خرجت من سجن قاهرة حجة بعد عامين للإشراف على المدارس فتحنا المدرسة المتوسطة وأغلقت بسبب رأي طالب صغير في سجن القاهرة بعد أربعة أشهر نقلت من سجن نافع إلى سجن آخر يسمى القاهرة، وهو حصن مطل على السجون وعلى مدينة حجة، كان أخي الأكبر مسجوناً فيه منذ أربع سنين منذ أن تركنا اليمن وذهبنا إلى عدن، لأن الإمام سجن جميع أفراد الأسرة بعد هربي إلى عدن، وعندما دخلت صافحت أخي، ولما صافحته اعتقد أنني صعدت لأقتل لأن العادة كانت هناك أن كل من ينتقل من سجن نافع إلى هذا السجن يصعد للاستنطاق “ليقول آخر مايريد قوله ويملي وصيته” ثم للإعدام، لذلك لم يتماسك عند المصافحة فقلت له: شد نفسك، لايوجد شيء، كنا قد تعودنا على الموت ولم نعد نهتم بذلك، فمكثنا سوية في غرفة واحدة وأصبح الغذاء أحسن، وكان هناك مسجونون جرى التخفيف عنهم وجيء بهم إلى هذا المكان، وفكوا عني كل القيود إلا قيداً واحداً. وبعد فترة وصلت برقية من الإمام إلى أخي: “من الإمام أحمد إلى الشيخ علي محمد نعمان، بلغنا أن أخاكم الأستاذ يكتب مذكراته في السجن منذ مقتل الإمام الشهيد، وهذه إذا أضيفت إلى ماقبلها ستكون من العجائب، فرجاء أن يواصل العمل في هذا السبيل، وقد طلبنا زوجته وأولاده من عدن، والحقيقة أن هذا لم يكن صحيحاً حتى أنه لم يكن لدي قلم لأن السجان كان قد أخذه في بادئ الأمر، فأجاب عليه أخي: “مضى على الأخ الأستاذ منذ سجنه أربعة أشهر و10أيام وهو مستلق على ظهره لايتحرك في السجن ومنذ أن صعد إلى عندنا إلى سجن القاهرة لاقلم عنده ولا ورق، ولكنه الآن يستطيع أن يكتب، فتفضلوا بالأمر إلى مدير سجن نافع لتسليم قلم الأستاذ” ولايزال هذا القلم إلى الآن موجوداً معي، بدأنا نكتب ماذا نكتب؟ نكتب عن شخصية الإمام، فإذا بنا نستعرض صحبتنا له في الماضي، وأن الذي وجهنا إلى الوطنية هي كلمته التي وجهها من حجة حين كان مايزال يتنافس مع علي الوزير على تولي إمارة لواء تعز. “ونحن قد سجلناها هنا حينما قلتم بثوا الروح الوطنية في نفوس الناشئة، فإن حقوق الدين والوطن كادت تكون غير التي حركتنا للوطنية وللوطن وإذا كنا قد أخطأنا السبيل فإن العفو يتسع”. فبقينا نتكاتب، نأخذ ونرد في رسائل بيني وبينه لم تزل إلى اليوم محفوظة عندي، بقينا نتكاتب، وإذا بكثيرين من الإخوة جاءوا إلى عنده يتشفعون ويرسلون المال عن طريقه، ومن جملتها رسالة من الزبيري من باكستان بدأ الإمام نفسه يستعيد الذكريات وأول رسالة اطمأن إليها “إلى الأستاذ الكبير”، ووصل إليه صديقي الأستاذ محمد سالم البيحاني، وهو أخ من المكافحين كنا نقرأ سوية في الأزهر وأصبح صاحب دعوة إسلامية في عدن وأسس المعهد الإسلامي وكان له احترام عند الإمام ذهب إلى الإمام حين علم أننا في السجن يتوسل إليه، ثم كان بقاء صديقي الزبيري في الخارج من العوامل التي رفعت عني الخطر استبقاء لي لجلب الآخرين إلى جانب أنه كان في نفس الإمام ود. بعد هذه المراسلات والأخذ والرد ارتفع الخطر وذكر الإمام في رسالته أن “الأستاذ البيحاني وصل إلينا ولم يكن هناك داع لتكليفه، فقد أكمل أمس وأن الأمر قد تم، ونحن علم الله سبحانه وتعالى ما أضمرنا لك سوءاً، وإنه ليس معنا لك إلا تلك الكلمة حينما جئت من الحجرية وقلنا لك إن الرائد لايكذب أهله، ونحن لانزال نتذكر المساجلة بين الشعر والنثر وما قلتموه في أيام الولد البدر، وما ألقيتموه في أيام زواج الولد أحمد زبارة،.... وما قتل الأحرار إلا العفو عنهم”، أرسل إلي هذه الرسالة بخط يده عندما كنت في السجن في حين كنت أنتظر الموت، من رجل أجمع الناس على قتلي ويأتي بنفسه ليكتب لي مثل هذا الكتاب! فقد فعل في نفسي عملاً، بادلته الرسائل استصرخه العفو عن المسجونين بكل الإخلاص، وأبين ما وراء ذلك من فوائد وما من ذلك من مصالح، كان نائب الإمام في حجة عبدالملك المتوكل، والذي كان همزة وصل بيني وبين الإمام، يقرأ الرسائل ويتأثر بها، وينصح الإمام بالعفو عني، وإذا بهذا النائب، وهو والد محمد عبدالملك، قد أرسل إلي أمراً بإزالة القيد الذي في رجلي مدة سنتين وهذا يعتبر نعمة: “ارفعوا القيد الصغير عن الأستاذ وعليه أن يخرج ليكشف لنا عن المدارس والمعارف في حجة” وكان أول خروج لي من السجن بعد سنتين نتأمل الأضواء والنهار والأولاد، وكان ابني أحمد مايزال صغيراً لم يتزوج بعد، وعبدالرحمن أيضاً، كانا موجودين في صنعاء، وكانت معي الزوجة ومعها بنت والآن هما في القاهرة، أتوا من صنعاء فأمر الإمام أن أنزل نهاراً تحت حراسة جندي وأذهب إلى المدارس وأشرف عليها ثم أضع مناهج للتعليم ومن ثم أعود إلى سجن القاهرة، كان في رجوعي إلى سجن القاهرة فائدة، فقد كنت أعود إلى الإخوان الموجودين في السجن مثل القاضي عبدالرحمن الإرياني وعبدالله عبدالإله الأغبري، وحمود الجائفي وإبراهيم الحضراني، والإخوان الزملاء الذين كانوا مسجونين معي باقون في السجن، كنا نظل نتسامر نقضي الليل عندهم وفي الصباح نبكر إلى المدارس نلتقي بأبناء النائب نعلمهم العربية وبعض المواضيع المحصورة في كتب محددة مثل الوضوء والطهارة، والنجاسة، والنكاح، فتحنا مدرسة اسمها المدرسة المتوسطة فكان الإمام يلبي كل طلباتنا لأننا قلنا له إن حجة القاعدة التي انتصرت منها محتاجة إلى مدارس، وخاصة في المناطق المظلمة منها، وإذا بالمدرسة المتوسطة تتأسس ويبدأ التعليم، واستعنا بمعلمين من الخارج لتعليم اللغة الانجليزية والرياضة البدنية والكشافة قاوموا هذا التعليم في حجة مثلما قاومت التعليم في الحجرية أيام الأستاذ محمد حيدرة كانوا لايزالون على عقليتي السابقة بينما كنت قد اجتزت هذه المرحلة، وأصبحت الأرض عندي كروية في حين كانت لاتزال عندهم معلقة على قرن ثور، قامت ضجة عند الأمام، ولكن لأن عندي فهم للشريعة الإسلامية استطيع أن أقدم له البراهين من الشريعة الإسلامية فقد كان الحبشة يدخلون ويرقصون في منزل النبي وكان يسمع الأغاني وكان يقول إن “اليوم عيد دعهما يغنيان”. كان باستطاعتي أن أستدل بأحاديث نبوية فيها من التسامح مايكبح جماح العلماء الجامدين، وصادف أن كان نائب الإمام يشد أزرنا وأبناؤه يتعلمون، بعد ذلك بدأنا نستقدم الصحف أرسل إلى الزبيري برسالة استخرجتها اليوم لأبعثها للقاضي الإرياني يقول فيها: “إن تفكيرنا من أساسه كان من سوق السياسية العربية بما فيها من جمعيات وأحزاب وصحف ومحاضرات وزعماء ودجالين ممن أفسدتهم ولوثت ضمائرهم الخصومات والأغراض والمتاجرة السياسية بمصائر الشعوب، لقد تقبلنا منهم كل شيء وتحمسنا له وجعلنا لأنفسنا مثلاً عليا وحملنا أنفسنا وعائلاتنا مالم يستطع أن يتحمله أحد سوانا، وذلك بناء منا على أنهم أبرار وأتقياء، يقولون مايعتقدون ويرون حقاً وصواباً وقد تبين لنا بعد ذلك أن تلك السوق السياسية موبوءة دنسة خبيثة، ويعلم الله أننا كنا أبرياء من هذا الدنس وبعيدين كل البعد عن تصور هذه الحقائق المرة، أخي إن هذه السوق هي التي أضاعت فلسطين وصيرتها دولة يهودية خالصة، بينما كانت الشعوب تتحمس في سبيلها تحمساً جنونياً خالصاً، ولما سكنت المعركة بين العرب واليهود، انقلبت إلى حرب أعصاب بين العرب أنفسهم، كل منهم يتهم الآخر ويخونه ويتربص به، وكان من أثر ذلك أن حدثت في سوريا وهي أنضج البلاد العربية في أقل من عام ثلاثة انقلابات، وكل انقلاب له زعماء ومؤيدون وأنصار يزعمون الحق لهم والباطل والخيانة على سواهم حتى ضاع الصواب، وحارت الحقوق وانهارت العقائد وتقوض الكثير من الأسس التي يقوم عليها الرأي العربي العام، فساد الشك في كل شيء، وعم البلاد العربية مايشبه الانحلال العقلي، ولاريب أنك تأسف اذا فهمت هذه الأحوال وتصورتها، ولكن هذا التصور يضاعف من غبطتك بالجو الذي أنت فيه ولاسيما بعد هذا العطف الكريم العظيم عليك وبعد الطمأنينة على جميع المعتقلين، بعث الزبيري هذه الرسالة من باكستان قبل 20 سنة بواسطة الإمام إلى سجن حجة، وأنا أقول للإرياني اليوم هي الصورة التي رسمها الزبيري قبل 20 سنة ولم تتغير كثيراً إلا في أن السوق السوداء الجديدة أضاعت إلى جانب فلسطين أجزاء غالية من مصر وسوريا والأردن، وهوت بالأمة العربية إلى الحضيض وجللتها بالعار، كما أن الانقلابات في سوريا قد وصلت إلى 17 لا إلى ثلاثة انقلابات فقط. كما قلت،وصلت هذه الرسائل بواسطة الإمام وكنا نحن نواصل التدريس في حجة، ومرت فترة أثاروا بها الإمام إثارة قوية قائلين إن هناك تطوراً، وأن أحد التلاميذ في المدرسة يرى أن لا فرق بين استعمال “البرنيطة” واعتمار العمامة. وكانت الثورة المصرية قد قامت سنة 1952م،ونحن في هذا الجو الناصع مع الإمام، أحدثت الثورة ارتباكاً وأثارت التطلعات عندنا، وظننا أن تغييراً سيحدث في الصورة التي أشار إليها الزبيري في هذه الرسالة، وقلنا الآن آية جديدة، عروبة بشكل آخر،العروبة الأولى كنا قد كفرنا بها بسبب سقوط ثورة اليمن الدستورية وعدم تحرك الجامعة العربية لمساعدتها،وقد كنا في السجون وحدثت المذابح ولم يصنع العرب شيئاً لمساعدتنا، فإذا بالعروبة تأتي بصورة ثانية، عرب 1952م غير عرب 1948م،وإذا بهم يأتون ويضيعون لنا بقية العروبة بكاملها، بدأت هذه الثورة تحدث ردود فعل ونقمة على الوضع القائم، وإذا بالإمام يتأثر هو نفسه، وبدأ يتنكر حتى للأسلوب الذي سمح به بفتح المدرسة،لذلك أمر بإغلاق المدرسة المتوسطة، لأن هذا الطالب لقي مرة صهر الإمام، فظل يتناقش معه، صهر الإمام يحمل على “الرئيس المصري آنذاك” محمد نجيب، فرد الطالب قائلاً إن محمد نجيب رجل مسلم حرر مصر من الرجعية، رد صهر الإمام قائلاً: هذا كافر يلبس “برنيطة” و”البرنيطة” ليست لكم بل يلبسها النصارى، قال الطالب: طيب إذا لبس النصراني العمامة هل يصبح مسلماً؟ فلما رأى الطالب الصغير قد أخرسه بالمنطق في حين عجز عن الرد رغم تقدمه في السن،ذهب إلى الإمام ينبئه بأن حجة ستشهد ثورة مفسدة للدين، عندئذ أمر الإمام بإغلاق المدرسة المتوسطة، حاولنا إعادة فتحها ولكن ذلك كان متعذراً،بعد هذا مرضت، فقلت أريد أن أذهب للعلاج، وسمح بخروجي من حجة لأول مرة، وذهبت إلى الحديدة، هناك التقيت بالإخوان فعاد تسليط العيون علينا. وكنت أعتقد أنه لا يجوز لي أن أخرج على الإمام بأي حال من الأحوال، كنت أفكر بأن الإنسان يستطيع أن يتبصر ويطور أوضاعه داخل بلده بشكل ما، ولكن وجدت أيضاً أن الإمام قد رفض حتى هذا الشيء المحدود مع أنه كان في السابق مستجيباً لكل شيء معقول، ولكن بعد أن قامت الثورة المصرية أعتقد بأن أي عمل سيعمله يخوفه من أن يحدث في اليمن ما حدث في مصر، لهذا ترك كل شيء وعطل الكثير من المشاريع وخف عنده الحماس،وهكذا بقينا نحن مسئولين والناس يتطلعون وينادوننا، وكان الأخ الزبيري قد انتقل من باكستان إلى مصر، هيأوا له المجال وسمحوا له بتأسيس الاتحاد اليمني وبالحديث من إذاعة صوت العرب. وكانت أحاديثه معقولة، وبقي محافظاً على الود للاحتفاظ بسلامتنا ويحاول إغراءنا بالخروج،فكان يبعث إلينا برسائل لم يعرف بها الإمام لأنه عندما أصبح ملكاً احتجب ولم يعد كما كان في أول الأمر، فقد احتجب عن الناس،وكانت الأوضاع تزداد سوءاً داخل اليمن، والناس يسمعون الإذاعات المنتشرة، وثورة مصر هزّت الشعوب العربية هزاً عنيفاً،تطلعوا إليها بلهفة لأن العربي يعشق بالسمع،والأذن تعشق قبل العين أحياناً،نسينا بأن العرب يتاجرون بالشعوب،قلنا لا شك في أن العرب الآن قد تغيروا،وجاءت فلسفة الثورة، ثورة عبدالناصر، لتدغدغنا وتضرب على الوتر الحساس. أولاً أن هذا الرجل “الإمام أحمد” لا يقبل بالوشاية ونحن أكثر الناس شكوى من الوشاية، أول خروجنا من اليمن قلت له خشينا أن نذهب ضحية وشاية أو سعاية نمام كاذب،فلهذا ابتعدنا حتى لا نعرّض حالنا للخطر بالسجن أو غير السجن،كانت الوشاية منتشرة في اليمن،وكل ما يصل شيء إلى الإمام لا نشعر إلا وفلان في السجن،لماذا؟ لا أحد يعلم. جاء في فلسفة الثورة كلمة كان لها أعظم الأثر في نفسي، يقول عبدالناصر في فلسفة الثورة:”لو سئلت ماهي أعز أمانيك؟ لأجبت على الفور أن أسمع مصرياً يقول كلمة إنصاف في مصري آخر، وأن أرى مصرياً قد فتح قلبه بالصفح والحب والغفران لإخوانه المصريين، لكن لم نجد إلا هذا يتحدث عن ذلك،وهذا يشين بهذا، وهذا يريد أن ينتقم من ذاك، وكأن الثورة قامت لتكون سلاحاً في يد الأحقاد،ولكن الثورة لم تكن لهذا”،كنت دائماً ألهج بعبد الناصر وأنه الذي سيصلح العرب،وكنت أفكر دائماً كيف يمكنني أن ألقاه، هيجنا الزبيري برسائله،وكانت الدعاية فياضة في تلك الأيام، انتقلنا من حجة وذهبت إلى تعز لزيارة الإمام.