هناك من الناس من لا يشبع أبداً ، هكذا هي طبيعته، جُبلت نفسه على الطمع، فهو إن جلس على مائدة يظن أن ما فيها من طعام لن يكون كافياً لإشباعه حتى وإن كُثر أو تعدد بصنفه، فإن نفسه تحدثه أن الطعام لن يكون كافياً له ولغيره من الناس الذين يجلسون معه على نفس المائدة.. لذلك تجده ينظر إليك شزراً، يقلب ناظريه في الوجوه وينظر إلى أيديهم بغيظ وحنق ويتمنى لو يستطيع وضعها في الاصفاد، ريثما ينتهي ويشعر بالاكتفاء، حينذاك فقط يستعيد رشده وصوابه بأن الطعام يكفي لإشباع فرقة كاملة من الجياع، أما إذا وجد نفسه قد نجح في الوصول إلى وظيفة فإنه يثب عليها وثوب السباع، لا يترك أحداً يقترب منها إلا بعد أن يكون قد برى لحمها وشحمها ولم يترك سوى العظم قد كُشف سترها. وقد جاء في كتاب «مدارج السالكين» للإمام العلامة ابن قيم الجوزية تحت باب «مشهد الحيوانية، وقضاء الشهوة» أن هناك من الناس عبّر عنهم «بمشهد الجهال» الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها فهؤلاء نفوسهم «حيوانية» لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. وقد ذكر منهم (من نفسه كلبية) لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب.ونبح كل كل يدنو منها فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ولا يسمح لكلب بشيء منها وهمه بشبع بطنه من أي طعام اتفق : ميتة أو مذكى، خبيث أو طيب ولا يستحي من قبيح. ومنهم (من نفسه حمارية) : لم تخلق إلا للكد والعلف. كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان، وأقله بصيرة، ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه، فلم يحمله معرفة ولا فقها ولا عملاً. ومنهم : (من نفسه سبعية غضبية) : همته العدوان على الناس، وقهرهم بم وصلت إليه قدرته، فطبيعته تتقاضي ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه ومنهم : (من نفسه فأرية) : فاسق بطبعه ، مفسد لما جاوره،تسبيحه بلسان الحال : سبحان من خلقه للفساد). كأن هذه المعاني التي نوردها في هذا المقال تصف الإنسان كما هو عليه حاله هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن واستفحل فيها الشر وضعف إيمان الناس فاشتد بأس بعضهم على البعض الآخر بسبب الانانية وسوء التوجيه وانعدام التربية السليمة وبسبب القلق والتوتر النفسي وشعور الإنسان «المعاصر» بأن عليه أن يشق طريقه وسط الزحام مستخدماً يديه ورجليه ويزيح كل من ينافسه على الوصول، فالكل يريد الوصول قبل الآخرين بأي ثمن حتى وإن تخطى الرقاب أو داس عليها.. هذا لا يهم، المهم هو أن يصل !! فإذا كان هذا هو زماننا وهذه صفاته، فما بال ذلك الزمان البعيد الذي عاش فيه الإمام العلامة أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية 196 157 ه ؟! نقول : لقد كانت لهم أمراضهم النفسية والعقلية التي كانوا قد ضاقوا بها ذرعاً وظنوا ان زمانهم قد استوفى حظه وحظ ما بعده من أزمان، من مفاسد النفس وعللها، وأسقامها، فماذا لو أن الله تعالى أذن لهم ان يطلوا علينا من عالم البرزخ ليروا زماننا على حقيقته، لوجدوا أنفسهم، أنهم كانوا بخير مقارنة بأحوالنا، فشتان بين (من نفسه كلبية) في زمانهم، أو في زماننا وبين من نفسه «حمارية» أو «سبعية»، أو «فأرية» في زمانهم أو في زماننا. سُئل حكيم : أيهما أفضل : العلماء أم الأغنياء ؟ قال : بل العلماء.. قيل فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء ؟ قال : لمعرفة العلماء بفضل الغنى، ولجهل الاغنياء بفضل العلم. وقال أحد البخلاء :وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع منه بشيء، قيل فما ينفعك من ذلك ؟ قال : لكثرة من يخدمني عليه. ديكة مرو . قال ثمامة : لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لاقط، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو، فأني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب، فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء فمن ثم عمّ جميع حيواناتهم.