"لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت" بهذه الزفرة الحنينية إلى الوطن ودع الرسول الكريم موطنه الأصلي مكةالمكرمة بعد أن أجمعت قريش على طرده وتهجيره قسريا مع أصحابه إلى المدينة، ولم تكن تلك أول جريمة تهجير قسري في التاريخ فقد كان التهجير عادة خصوم الأنبياء كلما أعجزتهم الحيلة وأعيتهم الحجة، فعندما يعجز المنطق عن الرد تتحرك اليد للبطش والقتل والتهجير. ولهذا سمعنا في مرحلة الثورة السلمية شعارات البلاطجة تطالب بتهجير الثوار ولم يكن منطق ارحلوا من شوارعنا حكراً على الطواغيت الجدد ولا حكراً على أزلام مبارك حين هددوا باخراج المعتصمين واستخدموا الجمال والحمير والبلاطجة، ولا على القذافي حين هدد بخروج الملايين لتطهير الأرض من الجرذان، ألم يقل المستكبرون من قبلهم :لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْلَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍعَنِيدٍ * وقالها قوم لوط "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ وقالها المستكبرون من قوم شعيب قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ". و على نفس هذا المنهج سار طغاة قريش" وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ". وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) وإجابه موسى(إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ). إنه منطق الطغاة الأزلي" لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ". ومن يتأمل هذا المنطق و منطق الأنبياء، يتبين له بجلاء، من هم دعاة الحرية: الأنبياء وأتباعهم، أم المشركون وطواغيتهم؟!. من يتأمل مئات وآلاف الآيات يتبين له:من هم أنصار حرية العقيدة؟ الأنبياء الذين رفعوا شعار، خلوا بيننا وبين الناس، أم الطواغيت الذين رفعوا شعار (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، من يتأمل في قول فرعون(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) وإجابة موسى(إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) من يتأمل ذلك، يتضح له من كان يريد أن يمارس كهانة النفوذ على الآخرين: الأنبياء الذين يؤكدون لأقوامهم أنهم بشرٌ أمثالهم ويعلنون ابتداءً الصبر على إيذاء أعداء حرية العقيدة،أم الكفار وأنصارهم من الطواغيت؟(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فما كان جواب أعدائهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا). وهذا نوح يصرخ في قومه (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فيأتيه الرد (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) وكذلك قال قوم لوط (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) وما أرسل الله من رسل إلا كان خطابهم (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). منهج حرية العقيدة والإصلاح السلمي في دعوة نبي الله شعيب و نكتفي هنا بتسليط الضوء على نموذج من نماذج الحرية في منهج أحد الأنبياء وهو نبي الله شعيب حين بعثه الله برسالة الحرية رسالة التوحيد إلى قومه يدعوهم بالبينة والحجة (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ويطالب بالإصلاح السياسي والاقتصادي (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) ويطالب بوضوح بمنع التدخل في خيارات الناس وقناعاتهم وممارسة الكهانة والتسلط عليهم (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا) و لا يطالب شعيب بالحرية لأتباعه فقط، ولكنه يطالب بالحرية لمن يؤمن به ومن لا يؤمن به (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) هذا منهج الأنبياء في التعايش، منهج الواثقين بالحجة والبرهان، منهج من يعتقد أن الحرية ثمرة من ثمار (لا إله إلا الله )، ولكن هل يقبل الطواغيت المستكبرون بهذه الدعوة إلى الحرية (قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) إنه منطق الإكراه الذي لا يمكن أن يقبل به المؤمنون الأحرار(قال:أولو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم) ويبدو أن هذه الدعوة للتعايش بين أبناء العقائد المختلفة في الأرض المشتركة، هي أول دعوة في التاريخ البشري، حسب معرفتي المحدودة. مبدأ ثابت في مراحل الضعف والقوة عندما تتدخل القدرة الإلهية لصالحهم وتقهر طواغيت الكفر وتكون الغلبة للأنبياء، فإن أنصار حرية العقيدة لا يتخذون هذه الظروف فرصة لإجبار مخالفيهم على اعتناق مبادئهم ولو كانوا أبناءهم أو أزواجهم، فهذا نوح عليه السلام لا يجبر ابنه على اتباعه وقد تدخلت القدرة الإلهية وأغرقت الكافرين وكان ابنه في معزل عن الكفار يستطيع أن يلحق بالسفينة وكان بإمكان نوح إجباره على النجاة، ولكن الأنبياء التي تشربت قلوبهم بلا إله إلا الله لا يعرفون لغة الإكراه، فخاطب نوح ابنه بلغة الإقناع ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) وكان بإمكان نبي الله لوط إجبار امرأته على الإيمان به، ولكن لا إله إلا الله منعته من ممارسة هذه الكهانة والتسلط على القناعات فلا يصح أن تكون هذه السلطة لأحد غير الله، فإذا جاء أمر الله كانت النتيجة (فأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) . منهجية لا إكراه في الدين
أكد عمالقة الفقه الإسلامي في الماضي والعصر الحديث أن القتال في الإسلام لم يشرع إلا للدفاع عن النفس وليس لاكراه الآخرين على الدخول في الإسلام كما يدعي ذلك بعض الحاقدين من المستشرقين وغيرهم. فقد حاول بعض النصارى نشر شبهة انتشار الاسلام بالقوة فتصدى لهم الإمام ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى" الخاص بتفنيد شبهات اليهود والنصارى و أكد ابن القيم في كتابه أن قاعدة لا إكراه في الدين هي القاعدة الثابتة في التعامل مع الكفار، يقول ابن القيم: إن نبينا الكريم لم يكره أحداً على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: (لا إِكراه في الدين) وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين" وبعد أن يشرح أسباب نزول الآية يقول ابن القيم:"والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر"(ص 42- هداية الحيارى، ط الريان 43) ويقول أيضاً "ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وانه إنما قاتل من قاتله: وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده" (ص43) ويرى ابن القيم أن رأي ابن حزم مخالف لما ذهب إليه الجمهور متصادم مع النصوص، ويتفق ابن تيمية مع ابن القيم في كتابه «النبوات » يقول ابن تيمية: (الكفار إنما يقاتلون بشرط الحراب،كما ذهب إليه جمهور العلماء،وكما دل عليه الكتاب والسنة) ص140و ابن حزم يرى أن {لا إكراه في الدين} منسوخة ولابن تيمية رسالة مهمة في تفنيد دعوى نسخ هذه الآية. وفي مقدمة كتابه (هداية الحيارى) يقول ابن القيم موضحاً أسباب تأليفه " وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه "" (ص38) وينتقد أساليب البعض في مواجهة شبهات النصارى واستخدام العنف يقول ابن القيم: " وظن المسلم أنه بضربه يداويه فسطا به ضربا وقال هذا هو الجواب! قال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب! وافترقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد وقام لله قيام مستعين به..، ولم يقل مقالة العجزة الجهّال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف"" (ص38،هداية الحيارى) وبعد هذه الكلمات الخالدة يوضح ابن القيم وظيفة السيف في حماية الحق.. ما أعظم كلام هؤلاء العمالقة! وما أسوأ الذين لا ينتقون من تراثهم إلا ما يستفيد منه أعداء الإسلام والعياذ بالله! ولهذا يغضون الطرف عن كافة الآراء المشرقة لابن حزم، كرأيه الصائب في أن حروب أبي بكر لمانعي الزكاة لم تكن لمحاربة مرتدين خرجوا عن الإسلام،لأن أهل الردة كما يقول ابن حزم كانوا إما حربيون لم يسلموا قط أو مسلمون منعوا دفع الزكاة لأبي بكر وعلى هذا قوتلوا" وسيأتي بيان ذلك في أعداد قادمة، وينفي ابن حزم صحة كافة الروايات التي أشارت إلى أن أبا بكر قتل مرتداً أو مرتدة ويقول: "هَذَا مَا لا يَجِدُونَهُ" ويصحح ابن حزم رواية رفض عمر قتل المرتدين أثناء الحرب، وبراءته إلى الله من ذلك.