الحديث عن الهوية من الأحاديث التي قد تكررت كثيراً في كتب المفكرين العرب منذ بدايات القرن الماضي، ولايزال مستمراً إلى الآن في ظل التحديات التي تواجهها الأمة، وذلك لأن الحديث عن الهوية نوع من الدفاع عن الوجود أو إثبات للوجود على المسرح؛ كما يقول د. عبدالوهاب المسيري “إن الهوية في الواقع شكل أساسي من أشكال المقاومة شرط ألا تتحول إلى “جيتو” يدخل فيه الإنسان ويتخندق” وهذا الفرق البسيط بين المقاومة والانغلاق يكاد لا يدرك في ظل صراعات أثنية/ دينية تلوح على المنطقة العربية متكأه إلى التفسير البشري للدين، وذلك لأن الدين يعتبر أهم مرتكز من مرتكزات الهوية ، كما يحدد ذلك الأستاذ محمود سمير المنير بقوله “الهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى”. لكن صامويل هنتنجتون صاحب كتاب (صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي) يرى أن “أهم عناصر الهوية هو الدين؛ حيث تذوب الهويات متعددة العناصر في الحروب، وتصبح الهوية الأكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة، وغالباً ما تتحدد هذه الهوية دائماً بالدين” لكن ماهي الهوية؟ اشتقت كلمة الهوية من الضمير (هو)، وجاء تعريفها في كتاب التعريفات “بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب”، فهي الجوهر الذي يميز الشيء عن غيره ،”فهوية أية أمة هي صفاتها التي تميزها من باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية” و يعرفها د محمد عمارة بقوله “هوية الإنسان، أو الثقافة، أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء -إنساناً أو ثقافة أو حضارة- الثوابت والمتغيرات.. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة” لكن هل تتجدد الهوية بدون تغيير كما يقول د. محمد عمارة؟ يجيب د. محمد عابد الجابري بقوله “ الهوية ليست شيئاً جامداً جاهزاً بل هي كيان يكون ويصير، ينمو ويغتني باللغة وما تحمله وتنشره من موروث حضاري”، ويضيف د. عبدالاله بلقزيز بقوله “إن الهوية، هوية شيء ما غير قابلة للإدراك إلا بوصفها حصيلة تراكم متجدد، فما لا يكون في زمن جزءاً من مكونات الهوية، قد يصبح كذلك في زمن لاحق، وما كان من مكوناتها أو من محدداتها في زمن، قد يندثر مفعوله فلا يعود في جملة ما تتحدد به هوية الشيء”، ويسرد د. عبدالوهاب المسيري تفصيلاً لهذا التراكم المشكل للهوية بقوله “فهوية شعب ما تتشكل عبر مئات السنين من خلال تفاعله مع الطبيعة وبيئته الجغرافية ومع بني جلدته ومع الشعوب الأخرى.. ولأن أعضاء هذا الشعب لا يعكسون الواقع كما هو، وإنما يتفاعلون معه (فعقولهم التوليدية تبقى وتستبعد وتضخم وتهمش)، فإن هويتهم تتشكل من خلال إدراكهم لما حولهم، ومن خلال تطلعاتهم ورؤاهم وذكرياتهم، فهي ليست مجرد انعكاس بسيط لبيئتهم، ومن هنا تكتسب الهوية فرادتها وتركيبيتها التي لا يمكن ردها إلى قانون أو نمط مادي” وباستمرار السنوات تتشكل الهوية الخاصة للشعب القاطن على منطقته الجغرافية متفاعلا معها ومع مورثاته التاريخية ليستمر تشكل الهوية التي يشبهها د. عبدالاله بلقزيز “بالمادة المطاطية القابلة لاتخاذ أحجام مختلفة، إنها إذن ليست مغلقة أو نهائية، بل مفتوحة ونسبية.. ومتعددة” الهوية المشتركة و الوحدة الفضفاضة من هنا تكمن أهمية الهوية، إذ أن “الإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، لأن الإنسان لا يبدع إلا إذا نظر للعالم بمنظاره هو وليس بمنظار الآخرين، لأنه لو نظر بمنظار الآخرين، أي لو فقد هويته، وأصبح عقله في أذنيه، فإنه سيكرر ما يقولونه ويصبح تابعا لهم، كل همه أن يقلدهم أو أن يلحق بهم، ويبدع داخل إطارهم” لكن الدعاوى الأثنية الدينية السائدة في عالمنا العربي في العصور المتأخرة تجعل من الهوية سلاحاً مرتداً على الذات أكثر من كونها “درعاً” للوقاية من الآخر! فكيف يمكننا التوازن بين الدفاع والانطلاق إلى المشاركة في الجهد الإنساني؟ تكمن المشكلة أن المفهوم الأرسطي للهوية باعتبارها جوهر ثابت لا يتغير البته الذي تبناه الغرب المادي هو ما استوردناه و تبنيناه بدورنا نحن العرب للهوية؛ لذا أصبح مفهوم الهوية - كما يقول د. عبدالوهاب المسيري “يتأرجح بين نقطتين ماديتين متناقضتين، الأولى نقطة صلبة تقوم على ثنائية قطبية حادة (أنا في مقابل والآخر) كما فعل النازيون والصهاينة في الغرب وبعض السلفيين والقوميين المتعصبين وبعض دعاة القومية العربية، بعض الوقت، أما الثانية فهي نقطة سائلة تذوب فيها الحدود والهويات، كما هو الحال الآن في إطار النظام العالمي الجديد” ورداً على هذه الحدية في المنظور يطرح د المسيري رؤية يسميها “ الإنسانية المشتركة” حيث يتم النظر إلى الهوية باعتبارها صورة مجازية لا جوهراً صلباً ثابتاً، هذه الإنسانية المشتركة “تذهب إلى أن كل البشر داخلهم إمكانيات لا تتحقق إلا داخل الزمان والمكان، وهى في تحققها تكتسب قسمات وهوية محددة! فالإمكانية الإنسانية الكامنة حينما تتحقق في الزمان والمكان الصيني، فإنها تثمر الإنسان الصيني والإنسانية الصينية، وإن تحققت في الزمان والمكان الغربيَين، أثمرت الإنسان الغربي والإنسانية الغربية، وتحقق الإمكانية ليس أمراً حتمياً، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن يرقى فوق إنسانيته ويمكن أن يهبط دونها” وكذلك يطرح د. المسيري فكرة “الوحدة الفضفاضة” التي تفسح المجال أمام كل الجماعات الأثنية والدينية أن تعبر عن هويتها، طالما أن هذا التعبير لا يفت في عضد سيادة هذه الدولة..