قام عالم الاجتماع الفرنسي (اوجست كومت) بدراسة الظاهرة الاجتماعية لفهم ماهو المجتمع وماهو القانون الذي يخضع له أثناء حركة تغيره؟ يعتبر المجتمع الإنساني مغايراً لمجتمع النمل والنحل؛ فهو مجتمع تتراكم فيه التغيرات وتدفعه للتطور بدون توقف، يعتبر فيه الأفراد المبدعون شرارة التغير الأولى، ولكن أفكارهم لاتعني شيئاً مطلقاً مالم تتبناها وتتفاعل معها شريحة تزداد قاعدتها مع الأيام. ويرى مالك بن نبي أن مابين ولادة الأفكار وانتشارها فترة (حضانة INCUBATION TIME) فهو يرى أن الحضارة الإسلامية ذات فترة حضانة قصيرة للغاية، فلم يكن بين الفكرة وهيمنتها الاجتماعية فاصل طويل، خلافاً للأفكار المسيحية التي ضربت في عمق الزمن قروناً طويلة قبل أن تنبثق حضارتها. إن قانون التغيير اجتماعي يقوم على تغيير نظام الأفكار قبل كل شيء، فإذا غيّر فرد ما بنفسه لايتغير ما به على وجه الضرورة، ولنقل بكلمة أدق لايتغير ما له علاقة بالتركيب الاجتماعي، بل قد يحصل العكس، فالتصريح بالآراء الخطيرة، والمجاهرة بمخالفة ما اعتاده المجتمع مع كل انحرافه؛ يجعل المجتمع يصب العذاب على هذا الفرد النشاز، فعلى سقراط تجرع السم ولو كان فيلسوفاً حكيما، وبرونو يجب أن يحرق حياً لأنه سمح لعقله بهامش حركة تخالف رأي القطيع، وعلى جون لوك أن يفر من بريطانيا إلى هولندا، ويختبئ (ديكارت) وهو يقول: يعيش سعيداً من عاش في الظل. ولكن قدر التغيير أنه لا يبدأ إلا من الأفكار ومن الأفراد، من المبدعين المتميزين (الانفجاريين) مثل اليورانيوم الاجتماعي المشع، الذين غيّروا عندهم الخرائط الذهنية الاجتماعية، وقاموا بممارسة نقد الفكر السائد وخرجوا من رحم التقليد وكهف الظلام العقلي إلى هواء الحقيقة الصحي، وشمس المعرفة المتألق؛ فإذا حملت نخبة هذا الفكر ونمت من خلال قانون المحنة تصهرها، وتخرج الخبث من تضاعيفها، وتلحم أطرافها، تتحول مع الوقت إلى (كتلة حرجة) تغير طبيعة المجتمع، بعد مكثها في وسط الحضانة إلى حين. سقراط الذي دفع حياته ثمناً لأفكاره تبعه شاب أخذ اسمه في التاريخ بجانب سقراط مؤرخاً وشارحاً لأفكاره هو أفلاطون؛ فسقراط لم يكتب عشرة أسطر، ولكنه ترك خلفه عشر مدارس فكرية، ليس آخرها (أكاديمية) أفلاطون و(مدرسة) أرسطو والكلبيين والرواقيين والإبيقوريين. كان سقراط فلتة عقلية مدهشة، ونبتت أفكاره بعد موته في تيار عقلاني إنساني لم يتوقف عن التأثير حتى وأنا أكتب عنه بعد مرور 2400 عاماً على موته. يشبّه أفلاطون تلميذ سقراط أعجب مايحصل لمن يمارس القطيعة المعرفية، ويخرج من ظلام كهف التقليد إلى شمس المعرفة، ويتحرر من وهم امتلاك الحقيقة الحقيقية النهائية، يشبه رجلاً مر في ثلاث حالات: من هو داخل الكهف لايبصر إلا من خلال حركة الظلال، ويرى سجين هذا الكهف أن مايراه هو الحقيقة النهائية وسواها ليس بحقيقة؛ فإذا انعتق ورأى الكون بمنظار جديد يعرف الفرق بين الظلام والنور وهو حس وتألق خاص لايعرفه إلا من خاضه وعاناه وانبهر منه البصر، وشهدت له العاقبة، ولكن المأساة أن من يعود ليشرح لهم ما رأى وعاين؛ يفاجأ بالظلام الدامس يعمي عينيه؛ فيتهم بالجنون، ويطالب بقفل فمه، ويصبح أحمقَ أشد من قبل!