بعد اندثار ثقل الشيوعية والحرب الباردة انتقل العالم إلى هيمنة القطبية الواحدة "أميركا" وبالتالي فمعظم ما كانت تسمى دول العالم الثالث إما سارت في تسابق لإرضاء أميركا أو توازن واقعي وواع من الذات وداخلها، فلا تكون بين المهرولين لإرضاء الأميركي واسترضائها من وضع انكشاف أو بشكل مكشوف، ولا من الذين يستهدفون مصالح أميركا أو يتقاطعون معها والمتغير العالم لاستعراض دعائي أو صراعي..7 على مستوى منطقتنا فإن حدثين وقضيتين أثرا بشكل كبير على واقع المنطقة كواقع للأنظمة وواقع للحياة السياسية والعامة، والقضيتان هما حاصل للمتغير العالمي أو الأهم في المتغير العالمي.. الأولى هي غزو الكويت من قبل العراق وتحريرها بتحالف دولي، والثانية أحداث سبتمبر 2001م وتحالف دولي لغزو أفغانستان ومواجهة الإرهاب، فغزو العراق 2003م قدم قوة أميركا أمام العالم أو مدى الانفراد أو الهيمنة على الشرعية الدولية، فهل يقاس من ذلك حاجية الرضى والاسترضاء أم حاجية توازن من الذات ومع الذات ثم مع الآخر قبل حدوث تغيير أو متغير؟!!. على مستوى المنطقة وفي إطار القضية الأولى غزو الكويت فإنه باستثناء ما عرف بالخلاف العراقي - الكويتي قبل الغزو لم يسجل أي نظام أو طرف في المنطقة موقفاً من ديكتاتورية النظام العراقي أو خطره على المنطقة، وبالتالي جاء تصعيد المواقف من التصعيد الأميركي. وفيما لم يسجل أي طرف مما عرفت بدول الضد موقفاً داعماً لغزو الكويت أو رافضا لتحريرها، ولم يكن من خلاف على حق وحسم التحرير وإنما حول استنفاد سبل تحرير أقل كلفة وثمنا في إطار ذات السقف الزمني حتى الشروع في تحرير الكويت بالتحالف أو نصفه أو أقل. هذه الرؤى أيضاً لم تكن ترفض التحرير بالتحالف أو التدخل الأجنبي، ولكنها كانت تفضل أولا تجريب سبل أخرى، فالمعروف هو أن أميركا كانت تريد الغزو أو تتمناه ليتم تحرير الكويت كما تم، وبالتالي فأميركا وقفت ضد تجريب خيارات أخرى أكثر مما وقف آخرون أمام خيارها. ولأن هذا هدفاً أميركيا فهي دفعت بالأوضاع باتجاه تحقيق هدفها أو أهدافها، وبالتالي فأميركا لا تولد من خيارات أساسية أو استراتيجية أو قضايا صراع محورية صراعات وقضايا صراع متشعبة، كما اصطفاف "مع وضد" وهو تصنيف أقوياء المنطقة للأضعف، وليس اصطفافاً صراعياً ولا اختياراً إلا من الطرف الذي صنف. فأميركا كان يعنيها فقط منع الأخذ برؤية الطرف الذي صنف "ضد" ولا قضية صراع لها مع أي أحد من هذه القضية بعد التحرير، كونها قادمة مع العالم ومع قدر كبير من الشرعية الدولية على أساس "مع وضد" غزو العراق، وبالتالي فالمتأخرون في الفهم أو المتخلفون في الوعي هم الذي يظلون في صراع "مع وضد" غزو أو تحرير الكويت.. الذين طلبوا التريث في الأخذ بالتدخل الأجنبي لتحرير الكويت من إحساس وجود بديل لديهم بممكن واحتمالات نجاح، وهم بالتالي لم يسعوا لاسترضاء أميركا لكنهم لم يريدوا لا الاصطدام بأميركا أو حتى تقاطعاً استفزازياً معها. قبل غزو العراق لم يكن لدى هؤلاء الضعفاء لا بديل واقع ولا بديل لإقناع أميركا، ولذلك لم يستطيعوا حتى مجاراة أثقال للشرعية الدولية، كما غالبية الاتحاد الأوربي أو روسيا في رفض أو إدانة غزو العراق بأي قدر، خاصة وأميركا كشرت أنيابها تجاه أنظمة المنطقة تحديداً في مسألة "مع وضد" كرؤية أميركية للصراع وليس رؤية صراعات في المنطقة. القضية الثانية.. هي أحداث سبتمبر 2001م وغزو أفغانستان كإشهار للحرب ضد الإرهاب وليس لقضية الإرهاب. فقضية الإرهاب أشهرت منذ تفجير مركز التجارة العالمي مروراً بسلسلة ومحطات تفجيرات، ومن بينها دار السلام ونيروبي وأخرى، وبالتالي كأنما الموقف الأميركي ضد الإرهاب معلوم مسبقاً، والذي لا يعلم هو إلى أين يوصل تطوير وتطورات هذا الموقف ربطا بالتطورات في أحداث الواقع؟ كل أنظمة المنطقة أو الأطراف الداخلية في أي بلد تعرف منذ تحرير الكويت أن القضية القادمة الأهم هي "الإرهاب" وأميركا تتزعم مواجهة هذا الإرهاب، ولهذا لم تكن الحالة خفية لتسيجل المواقف بعد أحداث سبتمبر 2001م وبالتالي ظلت أطراف داخلية في بلد أو في المنطقة تستفيد من العلم بذلك أو معلومة لتوظيفه في صراعات واستهدافات بينية وداخلية أكثر من شروع أو مشاريع لمواجهة الإرهاب في بلد أو منطقة؛ وكأنما في ذلك استرضاء لأميركا لتسير أو تنفذ ما يرضيهم في إطار صراعات أخرى. النظام في اليمن بأساليبه وقدراته وبالمراعاة لأولوياته إلى جانب أنظمة أخرى مثل مصر والجزائر، إن لم يمارس علنية الحرب ضد الإرهاب كما مصر، فهو في حرب مع الإرهاب واقعياً وفعلياً، حتى وأطراف داخلية أو خارجية تستهدفه بإلصاق تهمة دعم الإرهاب ونحوه. إرهاب التفجيرات والاختطافات وقتل السياح خلال عقد ما بعد الوحدة لم يستهدف طرفاً داخلياً في اليمن غير النظام وتحديداً الذي رأسه على عبدالله صالح. النظام في صنعاء لم يرتبط بعد الفكاك الاضطراري من ثقل المد القومي بثقل أقليمي أو عالمي، كما ارتبط النظام في عدن بالكرملين والسوفيت، أو ارتباط الرياض أو قاهرة السادات أو صدام الحرب مع إيران بأميركا. فحتى لو أن مثل ذلك لم يتح له فذلك علمه وتعلم خيارات أخرى لاتزان الذات والتوازن مع الآخر. فالأنظمة الأخرى والأطراف الداخلية الأخرى استشعرت ما علم، ومعلوم أن القضية القادمة للعالم هي الإرهاب منذ غزو الكويت أو اندثار الشيوعية، فيما موقف النظام في صنعاء من حروب الجهاد في أفغانستان، كأنما يستشعر مثل ذلك منذ ذلك الزمن بما أكسبه معاناة وضعه وتموضعه من مراس وفراسة. فمثل هذا النظام سار لزمن أطول في خيار عدم الحاجة لتقاطع أو صراع لا مع السوفيت ولا مع أميركا، وموقفه محسوم مسبقا من علاقة اتزان وتوازن مع الأثقال الأقليمية، تجعل المستحيل من طرفه الإضرار بمصالح أي طرف أو تحالف صراع مع أي طرف، وبالتالي حين غزو العراق للكويت أو أحداث سبتمبر 2001م ليست أولويته رضى أميركا أو إرضاءها. فأميركا لم تنصره في مواجهة حروب زحف التوحيد شيوعياً بالقوة ولا بنسبة واحد في الألف من حالة فيتنام، وأميركا لم تدعمه حين استهدافه بالإرهاب كتفجيرات واختطاف أجانب وسواح بل وقتل عدد من السواح بما عطل السياحة لأكثر من عقد، وبالتالي ليست قضيته رضى أميركا فهي حتى لو رضت عنه إزاء قضية كالإرهاب، فهو لا يريد استعمال هذا الرضى لاستهدافات سياسية أو استهداف خصوم سياسيين. النظام في اليمن لا يريد استعمال الإرهاب أو الرضى الأميركي كما استعمل ضده سياسيا، ولا يريد الوجه الدعائي للحرب ضد الإرهاب، ولكنه مع حرب حقيقية ضد الإرهاب حسب ماضي واقع اليمن من إرهاب وتراعي خصوصيات لواقع اليمن وفي هذا الواقع. الانتقال من تبعية كاملة الثقل المد القومي إلى شبه تبعية للثقل الرجعي، وذلك مثل انقلابا في رحيل الرئيس السلال ومجيء القاضي عبدالرحمن الإرياني، وبعد ذلك حدوث انقلابين ومقتل رئيسين في عام واحد من هذا الوضع، علم النظام في صنعاء ربما ما لم يتعلمه نظام آخر حتى ومنذ ذلك الزمن. فأساس خياراته العريضة والبعيدة للتعامل مع الصراعات الداخلية والخارجية جاءت من هذه التجربة شديدة المرارة. فترة حروب الجهاد في أفغانستان أو فترة الحرب العراقيةاليمنية، كان بعض الطرح تجاه اليمن هو غموض النظام والغموض أساساً هو في المتغير العالمي أو النظام العالمي. غالبية الأطراف في المنطقة خلال النصف الثاني للقرن الماضي كانت تفضل التوافق مع ثقل صراع عالمي والتقاطع مع ثقل أو طرف آخر بأي قدر من المباشرة أو في المصالح، وبالتالي لم نتعلم السعي لتوافق أوسع وتقاطعات أقل وذلك ما سعى إليه باجتهاد النظام في اليمن، وسبب استفزازاً مؤقتاً لأثقال لم تكن تتوقع أو تقبل بمثل ذلك من وضع صراعات وتداعيات سابقة. أميركا هي حالة أفضل من خيار الشيوعية، ولكن ليس لأنها الطرف الذي انتصر، فهي كامل الأوصاف التي لا عيب لها ولا مساوئ فيها. وفي إطار ما ليس استهدافا صدامياً أو تقاطعيا مع ما هي مصالح لها أو لغيرها فمن حق كل بلد أو طرف حسب وعيه ألا يظل مجرد أداة في خدمة دولة كبرى أو لمصالحه بقدر ما يكون ذلك يضر مصالحه كضحية أو صراعات مع آخرين.