في حين أن إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية كما يقال, إلاّ أنه وللأسف يُلاحظ تنامي الفعل السلبي في تصرفات الكثير ممن يمتهنونه ضد بعضهم ومع غيرهم, ومثل هذا لا يرقى لأن ينصبهم في مصفٍ متقدم ولائق بآدميتهم.. وأعني بهذا تلك الكائنات التي - وما تزال - تشتغل بمحفزاتها القمعية للآخرين وآرائهم, بمعنى أن ثمة فكرة لدى واحدٍ منها أسمى وأعقل من غيرها بنظره ويستبد به الأمر من أجل فرضها على الآخرين, أو أن ذلك الرأي لديه أفضل من غيره ويملك الحقيقة لوحده دون سواه, لتتم بعدها عملية التعزيز المباشر واللامباشر لاحتشاد الذات بما لا يطاق من علامات النزاع والتعصب المؤدي إلى حطام وتحطيم الآخر في آن: من أجل فكرة.. وربما رأي! و(من شرق عدن.. وحتى غرب الله)* في محيطنا العربي, فأن هذا النوع البشري يعاني من فهم ممكنات الآخر ومجايلة الحياة بما يتسق وحقيقة العقل وتصوراته وطرق التفكير على تنوعاتها التي ما هي إلاّ (نعمة) لم تكن لولا نوايا الحق سبحانه في أن تكون لنكون بدورنا مساهمين في زيادة غلة الرأي وتنوع وجهات النظر ووفرتها التي بها ومنها يتحقق أكبر قدر ممكن من الحلول إزاء المتناول, ما يجعل من هذا النوع في موقفٍ مضاد بفوضويته التي يرفض الآخرين ولا يتقبلهم ورؤاهم, برغم أن الجميع في هذا المحيط يتشاركون في مبادئ ثقافية واحدة ومفاهيم إنتمائية واضحة, ولم يعووا خطر الجهالة المتحفز بهم, على أن الناس أعداء ما جهلوا كما جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب عليه السلام.. ولا أدري لماذا يستشري تعامل هؤلاء البشر وفق مشاعرهم السلبية على حساب الإيجابية في أغوارهم, والتي حتماً سترتقى بهم إلى حياةٍ ملئ بالتنوع, وبعيداً عن كثير مما هم عليه من مطاحنات شخصية ومصادمات كلامية على موائد الحوار لأسبابٍ تكون في الغالب منها تافهة وغير هادفة.
إن التوكؤ على فكر واحد غير قابل للتطوير والتغيير والتمسك به حد اليباس, أو التدثر بلحاف ثقافة ما واحدة وغير مفهومة ورفضها لغيرها من الثقافات التي ربما - في أحيانٍ كثيرة - تكون رافداً لها, بالإضافة إلى التعنت اللامبرر ل الأنا المتضخمة بجزعها داخل النفس المتعجرفة: هو دليل التراخي الأبرز في عملية التقادم النوعي لبناء الوعي الإنساني بمعناه الإنساني لدى هذه الكائنات وترميم تشظياتها, كما للفكر المتوحد على صاحبه وثقافته المتبلّدة واللامفهومة أن لا يحلم كثيراً بالبقاء والاستمرار في زمنٍ كهذا الزمن العصري المتسارع, والذي لا يأبه بالمناديين من خلف كواليسهم السحيقة وأسمالهم البالية, ما لم تكن هنالك رغبة صريحة وواضحة في الخروج من الذات والتعاطي مع الآخرين وأفكارهم ووعيهم وثقافاتهم شرقاً كانوا أم غرباً... حتى الممات الذي به يصير الناس سادةً للعالم.. كما يقول الفيلسوف الروماني إيميل سيوران.
للجميع أهدافهم التي يريدون من خلالها ضمان الاستقرار الإنساني في هذه الحياة, بغرض الإطمئنان على مستقبلهم وأبنائهم من خلال ما ينتوون عليه من تصورات تدفعها أحلامهم, غير أن الثابت في الأمر تعامل هذا النوع الغريب مع غيره وفق امتلاءاته المندفعة في سلوكياتها, والتي غالباً ما يحكمها نهج التصنيف اللاواعي للآخر بفعل التلقين الأهوج والمتناسل من رحم الأدلجة, ذلك أنه بعكس من يتعامل وفق ضروريات اللحظة والتفوق الذهني المدجج بالنباهة وفهم الآخر جيداً والتعاطي معه.. وفيما حياة الإنسان العربي بالماضي لم تكن بمثل هذا السوء برغم صعوبة تلك الحياة في الكثير من شؤونها, إلاّ أن ثمة أهبلٍ هنا أو هناك بهذا العصر الحديث يأثم برأيه حتى وإن كان خاطئاً على حساب رأيٍ آخر قد يكون مجدياً وذا منفعة قيّمة ترتقي من مفهوم الحوار إزاء المتناول.
يقول الفيلسوف سقراط: "لا تفعل بالآخرين ما كان ليغضبك لو أنهم فعلوه بك".. وعليه فإن هذه الكائنات اليوم مطالبة بالتعامل مع غيرها ممن يختلفون معهم عرباً كانوا أم غرباً وما هم عليه من مشارب دينية أو عرقية من خلال الركائز التي عمّدتها رسائل الله ورسله الذين كانوا على قدرٍ كبير وعميق من البساطة والتواضع والترحيب بالآخرين وتنوعاتهم ولغاتهم وأديانهم وطباعهم, وإذ ذاك فإن قصص الرسل التي تجدر بنا للزهو قد بيّنت شدة حرصهم على أنسنة التعايش وقبول الآخر, بالإضافة إلى التعامل السلوكي بإيجابياته مع عامة البشر وقيَمِه الطليعية وسمو أخلاقياته التي نشروها بين العالمين.
إذاً... ما الذي يجعل من إختلافات الرؤى والأفكار بحوارٍ ما غير قابلة للإيمان بها لدى هؤلاء؟ وهل يؤمنون بالمشتركات الوفيرة التي تدونها وتحثهم عليها الكتب السماوية؟.. أم هل البنية القبلية مورد كل هذا النزاع الرؤيوي في حواراتهم؟.. أم إن لديهم دوافعهم الداخلية المتراكمة بمفهومها الأيديولوجي ما ساعد على إنعدام الوعي؟ أم الثقافة العربية شحيحة إلى هذه الدرجة في مفرداتها حتى لم تستطع ترميم شروخات هذه الشريحة من أبنائها وما يتمنطقون به دائماً على سبيل التطييف والعنصرة في وقتٍ أضحى كل شيءٍ فيه مفهوماً ومشاعاً أمام الجميع.. وبلا رتوش؟