يبقى التساؤل عن حقيقة وجود «الصحافة في اليمن المعاصر» مجرد فرضية من حقها أن تدور في ذهن باحث ما وإن كانت سترتطم لامحالة بقائمة حية من الأدلة والبراهين التي سوف تثبت خرافية مثل هذه الفرضية أو هذا التساؤل. فثمة عناوين كثيرة تتزاحم في نواصي الأكشاك والمكتبات تشكل وهي متلاحمة أمام القارئ استعراضاً مهيباً لشرف المهنة وقدسية الكلمة ، لكنها في الحقيقة ذات قلوب شتى ، فهي متناقضة الأهداف، متنافرة المضامين، وكل يقول كلمته وكل يدحض كلام الآخر.. وكل يعمل في مساحة من الحرية الواسعة.. وهذه هي الصحافة ، أو مقوم من مقوماتها. لكن ماذا لو أصررنا على تعليق تلك الفرضية وقلنا «وهل يوجد في اليمن المعاصر صحافة؟!».. طبعاً سنكون واقعين تحت تأثير ذلك الفيروس القديم الذي أصاب عميد الأدب العربي طه حسين رحمه الله فقال قولته المشهورة «وهل لليمن في الجاهلية شعراء؟!». المهم: لو أصابنا مثل هذا الفيروس وقد أصابنا فلا ينبغي لنا إلا أن نبحث عن مرض آخر في جسد صحافتنا.ربما قد يكون سرى إليها بفعل فجوة قانونية ، أو لحظة سهو من المشرع، هذا المرض هو «التفلّت اللغوي» أعني فوضى تجتاح لغة الصحافة في اختياراتها اللفظية وقالبها التعبيري واكتموا عني إن قلت لكم إن هذا التفلت هو المسؤول عن توليد هذا الشك /التساؤل/ الفرضية لدى طائفة كبيرة من رجال البحث اللغوي وأساتذته في الجامعات اليمنية. وبالمناسبة، فإن هذا الشك يلتقي مع إنكار عميدنا الراحل طه حسين في أن كليهما من زاوية اللغة. فرجال اللغة في بلادنا يقولون : إن الصحفيين لايستخدمون حتى الفصحى المعاصرة المتساهلة في كثير من القوانين اللغوية القديمة والذي يستعملونه هو مجموعة من اللهجات المحلية بقالب متطور يقارب فصحى هذا العصر «هكذا يقولون» قد لاتصدقون هذا الموقف.. لكن أحب أن أقول لكم معاشر الصحفيين : صدقوا .. فأنتم اليوم في نظر اللغويين عُمّال هدم للبناء اللغوي الذي شيدته اللسان العربية كابراً عن كابر ، وفتشوا إن شئتم في رفوف المكتبات الجامعية عن الدراسات والرسائل العلمية التي تتناول لغة الصحافة فحتماً لن تجدوا حتى عشر معشار الأبحاث اللغوية قد تناول فناً من الفنون الصحفية التي تعملون في تحريرها ليل نهار.. كنا يا معاشر الصحفيين نفهم من اللغويين أن للصحافة لغة خاصة يجب أن تسير مع العصر وأن منحها بعض التسهيلات والمخارج اللغوية ليس عيباً ، فهو ضرورة تحثنا إليها مرونة اللغة بل هو سر الصمود الذي تواجه به اللغة العربية طوفان المحكيات والحضارة والتكنولوجيا.. كنا نفهم ذلك حتى إذا ما عزمنا يوماً البحث عن هذه اللغة الخاصة بوصفها مستوى من مستويات اللغة العربية المعاصرة للكشف عن بعض ما فيها من مشكلات وجماليات لاشك أن فيها جماليات نصبوا دون هذه المشاريع البحثية الجبال العظيمة والمسافات الطوال وخلقوا عوائق عديدة أخفها أن الأسلوب الصحفي أسلوب هجين فوضوي ، لايرقى إلى أن يُتناول تناولاً بلاغياً وفنياً ، وهم مع كل ذلك يمتلكون وجهاً من أوجه الحقيقة سأكتشفه بعد قليل. وعودة إلى ذلك المرض «التفلّت اللغوي» وعلاقتكم به فإني سأقول لكم قولاً فاسمعوه: من الناحية القومية أنتم مطالبون بأن توقفوا نزيف أقلامكم وأن توقفوا زحف اللهجات المحلية نحو اللغة العربية فإنها كل يوم تذوب وتتلاشى في محيط الاساليب العامية التي تتسلل إلى السطور بثوب الفصاحة وحيل الإدهاش. أما من ناحية مهنية فجمهور الصحفيين لايعنيهم شيء من هذا الأمر وهو أيضاً وقد تتفاجؤون لايعني المسؤولين عن المراجعة والضبط اللغوي في الصحف والمجلات ، فمن المسؤول إذن عن هذا الفساد اللغوي؟! الديمقراطية.. الديمقراطية هي المسؤول الأول عن ذلك التفلت فهي التي أوجدت خطاباً متحرراً «يخطب في كل وادٍ» وصحفاً تتوالد كل يوم حتى أصبح من المستحيل على لجنة لغوية قوامها الآلاف أن تضبط سير اللغة العربية للارتقاء بها في وسائل الإعلام بخلاف ما لو كان العدد ثلاثاً أو أربعاً. وما يحزُّ في نفسي ويشغل تفكيري معاشر الصحفيين تساؤل مفاده: هل معقول أن تكون السياسات الإعلامية في بلادنا تمشي على غير هدى سياسة لغوية تضيئ لها الطريق؟ وإذا كانت هناك سياسات لغوية فإين هي من هذه الفوضى؟ وإذا لم يكن هناك فلماذا لاتفكر القيادات الإعلامية والصحافية بوضع سياسات لغوية واضحة تنفذها استراتيجيات وخطط وبرامج لغوية ، انطلاقاً من شعور قومي وديني تجاه لغتنا العربية ، فالقضية ليست قضية إخراج صحيفة خالية - ما أمكن - من الأخطاء الطباعية واللغوية تحاشياً لنقد القارئ فحسب، بل إنها قضية هوية حضارية تمس مباشرة بتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها؟! ذلك التساؤل كم أنا حالم في اليقظة والمنام أن أكتشف له إجابة لأحدد بعدها لماذا صحافتنا مصرة على البقاء في إطار «المحلية».. وكما حقق الله أمنية المستشرق الألماني «نولدكه» الذي ظل طيلة حياته يحلم بالعثور على مخطوطة «كتاب الأصنام لابن الكلبي» وحقق الله أمنيته، فإني أسأله أن يحقق لي هذه الأمنية إنه على ما يشاء قدير.