هذا الصباح، تبحث يقظة أهل الحي عن شئ فقدته دون أن تعرف ما هو..! سربت حيرتها إلى جميع ساكنيه، اختزلت طقوسهم اليومية إلى رحلة بحث عما ينقص صباحهم الغريب هذا، تسارع الشعور؛ فطال الجميع بلا استثناء. ودعت النسوة أزواجهن وقبلن أطفالهن، وتوجه الجميع إلى ما يشغله راسماً على شفتيه ابتسامة ناقصة باحثة هي الأخرى عما يكملها. ردد أحد المارة “يا رب .. يا كريم” فتوجهت الأنظار من حوله إلى المكان الذي يقتعده العم صالح، كان خالياً إلا من قطعة الكرتون الذي يجلس على نصفها ويمكنه النصف الآخر من سماع كل ما يقذف عليها من نقود. وأولاً بأول يدسها في جيب سترته الداخلي. هكذا تعود أهل الحي على العم صالح؛ الرجل الضرير الذي جاءهم قبل ستة أعوام لا يعرفون من أين، اختار موقعاً مميزاً يجعل الداخلين والخارجين من وإلى الحي يمرون عليه، تماماً في قلب الشارع، تقوده امرأة عجوز قبل أن يستيقظوا من نومهم وتعود لاصطحابه قبل حلول الظلام. الظلام هو الشيء الوحيد الذي يملكه وهو على يقين بأنه لن يفقده، لا يعرفون له أهلاً أو بيتاً أو حتى أقارب، فقط صوته الجهوري الذي يطغى على كل ما في الحي مردداً: “يا رب.. يا كريم” لاستجداء عطف المارة، صوته الذي تسرب إلى ثنايا الحي فسكن حجارته، يتدحرج صداه إلى جوف منازلهم، يقض مضاجعهم يستفز مرضاهم الباحثين عن الهدوء ولو لساعات نهار قليلة. قرر أهل الحي إعطاءه ما يكسبه من التسول في اليوم ليشتروا هدوء النهار الذي فقدوه منذ تجذر صوته في الحي ذات صباح، دون فائدة “رزقي بيد الله وليس بأيديكم” هكذا رد عليهم العم صالح، وباءت كل محاولاتهم لإيجاد حل بالفشل الذريع. لم يكن أمامهم خيار، تعودوا عليه.. أصبح جزءاً من الحي، ينظمون على قدومه وعلى رحيله مواعيدهم وأعمالهم. لهذا كان غيابه المفاجئ للوهلة الأولى مثيراً لتساؤلاتهم التي نشرت اذرعها في أرجاء الحي. يوم بلا: “يا رب.. يا كريم” ترددت الإشاعات في اليوم التالي عن موت العم صالح بسكتة قلبية نتيجة تعرضه لسرقة أفقدته كل ما جمعه من التسول. وأخرى عن اكتفائه بإيجار عمارته التي بناها من التسول. وثالثة عن إصابته في حادث سيارة أفقدته القدرة على الحركة لأيام سيعاود بعدها نشاطه. في اليوم الثالث فاق عدد الشائعات عدد سكان الحي ونزح بعضها إلى الأحياء المجاورة. اليوم الرابع عادت الأمور إلى سابق عهدها، أنهى الحي انشغاله بمصير العم صالح وتوقعات ما حدث له. تبخرت الشائعات جميعها، كما تبخرت “يا رب .. يا كريم” جملة العم صالح بصوته الجهوري الذي لن يعاود إزعاجهم ثانية. 7 مارس 2000م