هذه المظاهرات والتبدلات التي تجتاح الوطن العربي لا شك أنها تكشف عن بداية عصر جديد لا عاصم فيه من الجماهير، سوى الاحتكام لحقها في السلطة وفي الديمقراطية وفي الثروة وفي العدالة، وذلك ما استوعبه البعض من الرؤساء العرب بصورة مبكرة جنبتهم هذا النوع من الغضب والصخب إلى هذا الحد أو ذاك على نحو يوجب المراجعة الدائمة والمستمرة والاقتراب من هموم الناس ومعاناتهم والتراجع المبكر عن الخطأ إلى الصواب قبل فوات الأوان وقبل أن يقع الفأس في الرأس ويؤدي إلى إراقة الدماء وإزهاق الأرواح، وما قد ينتج عن ذلك من الأحقاد والثارات، لأن ما يبدأ بالفوضى لا ينتهي إلا إلى المزيد من الخراب والدمار وما يوجبانه من الهموم والأحزان، وما يبدأ بالدم لا ينتهي إلا إلى المزيد من الدم . وما يستوجبه من سيلان الدمع الهتون والمتجدد . أقول ذلك وأقصد به أن إخضاع السلطة للديمقراطية القائمة على الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة، هو المرادف الموضوعي لإخضاع الثروة للعدالة الاجتماعية وعدم مراعاة الأغنياء للفقراء في شتى ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأن السلطة للشعب والثروة للشعب على نحو يوجب على أولئك الذين بالغوا في كسب الثروات على طريقة «كيف تتعلم اللغة الانجليزية خلال أربع وعشرين ساعة» اعتقدوا خطأ أنهم بما كسبوه من الأموال غير المشروعة قادرين على شراء الشعوب، بالإضافة إلى قدرتهم على شراء السلطة بالثروة، ومعنى ذلك أن الذين فتح عليهم الفساد أبواب الثراء المفرط بعد فقر مطالبون أن لا يفرطوا في الاستخدام الذميم والقبيح لما لديهم من الأموال الفاسدة والحرص على عدم توظيفها في مجال الإفساد السياسي تحت قدرتهم على شراء الفقراء وعدم احترام ما لهم من الحقوق والحريات والتطلعات المشروعة، لأن الفساد والإفساد آفة لا تخلف سوى القهر كأعظم الدوافع المحركة للثورات الغاضبة والصاخبة. وإذا كانت قيادتنا السياسية قد حرصت منذ وقت مبكر على إخضاع السلطة للشرعية الانتخابية، فإن مالم تحرص على مراعاته أن هناك اختلالات اقتصادية واجتماعية أدت إلى ظهور القطط السمينة التي مابرحت تطلق العنان لها ولأبنائها في السيطرة على كافة شئون الحياة السياسية والاجتماعية، وتحويل الفقراء إلى حطب لما لديهم من الأطماع اللامسؤولة واللامقبولة التي تأكل المجتمع لحماً وترميه عظماً، فذلك مايجب مراعاته والابتعاد عن ممارسته من موقع الحكم ومن ساحة المعارضة، لأن للشعوب ردود أفعالها الصاخبة والغاضبة الموجبة للوقاية خير من العلاج، لأن الظلم هو القهر وهو المعاناة التي لا ينتج عنها سوى التمرد والثورة على القطط السمينة التي مابرحت تتاجر بهموم الشعوب وما يخضعون له من المعاناة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأن هناك علاقة جدلية خطيرة بين الديمقراطية وبين العدالة الاجتماعية لا يمكن للفاسدين والمفسدين تجاهلها بأي حال من الأحوال في محاولة الجمع بين التجارة وبين السياسة، وتوظيف الثانية لخدمة الأولى بطريقة مرتجلة وغير مدروسة، لكي يتحولوا إلى محتكرين لأسواق السياسة وأسواق التجارة في لحظة غرور، وجنون غير عقلانية وغير حكيمة، وعليهم أن يتعلموا من مجموعة هائل سعيد أنعم كيف يفصلون بين التجارة وبين السياسة إذا أرادوا ماهم بحاجة إليه من احترام شعوبهم. أقول ذلك وأنا على يقين أن «مجموعة الأحمر» التي قامت على الجمع بين السياسة وبين التجارة ومن على شاكلتها من البيوتات التجارية الحديثة النعمة، ليست هي المدرسة التي نستمد منها مانحن بحاجة إليه من القدوة والأسوة الحسنة، لأن مثل هذه المدارس المتطفلة على التجارة والسياسة قد كدرت صفو الحياة بما ذهبت إليه من الحسابات الخاطئة التي جعلت الأقلية تعتقد أنها الأقدم مادياً على شراء الأغلبية الساحقة من الفقراء الذين يعتقدون أنهم مضطرون لبيع أنفسهم في أسواق النخاسة، فقد أكدت التجربة والممارسة أنه لا يمكن الفصل بين الديمقراطية وبين العدالة، ويمكن فقط الفصل بين التجارة وبين السياسة بدافع الحرص على عدم التناقض والتضاد الذي يؤدي إلى خلق الفعل ورد الفعل الذي يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه بصورة لا ينتج عنها سوى الثورات والصراعات والحروب الطاحنة.؟