الأفكار الجديدة والجريئة تصيب العقل الراكد بالصدمة، فيندفع إلى أسهل المواقف تجاهها وهو الرفض.. والغالبية العظمى من الرافضين يبنون موقفهم على أساس انطباعي خالص ولا يدركون أن الفكرة الجديدة هي ثمرة مقدمات لم يتعرفوا عليها، وأن صاحب الفكرة لا يستطيع أن ينقل تلك المقدمات، وبجانبها تلك الخبرات التي كونها - عبر السنين - في فحص الفكر، إلى ذهن السامع دفعة واحدة. ومن ثم فإن الزمن شرط في فهم الفكرة الجديدة لا غنى عنه.. فحين نقول إن المذاهب الجماعية في الدين ليست شرعية، وإن الفتوى في الإسلام لا أصل لها، وإن الاجتهاد مطلوب من كل فرد مسلم، وإن ذلك سيخلصنا من آثام الطائفية على الفور. فإن هذه الأفكار لها مقدمات علمية عند صاحبها، وهذه المصطلحات، لها معانيها المحددة، التي قد لا تتفق مع تلك التي في ذهن المستقبل. من تلك المقدمات، تمييز الكاتب بين دلالات المصطلحات الآتية: الدين والفكر الديني، الشريعة والفقه، التعليم والإفتاء، المعرفة والفتوى. فالدين أو الشريعة هي - فقط - ذلك المنزل السماوي الذي لا خلاف بين أهل الملة على كونه من عند الله. والفكر الديني أو الفقه، هو ذلك المنتج البشري، الذي ينتجه العقل من تأمله وتدبره للمنزل السماوي. والتعليم هو عملية يقوم فيها المعلم بنقل المعرفة – سواء أكانت معرفة دينية أو معرفة مدنية – إلى المتعلم الجاهل. وعملية النقل هذه بطبيعتها مدنية لا دينية، وإن كان المحتوى المنقول ديني. أما الفتوى فهي عملية استنتاج يقوم فيها المفتي بإعمال عقله في نصوص عديدة، وفق منهج معين، بهدف استخراج حكم ديني، يتبناه الفرد المسلم بقصد التدين والتقرب إلى الله. لاحظ أننا في التعليم “ننقل المعرفة” أما في الإفتاء فإننا “نستخرج الحكم”. ونقل المعرفة يفترض مسبقاً وجود معارف جاهزة ومقررة من قبل الجماعة لا خلاف عليها. ولا يشترط في هذه المعارف أن تكون مطابقة للحقيقة دائماً، فقد ينقل الناس معلومة خاطئة لمدة من الزمن ثم يكتشفون خطأها ويقومون بتصحيحها. أما استخراج الحكم في الفتوى، فإنه يفترض سلفاً عدم وجود حكم سماوي صريح في المسألة، ويفترض أن الله قد سكت عن الحكم في هذه المسألة لينطق به الفقهاء، باعتبارهم موقعين عن الله، كما قال ابن القيم، والفقهاء من حوله. ولاحظ - أيضاً - أننا سمينا الأولى “معرفة” وسمينا الثانية “حكماً”. والمعرفة هي معلومات جاهزة كما أسلفت، لا تحتاج إلى استخراج عن طريق الاستقراء. ومثلها المعرفة التي تأتي عن طريق الاستنباط. وهناك فرق معروف عند أهل الاختصاص بين الاستنباط والاستقراء، وبين ما ينتجه هذا وما ينتجه ذاك. ولهذا نقول إن القيم الإسلامية التي نؤمن بها، مثل قيم الحق والخير والجمال، هي قيم استنباطية وليست قيما استقرائية. ثم لاحظ أننا ميزنا بين غرض المعرفة وغرض الفتوى، فغرض المعرفة هو إزالة الجهل، أما غرض الفتوى فهو التقرب إلى الله بالدين. فالغرض الأول مدني (علماني) والغرض الآخر ديني. هذه العملية التي قمنا بها لا تدخل في باب الاستقراء، بل في باب الاستنباط، ومن ثم فإنها ليست فتوى بل نقل معرفة.. إننا ننقل معرفة ولا نستخرج حكماً.. معرفة تقول إن القرآن لم ينص - في آية واحدة صريحة لا تقبل الجدل - على أن الله قد كلف جماعة من الناس للحديث فيما سكت عنه. ولا يستطيع أحد أن يزعم غير ذلك، لأن القرآن بين أيدي الجميع. وأما الآيات القرآنية التي يتعللون بها فهي نصوص ظنية الدلالة، لا تصلح للقطع في المسألة، بدليل أنها تحتمل أكثر من فهم، ونحن نقدم لها فهماً يتسق مع القرآن وفلسفته. وليس المهم أن نقدم لها فهما صحيحاً 100% بالطبع. بل المهم أن نثبت بأنها ليست صريحة وقاطعة في الدلالة على ما يريدون. فحين يتعللون بقوله تعالى: فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم. فإن هذه الآية لا تدل أبداً على أنها مطالبة بوجود جماعة متخصصة في إنتاج الفتوى، وإنما هي حث من الله لوجود جماعة متخصصة في نقل المعرفة، عند الدعوة إلى الدين الجديد. بدليل أن هذه الجماعة وقت نزول الآية لن تفعل شيئاً أكثر من أنها ستنقل الوحي المنزل إلى القبائل والجماعات التي لم تسمع به من قبل. إنها عملية تعليم لا عملية إفتاء. ولم يكن هناك يومها من يحتاج إلى فتوى والوحي يتنزل. والطريف أن ابن القيم في موسوعته أعلام الموقعين لم يستشهد بآية واحدة لشرعنة العملية التي يقوم بها في كتابه، وهي عملية التوقيع عن الله بالفتوى وإنتاج الأحكام. والأطراف من ذلك أن الغزالي قد صرح بالقول إن كل ما ينتجه الفقهاء ليس من علوم الدين بل من علوم الدنيا، وأن الفقهاء ليسوا رجال دين بل رجال دنيا. وأن مهمتهم هي – فقط – القيام بأعمال التقنين لمساعدة الحاكم في سياسة الرعية!.