لن نسلك في هذه المقاربة سبيل الدرس الأكاديمي التقليدي، وإنما سنترك جانباً القوالب الجاهزة التي اعتاد الدرس أن يتلبسها في مثل هذه المواقف ليناقش محمولات العبارة الشعرية في القصيدة. ونبدأ مما تصرح به الشاعرة نفسها من بوح تحاول أن تبرر به القول والفعل معاً.بيد أن ما يُفهم من المشاكسة ذلك الرفض العنيد لواقع معطى، وحينما يكون الواقع المعطى هو اللغة بجهازها المفاهيمي والقواعدي، فإن المشاكسة ستنصرف حتماً إلى الانتهاكات التي يحلو للجيل الجديد تسميتها ب«التجريب» وتجريد اللفظ من دلالته، وحمله على توجسات وظلال لا يطالها التأويل الحاذق حتى وإن اخترم حدودها. ويُفهم من «الصوت الشعري» تلك الميزة التي يصطنعها بعض الشعراء فتغدو كالتوقيعة في أشعارهم يُعرفون بها، وليس كل الشعراء يفلحون في تسجيل صوتهم الشعري في آذان المتلقين، بل هو اقتدار شعري على صوغ العبارة على نسق يألفه المتلقي، ويجري في الأشعار الشاعر جريان الروح في الجسد. وليس من عيب في أن تكون الشاعرة مشاكسة، مالكة لصوت شعري خاص، بل ذلك هو مطلب الفن الأصيل، ولكن رفض الهروب إلى الماضي أو الآتي يطرح قضية الاقتصار على الحاضر.. وحاضر الشعر العربي لا يبشر بخير أبداً. ذلك ما قالته بالحرف الواحد في مقابلة لها حين سئلت عن تبرير انتقالها إلى كتابة الرواية، فأجابت قائلة: «إن الشعر اليوم أصبح مكبلاً في مقروئيته، وهو ما جعل العديد من الشعراء يهاجرون في السنوات الأخيرة إلى الرواية، بعدما تقلصت نسبة مقروئية النص الشعري في الوطن العربي، هذا ما جعل القصيدة اليوم تصل إلى مساحة ضيقة جداً من القراء، عكس النص السردي الروائي الذي انتشر في السنوات الأخير»[18] أم أن الإخلاص الذي تتحدث عنه ينصرف إلى أمر مختلف؟.. إنها تقول عن قصيدة النثر أنها: «اختياري السيد، لم تفرضه علي العادة، كما لم يفرض علي الانسياق السهل والانزلاق في مزاريب القصيدة التقليدية المجلجلة العائدة، والتي يسخر لها الدولار، والإعلام الموجه الثقيل، على الرغم من الضعف البادي عليها، وكأنما ينفخ في مومياء»[19] إننا لا نتبيَّن الآن بوضوح موضوع إخلاصها.. إنها «قصيدة النثر» التي تتشبث بها لأنها لا تريد الانسياق وراء السهل والمتمثل بزعمها في القصيدة العمودية، التي يُسخر لها الدولار، والإعلام الموجه الثقيل، على الرغم من ضعفها.. إنها المومياء التي ينفخ فيها من جديد. لم تنقطع موجات كيل التهم للقصيدة العمودية منذ مطلع القرن العشرين، ولم يردد المتهمون إلا تهمة واحدة.. إنها خطابية لا تناسب العصر! أو مجلجلة مثلما قالت الشاعرة التي حدثتنا عن الخمريات والصوفيات من قبل، وأشادت بالمتنبي، وابن الرومي، وابن زيدون.. ورأت أن ريادة القصيدة العمودية مطلب سهل، لأن أذن المتلقي مهيأة من ذي قبل. ألا يحق لنا أن نسأل أنفسنا ما الذي تقدمه قصيدة النثر بعدما تحللت من القيود، وأضحت ملكاً مشاعاً لكل دعي يريد أن يسمى شاعراً.. وتعجز عنه القصيدة العتيقة؟ 4 قصيدة البوح النرجسي: هل نجد لدى الشاعرات الجزائريات فهماً خاصاً لقصيدة النثر نتشبث به ونبني عليه رؤيتنا النقدية؟ فهل لنا في تصاريحهن من مداخل نستثمرها للفهم السليم؟ ترى «زينب لعوج»: «أن القصيدة عندها تتناسل من نطفة إلى جنين، وتكبر، ثم تموت كالكائن البشري، ولكن موتها ليس نهائياً، لأن الكلمة تأتي بالقصيدة، باعتبار أن النص لا ينتهي، فهو اللغة، وهو الصورة»[20] فكل عمل فني إنما يبدأ من نقطة.. من فكرة، ثم يتدرج في أطوار التخلق ليغدو في نهاية المطاف عملاً فنياً. فذلك من سنن الأعمال الإبداعية شرقاً وغرباً. بيد أن المفارقة العجيبة في رأي الشاعرة تكمن في أن القصيدة تكبر وتموت، شأنها في ذلك شأن الكائن الحي. غير أننا نعلم من أهل الفن ونقاده، أن ميلاد العمل الفني ميلاد أزلي، لا تعرف فيه الأعمال الفنية موتاً. لأنها تسلك سبيلاً يقع خارج الزمنية التي تحكم سائر الناس. وإلا لماتت قصائد الشنفرى، وامرئ القيس، وغيرهم، ولماتت لوحات دافنشي، وماني، وغيرهم.. ثم تضعنا الشاعرة وجهاً لوجه أمام نص لا ينتهي، فقط لأنه اللغة، لأنه الصورة.. فمتى كان النص هو اللغة في عرف النقاد واللغويين والفلاسفة؟ لقد قال لنا هؤلاء أن النص تجلٍ لغوي وحسب، وليس اللغة بحال من الأحوال. لأن النص استعمال، والاستعمال مرهون بالسياق، والسياق مشدود إلى إحداثيات الزمان والمكان والحاجة. لقد صدق «ستيفان زفيغ» لما قال بأن الشعراء والفنانون هم أسوأ الشهود على أعمالهم، لأنهم لا يملكون اللغة العلمية التي يتحدثون بها عن أعمالهم، وليس لهم إلا ذلك الروغان الشعري يلوذون به كلما ضاقت عليهم دائرة السؤال.[21] تطل «نصيرة محمدي» من خارج القصيدة الجديدة على حقيقة أخرى فتقول: «يبدو لي أن الشعر في الوقت الراهن ظل بعيداً عن الانشغالات الحقيقية، والمآسي الكبرى التي نعيشها خاصة في الوطن العربي، كما لو أنه يغرد خارج السرب.»[22] لأن القصيدة الجديدة انغلقت على نفسها، وباتت قصيدة بوح تتعرى داخلياً في خلوات الذات الحالمة التي تتلمس تضاريس جسدها، وتتحسس أوكار أوهامها. فقد رفضت من قبل أن تتحمل مسؤولية واقعها، وأن يكون لها وظيفتها التي تلتفت إلى الواقع الذي يضج من حولها، وقبلت أن تتخفف من كل ثقل، وأن تنساق وراء متعة القول وفتنته لتقول ذاتها ثرثرةً، وإفصاحاً، وانتهاك حرمة. وبذلك ضلت طريقها في زحمة العواطف والاختراقات والتجاوزات. فما وصلت إليه هذه تتخطاه تلك، وتتمادى أخرى باسم الحرية، وكسر التابوهات، في بلوغ تخوم القول الفاحش. ذلك هو التغريد خارج السرب! الذي لا ترى له الشاعرة «نصيرة محمدي» من سبب إلا قولها: «ربما لأن هناك حالة إحباط عامة، وفقدان للمعنى، وانهماك في تفاصيل تبعدنا عن جوهر الأشياء، وعمق الوجود. وربما هناك تسطح عام أفضى إلى استبعاد قضايا خطيرة في عالمنا، واستسهال التعاطي معها، والنظر من زاوية ضيقة لما يمور، ويتحول، وينكسر، ويُخرب في حياتنا»[23]. إنه حدس الشاعرة الذي يصيب كبد الحقيقة، فيفضح في الشاعر حالات الإحباط التي نتجت عن عدم جدوائية تجريب طرائق لم تفلح في خلق جمهور لها، يقبل عنها إيقاعها، ولغتها، وصورها، وغموضها. وكلما تمادى الشاعر في غيِّه أحس بالعزلة والانطواء. وفي الشعر فقدانه للمعنى، وانهماكه في التفاصيل التي لا تسمن ولا تغني من جوع إلا جوع التلصّص والثرثرة الذي انتهى سريعاً إلى ضرب من التسطيح الفج في الرؤية. ففي الحياة الخارجية أمور تمور موراً، وتتحول، وتتكسر، وتُخَرَّب، على الفن أن يلتفت إليها ليجليها للناس مرة أخرى في أثواب جديدة تعيد لها تألقها الدائم. بيد أن شعراء اليوم قد استثنوا من شعرهم هذه الوظيفة، وانقلبوا مثلما تقول الشاعرة «نصيرة محمدي» إلى: «تلميع أسمائهم، والمتاجرة بكتاباتهم، والركض وراء العابر والسطحي.. وراء مظاهر كاذبة تقتل روح الشعر، وتحطم سر العلاقة السامية بينه وبين الإنسانية. الشاعر الحقيقي مجبول على الإنصات لهذا العالم وكائناته، لأنه مجبر على الانخراط في الحياة، والتعبير عن الهواجس الكبرى، ومجابهة الأسئلة العصية.»[24] وليس أمامه أن يدور في أتون الذاتية المريضة التي تتفقد نرجسيتها كل حين، وتحسب أن الناس يطربون لها من خلال شبقية تتنزى في كل حرف، وتتبرج في كل جملة. أم نكتفي بالتساؤل كما تفعل «أمل عواد رضوان» قائلة: «هل اللّغةُ الإباحيّةُ المغموسةُ باللّذّةِ الأنثويّة، هي نوعٌ مِن إسقاطاتِ المجتمع، تُشكّلُ خطابًا تراكميًّا مُريبًا يكشفُ عوراتِ المجتمع، ويُهدّدُ خرابَهُ العابثَ بمقامِها؟ أم هي لغةٌ متمرّدةٌ تجتهدُ حروفُها النّحيلةُ في فكِّ الخناقِ عن كيانِها جسدًا وروحًا، للتّخلّصِ مِن التّحجيمِ الميدانيّ والتّهميشِ الفكريِّ والتّأطيرِ الاجتماعيّ؟ هل هي لغةٌ تكشفُ عن نرجسيّةِ جسدِ أنثى عارمٍ بالمخبوءِ السّافر في أناها، أم هي لغةٌ تسعى إلى تحقيقِ رؤى فلسفيّةٍ جماليّةٍ تعيدُ للأنثى هدوءَها الرّوحيَّ ورفاهيّتَها الأنثويّة؟»[25]. تلك هي الأسئلة التي يجب عليها أن تفتح دواوين الشعر النسوي لتنفض عنها أوهامها الحالمة المشبعة بالنرجسية. الهوامش: [1] سوسن السوداني. الشعر النسوي.. توسل بأدوات السرد وانصهار أنوات الكتابة المثقف، صحيفة ثقافية، سياسية، مستقلة الأربعاء: 02-03-2011 . العدد: 1684. http://www.almothaqaf.com [2] سوسن السوداني. الشعر النسوي.. توسل بأدوات السرد وانصهار أنوات الكتابة المثقف، صحيفة ثقافية، سياسية، مستقلة-الأربعاء: 02-03-2011 . العدد: 1684. http://www.almothaqaf.com [3] نفسه. [4] نفسه. [5] نوّارة لحرش استطلاع ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر الاثنين, 19 يوليو 2010. [6] نفسه. [7] نفسه. [8] نفسه. [9] نفسه. [10] نفسه. [11] نفسه. [12] نفسه. [13] نفسه. [14] نفسه. [15] نور بدر. القدس العربي. دمشق الشاعرة الجزائرية ربيعة جلطي. قصيدة النثر إخلاص للعصر. موقع الامبراطور. [16] نفسه. [17] نفسه. [18] جريدة الفجر31 أوت 2010. [19] نور بدر. القدس العربي. دمشق الشاعرة الجزائرية ربيعة جلطي. قصيدة النثر إخلاص للعصر. موقع الأبراطور. [20] ع. مرزاق جريدة النصر. الثلاثاء, 12 أكتوبر 2010 .. مهرجان الشعر النسوي بقسنطينة. [21] انظر. حبيب مونسي. توترات الإبداع الشعري.ص:175.ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر.2009. [22] نوّارة لحرش استطلاع ما الذي يفعله الشعر في الحياة؟ جريدة النصر الاثنين, 19 يوليو 2010. [23] نفسه. [24] نفسه. [25] أمل عواد رضوان 14أبريل 2010. اللغة الإباحيّةُ المغموسةُ باللّذّة.