بعد عامين ونصف من إنشاء الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد لا يستطيع احد أن يعتبر الكتابة الناقدة عنها مماحكة سياسية أو قدحا بمنجزات الحزب الحاكم العملاقة. لقد كنت من اشد المتفائلين بإنشاء الهيئة ومن أكثر المعارضين لتوجه المعارضة وتشكيكهم بها منذ اللحظات الأولى لاستقبال مجلس الشورى ملفات المرشحين لعضويتها بحجة أن اختيار الملفات المرشحة لم يخضع لمعايير شفافة بقدر خضوعه لمعيار الولاء للحاكم، لكن بعد مضي نصف من عمرها بدا أنني بحاجة إلى الاعتذار لمعارضين لمت موقفهم الذي رأيته حينها متسرعا وتأكد أنه كان متقدما. منذ أول لقاء لأعضاء الهيئة في مجلس النواب لاختيار رئيس ونائب لهم وأنا أتابع أنشطة هيئتهم وأخبارها والتمس لها العذر عند كل حديث عن إخفاقها، بمبرر أنها مؤسسة جديدة ينبغي منحها فرصة، لكنهم خذلوني سامحهم الله. لم ألبس نظارات سوداء، بل اقتنيت مجهرا لأرى فيه من أعمال الهيئة ما لا يرى بمنظار السلطة ولا يبدو بعيون المعارضة، لكنهم لم يمنحوني سوى وجع في العين وحسرة في القلب. خسرت ألف ريال ثمن مواصلات إلى فندق موفنبيك لأحضر أول فعالية ظهرت فيها الهيئة بعد ثلاثة أشهر من تشكيلها على أمل أن تكون بداية تجسيد لتفاؤل رافقني منذ الخطوة الأولى لإنشائها، لكنني لا أجد اليوم سوى خسارة متتالية بفخامة موفنبيك، ومكاسب غير مشروعة لرموز الفساد المسيطرين على كافة مفاصل القرار ومصادر الثروة. أعلنت الهيئة في موفنبيك عن عزمها إنشاء تحالف للنزاهة من مختلف القطاعات الرسمية والأهلية لمكافحة الفساد، وبدا - بعد أيام أو لنقل بعد أشهر- ألا نزاهة حتى في اختيار موظفي الهيئة، حيث كان المعيار الأساس هو "الأقربون أولى بالوظيفة". وهذا الحديث ليس لمعارضين حاقدين على النظام ولكنه صادر من داخل الهيئة نفسها وفي ورقة نشرتها وسائل الإعلام لعضو الهيئة عزالدين الاصبحي، وأكده بعد ذلك زميله الدكتور سعد الدين بن طالب الذي استقال من الهيئة لأنها حسب تصريح له عجزت عن الاقتراب من قضايا الفساد الدسمة، وتحولت إلى بؤرة من بؤر الفساد. قبل أيام وجه أربعة من أعضاء الهيئة هم عزالدين الاصبحي واحمد قرحش وياسين عبده سعيد وخالد عبد العزيز ورقة إلى رئاسة هيئتهم يطالبون بنشر التقارير المالية ويؤكدون على ضرورة أن يراجع الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة تقارير الهيئة قبل نشرها. هذه المطالبة تؤكد فعلا ما ذهب إليه الدكتور سعد الدين من تحول الهيئة إلى بؤرة فساد، ما يتطلب التدخل العاجل لمكافحته. ومن وجهة نظري فإن مجلس النواب وليس الجهاز المركزي هم المعني بالتدخل، فالهيئة وفق قانون إنشائها مطالبة بتقديم تقارير عن أعمالها كل ثلاثة أشهر إلى رئيس الجمهورية ومجلس النواب، وعلى ضوء ذلك ينبغي محاسبتها من قبل مجلس منتخب من الشعب بغض النظر عن نزاهة أو عدم نزاهة انتخابات المجلس، فلست هنا بصدد الحديث عن هذه الإشكالية. في الأشهر الأولى لإنشاء الهيئة كانت معظم أخبارها عن سفريات مستمرة لأعضائها، وكنت أرى في ذلك ضرورة للاستفادة من تجارب الآخرين بغرض تحسين أداء الهيئة، لكن ما حصل بعد ذلك هو تحول الهيئة إلى منافس لمنظمات المجتمع المدني في تنظيم ندوات وورش عمل، ومصدر ممل لأخبار عن إقرارات الذمة المالية المصونة وفق القانون، في حين لم نسمع شيئا عن محاسبة فاسد واحد، على الأقل لاستعادة أموال بقدر موازنة الهيئة المطلوب منها تغطية مستحقات الأعضاء وأقاربهم الموظفين. وعلى ذكر الموازنة أقول إن من المعيب ألا يعرف أحد مقدار موازنة الهيئة المعنية بمكافحة الفساد، كون الإفصاح عن هذه الموازنة وكيفية إنفاقها ونشر هذه المعلومات للرأي العام من أساسيات مكافحة الفساد. أن لا تنجز الهيئة شيئا يذكر في مكافحة الفساد خلال عامين ونصف أهون من أن تتحول بهذه السرعة إلى بؤرة فساد، ففي الحالة الأولى يمكن التماس العذر لها بحداثة التجربة وصغر عمرها، لكنها بممارسة الفساد تقتل ما تبقى من أمل لدى الناس في إمكانية مواجهة الفساد. تحدث عزالدين الاصبحي عن توظيف الأقارب في الهيئة وعن ضعف بنائها المؤسسي وعن تضارب في القوانين، كما كشف مع ثلاثة من زملائه عن تعتيم بشأن حسابات الهيئة، رغم كثرة الحديث عن الشفافية، وانتقد الدكتور سعد الدين بن طالب تحول الهيئة إلى بؤرة فساد ولم نسمع من بقية أعضاء الهيئة ردا يثبت عدم صحة هذه الانتقادات ويقول للشعب صاحب المصلحة الحقيقية هذه هي أموالكم، وتلك هي عائداتها. لا اعتقد أن الدعممة تجاه كل ما يقال هي في صالح من تبقى من أعضاء الهيئة فالدعممة في مثل هذه الحالة تلصق بهم كل الاتهامات التي نشرت وهم مطالبون بإزالة الشكوك عنهم إن لم يكن كمسئولين مختارين من الشعب عبر مجلس النواب فمن ناحية شخصية على الأقل. إن تراجع اليمن في مكافحة الفساد حسب مؤشر الشفافية الدولية، وتأكيد مؤتمر لندن المنعقد الأربعاء الفائت حول اليمن على أهمية مكافحة الفساد وإجراء إصلاحات في هذا البلد يفرض على من تبقى من أعضاء هيئة الفساد أن يستجيبوا لدعوة زملائهم في إجراء مراجعة تقييمية شاملة لأداء هيئتهم بغرض تجاوز الإخفاقات، أو تقديم استقالة جماعية من عضوية الهيئة، وبالتالي إجراء انتخابات فعلية لأعضاء جدد دون النظر إلى ولائهم للسلطة أو انتمائهم للمعارضة، فالبلد تسير نحو التشظي بسبب سيطرة الفساد على مفاصل الدولة، وينبغي على وزرائنا المكافحين أن يجسدوا واقعيا ما يرددونه دوما في تصريحاتهم الصحفية وخطاباتهم من أن الفساد يعيق التنمية ويدمر المجتمع.
* رسالة إلى المجتمع المدني والمنظمات الدولية من واقع الشراكة التي نص عليها قانون مكافحة الفساد بين الهيئة والمجتمع المدني والمنظمات الدولية ينبغي المبادرة لتنظيم فعاليات مدنية تخصص لتقييم أداء الهيئة ومساندتها في تجاوز إخفاقاتها ونشر ذلك للرأي العام عبر الإعلام الذي يمثل الشريك الثالث، فلعل ذلك ينقذ الهيئة من نتائج استمرارها في الدعممة، ويوقظ مجلس النواب من سباته الطويل، ويعيد النظر في الدعم الدولي المقدم دون نتائج مثمرة.