، شهدت السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط بعضاً من التغييرات. تأتي أهمية الشرق الأوسط بالنسبة إلي الروس لعدة أسباب: 1. القرب الجغرافي: روسيا تجاور بالفعل منطقة الشرق الأوسط عبر إيران وتركيا. لذلك، فإن القرب الجغرافي والجوار أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل منطقة الشرق الأوسط مهمةً للروس. 2. القاسم المشترك المتمثل بالمسلمين: مع انهيار الاتحاد السوفياتي، انهار في الواقع الجدار الذي وُضع بين المسلمين الروس وغيرهم من المسلمين. وحالياً يشکل المسلمون حوالي سبع سكان روسيا، والذين هم في تزايد أيضاً. 3. اليهود الروس: نحو 20 في المئة من سكان الکيان الإسرائيلي، هم من اليهود الذين کانوا يعيشون سابقاً في الاتحاد السوفياتي. والآن يستطيع كلهم التحدث باللغة الروسية تقريباً. 4. الاضطرابات الدينية والسياسية المستمرة في العالم الإسلامي: دخول الأفكار المتطرفة والمتشددة من الشرق الأوسط إلى شمال القوقاز، وخاصةً جمهوريات تتارستان وبشكيريا، کان مصدر قلق دائم للروس. 5. موارد الطاقة الغنية: تعتبر روسيا نفسها قوةً في قطاع الطاقة، وتبحث عن فرص في حدودها الجنوبية. 6. الوجود العسكري الأمريكي: لقد رصد الروس دائماً وبدقة التحركات والسياسات العسكرية الأمريكية في المنطقة. وفي هذا الصدد، فإن الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان علي وجه الخصوص، جعل روسيا تولي المزيد من الاهتمام بالتواجد العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. الشرق الأوسط بعد الربيع العربي إن التغيرات والتطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط والمعروفة باسم الربيع العربي، والتي أدت إلى تشكيل الشرق الأوسط الجديد، غيّرت السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط إلى حد كبير. بالنسبة لروسيا، فإن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط تحت عنوان التحولات الثورية، هو تنفيذ واستكمال لنظرية "الفوضى المسيطر عليها"، والتي تعني تقسيم الحكومات الكبيرة في المنطقة إلى وحدات أصغر. و في الواقع يعتقد الروس أنه علي المستوى المفاهيمي والنظري، فقد تم وضع فكرة تغيير خريطة الشرق الأوسط والاستفادة من عدم الاستقرار، في إستراتيجية "الفوضى المسيطر عليها" أو "إدارة عدم الاستقرار". والمشاركة في تطوير هذه النظرية قد تمت من قبل مستشاري الرئيس الأمريكي الحالي مثل بريجنسكي. بالإضافة إلى ذلك، فقد کان ل "جين شارب"، المبدع والمطوّر لنظرية الثورات الملونة في بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق، وكذلك واضع نظرية "الفوضى واستراتيجية التفكير"، دورٌ كبير في هذا الأمر أيضاً. طبيعة مفهوم "الفوضى المسيطر عليها"، تكمن في أنه لإدارة البلدان بشکل فعال، يجب على جميع المناطق أن تدمّر الهياكل والمؤسسات السابقة للمجتمع، وتخفض طرق الحياة التقليدية مع القيم التقليدية، وصولاً إلي خلق فراغ أيديولوجي في نهاية المطاف. و هذا سيؤدي إلي خلق حالة من الارتباك واللبس في الوعي الاجتماعي، وبذلك يمكن غرس الأهداف المحددة في المجتمعات المستهدفة بسهولة. و في الواقع، من خلال تطبيق نظرية "الفوضى المسيطر عليها"، فإن الأنظمة الموالية للغرب ستحلّ محلّ الأنظمة السياسية الحالية. و من هنا فقد عارضت روسيا المشاريع الأورو أطلسية، لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، وجعلت من خلال مواقفها الصارمة والحازمة، تنفيذ هذه المشاريع أكثر تعقيداً وصعوبةً. و بالنظر لهذا النهج، يمكننا القول إن روسيا تقيّم التطورات في الشرق الأوسط بهذا المعيار، و تري أن الغرب وعبر خلق الفوضى في مختلف دول المنطقة، يخطّط لتجزئة وهندسة التطورات المستقبلية في المنطقة. حالياً يعتقد الروس أن التطورات الثورية في الشرق الأوسط قد أحدثت العديد من التغييرات في المنطقة، و يبدو أنه سوف يمضي ما لا يقل عن عقد من الزمن حتي يجد الشرق الأوسط شكله النهائي. و مع ذلك، فإنه ليس من الواضح حتي الآن من هم الذين سيصلون إلي السلطة في المستقبل، وما هو الاتجاه الذي ستسير فيه البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية. کما أن التطورات الثورية في الشرق الأوسط قد غيّرت شكل وطبيعة العلاقات بين دول المنطقة، ومع الجهات الفاعلة الأخرى، وخاصةً القوى الكبرى. النهج المستقبلي بالنظر إلي القضايا المطروحة، يبدو أن روسيا تنتهج دبلوماسيةً في الشرق الأوسط تتکوّن من خمسة أركان: 1. الحضور الفعال والحفاظ على تركيز القوي على العلاقات الثنائية مع دول المنطقة؛ 2. السعي لتنويع وتطوير العلاقات مع الدول المتعارضة مع بعضها البعض؛ 3. التواصل الفعال مع القوى والتيارات المعارضة، بالإضافة إلى الحفاظ على العلاقة مع السلطات الرسمية؛ 4. لعب دور الوسيط في النزاعات والأزمات في المنطقة، في إطار قوانين الأممالمتحدة ودون دعم حصري لجهة ما، أو معارضة الأطراف المحددة الأخرى؛ 5. السعي للامتناع عن إبداء التصريحات الصدامية، والقيام بإجراء ضد الدول التي تعارض روسيا في القضايا الدولية والإقليمية الخاصة. هذه الدبلوماسية ذات الأرکان الخمسة، تحدد أساس السياسة الخارجية لروسيا في الشرق الأوسط، وتُظهر فهم النهج الروسي تجاه التطورات الإقليمية. وفقاً لذلك، يبدو أن روسيا ستنتهج حيال الشرق الأوسط الجديد، ما لا يقل عن ثلاثة نهج، هي النهج الجيوسياسي والأمني والاقتصادي في آن واحد. في النهج الجيوسياسي، تحاول روسيا تشکيل تكتل قوة لنفسها في الشرق الأوسط. وبالنظر إلي أن الروس يبحثون عن نظام عالمي متعدد الأقطاب، فبالتالي يعتبرون إيران وتركيا والسعودية بلداناً هامة في منطقة الشرق الأوسط. بناءً علي ذلك، فإن مواجهة الأحادية الأمريكية وحيازة الدور الدولي كقوة عالمية، تعتبر من أهم الأهداف الجيوسياسية للسياسة الخارجية الروسية في منطقة الشرق الأوسط. و في هذا الصدد، سوف تُتبع سياسة زيادة العلاقات الخارجية مع الدول المعارضة للولايات المتحدة في المنطقة من جهة، ومن جهة أخرى سيكون على جدول الأعمال إقامة علاقة وثيقة مع الدول التي كانت دائماً جزءاً من شركاء أمريكا. في النهج الأمني، فإن روسيا قلقةٌ بشأن انتشار الإسلام الراديكالي في القوقاز الشمالية والجمهوريات المسلمة في هذه المنطقة. حيث أن خطر انتشار الإرهاب والتطرف الديني ووجود جماعات مثل تنظيم القاعدة، يمکن أن يثير النزعات الانفصالية لدي بعض الجمهوريات والمناطق مثل الشيشان. بالإضافة إلى ذلك، فإن روسيا من الناحية الأمنية، قلقةٌ للغاية بشأن انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. في الجوانب الاقتصادية، بما أن روسيا هي واحدة من الدول المصدرة للنفط والغاز، فلذلك لها بعض التحفظات علي دول المنطقة، وفي بعض الحالات تنظر إليها کمنافسين أيضاً. علاوة على ذلك، روسيا وفي كثير من الحالات تضطر إلى التعاون والتنسيق مع أكبر منتجي الطاقة في المنطقة أيضاً، وذلك للسيطرة على السوق والأسعار. من ناحية أخرى، فإن توسيع العلاقات الاقتصادية مع دول الشرق الأوسط، خصوصاً في قطاع الطاقة وتصدير الأسلحة والمعدات الحربية، يلعب دوراً هاماً في المقاربة الاقتصادية الروسية تجاه الشرق الأوسط. و في هذا الصدد، تعتزم روسيا الاستفادة من زيادة قوتها الاقتصادية وتراجع نفوذ الولاياتالمتحدة في دول العالم، وتتولي دوراً رئيسياً في القطاعات الحيوية لاقتصاد بلدان الشرق الأوسط. من حائط الكاتب على الفيسبوك