ليست اللغة مبدأ الموسيقى فحسب بل الحرف ذاته، فعندما نتطرق إلى الحرف نشير ضمناً إلى مُقدمته ومداه الصوتي السابق عليه، فليست الحروف إلا تشكيلاً ورسماً يُترجم الصوت، غير أن هذه الحروف التي تترجم الأصوات تنزاح لكي تصبح أرقاماً حسابية، ولهذا السبب كان الصينيون يدونون الموسيقى بالأرقام، فيما كان العرب يدونون الموسيقى بتراتب لازمتين صوتيتين مُترجمتين إلى حرفين هكذا «تن تن تتن تتن .. الخ». لقد شهدنا على مدى عقود من الزمن استغراقاً في شعر التفعيلة، ومن ثم ما أسميناه «قصيدة النثر» ، وأعتقد أن التسمية تنطوي على مُقابلة بين القصيدة كمُسمى تاريخي لصيق بشعر العمود والقافية، ثم النثر كمُسمى تاريخي لصيق بالنثر المرسل، ولعل هذه التسمية الإجرائية الافتراضية وربما المترجمة حرفياً من الآداب الأوروبية .. لعلها توخّت التفريق بين نوعين من الشعر، غير أنها بحاجة الى التدقيق وخاصة أن قواعد القصيدة العربية التاريخية المحكومة بصرياً وصوتياً بالبيت والعمود والقافية تفتح مسافة قلقة للبُعد النثري الموازي، مما يجعل التماهي الإبداعي بين المستويين تماهياً عسيراً، والصدام بينهما صداماً كالذي يمكن أن يكون بين الرسم المائي والزيتي، وهذا يجرنا الى استدعاء اللون الثالث «الاكريلك» الذي كان معادلاً سحرياً للماء والزيت، فوضع الفنانين المُمارسين في وارد استخدام لون جديد بخصائص اللونين السابقين وقابلياتهما في تنفيذ الأعمال الفنية . قد تبدو المقارنة بين الشعر بشقيه التفعيلي النثري، واللونين المائي والزيتي مثالاً استنسابياً متسارعاً، فالمعروف أن لون «الأكريلك» جاء ليحمل خصائص الزيت والماء معاً، لكن المقارنة على قدر غرائبيتها تبدو واردة لأنها تشير إلى حقيقة موضوعية تواجه الشعر العربي المُعاصر، وهذه الحقيقة لا تقف عند تخوم التفارق بين الشعري المُدوْزن بموسيقى الظاهر والنثري المموسق بموسيقى الوجود، بل تضع تحديات جديدة على الطريق، فوسائط نقل الشعر تتغير، وطرق الكتابة الشعرية تخرج من إطار العلاقة الحميمة بالورقة إلى علاقة تأخد حميميتها من فراغ آخر هو فراغ الشاشة الفضية، وكذا فضاءات الاتصال غير اللفظي التي تنزاح من الذات المُبدعة الشاعرة، وحتى الوسائط الفيزيائية التقنية التي تضيف أو تُنقص من تلك الذات، ولهذا السبب نسمع عن القصيدة الالكترونية، ونلاحظ مركزية الوسيط بدلاً من مركزية الانسان، الأمر الذي يذكرنا بالفارق بين المسرح والسينما، بل بفكرة الجوهري في كل نوع فني، فلم يعد المُمثل هو الرافعة الأولى في مسرح الوسائط، ولم يعد اللون هو محور الارتكاز الحاسم في اللوحة، ولم تعد ثقافة المُشافهة والنقل الحي الوسيلة الوحيدة لنقل الشعر. إن هذه الحقائق لا تخبو وتتلاشى بل تتجاور مع مستجدات مؤكدة تجعل واحدية الروافع مدخلا ً لتعددها وتنوعها، وسينساب الشعر مع هذه الحقيقة ربما غداً أو بعد، لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال غياب قانون الشعر الأسمى وعلم جماله الشكلي والمضموني.