ما زال مفهومنا للحكم والمعارضة مفهوماً قاصراً ينحصر في نطاق الاستئثار والدفاع الأعمى عن كل الموالين في حالة الحكم، حتى أولئك الفاسدين يحظون بمباركة من الحاكم طالما أنهم يظهرون الولاء له ويدافعون عن سياساته ويزينون له أعماله كيفما كانت. وفي حالة المعارضة يكون البحث ليس فقط عن الأخطاء والتجاوزات والسقطات التي تقع فيها منظومة السلطة وإنما يتم التقليل من أي نجاحات وتشويه أي إيجابيات وتناولها من زاوية أخرى قد لا تمت للحقيقة بصلة في أحيان كثيرة . لم يحظ مدافعون عن نظام أو حاكم سابق بما يحظى به اليوم مدافعون عنه وقد أصبح معارضاً يعطي بسخاء للقائمين على تلك الوسائل والمنابر التي تتبنى وجهة نظره اليوم وتشن حملاتها واتهاماتها ضد العهد الجديد بغية إظهاره فاشلاً كيفما كان الأمر وبغض النظر عن صحة تلك الاتهامات من عدمها. وبالتالي فإن هذا المفهوم القاصر في كلا المعسكرين الموالي والمعارض ينعكس بتقلباته وتبادل الأدوار فيه لمصلحة أولئك الذين يكتفون بتقديم أنفسهم وذممهم كمدافعين مستميتين عن هذا الطرف او ذاك , أما من تكون مواقفهم منطلقة من رؤية تغييرية تنحاز لمصلحة الوطن وما سيجنيه المواطن من مكاسب ومصالح وخيرات وتحسن في أوضاعه المعيشية وفي استنشاقه لهواء الحرية ونسيم الديمقراطية، فإن الأمر يسير عكس التيار أو بالأصح يسير هؤلاء عكس التيار بالنسبة لمقتضيات الصفقات والتسويات التي لا تشمل الموالين للوطن والشعب . في البلدان الأوروبية والأمريكية وأيضاً الشرقية التي تندرج في خانة الدول المتقدمة لا تكون الكفاءات والخبرات والطاقات القادرة على العطاء والإبداع موضع اقصاءات أو صفقات، وإنما يتم التعاطي معها بمعيار واحد، بعيداً عن تقلبات الأنظمة ودورات الأحزاب الحاكمة والمعارضة , أما لدينا فإن الأمر مختلف تماماً والبقاء للأقدر على المساومات والمناورات وتقديم فروض الولاء إلى حد يبيع معه البعض كل شيء في سبيل البقاء في دائرة الرضا والابتعاد عن شبح السخط وقائمة المغضوب عليهم . وعندما نستعرض مراحل تاريخية منذ ما بعد قيام الثورة، نجد أن كثيرين ممن أفرطوا في التفاؤل بعهد جديد وغد أفضل تسوده العدالة والمواطنة المتساوية حصدوا الكثير من خيبات الأمل جراء تشبث السياسيين والعسكريين والزعامات القبلية وما كان يطلق عليهم قيادات النضال الثوري بمواقعهم ومحاصصتهم في المصالح والامتيازات حتى غدا لدينا «مسؤولو الأجيال» الذين ظل حضورهم هو الطاغي منذ قيام الثورة، مروراً بصراعاتها التالية ووصولاً إلى الوحدة وما أعقبها والبعض ما زال يشق طريقه للبقاء في الواجهة من بوابة الثورة الشبابية الشعبية السلمية , وكلهم شباب، إذ ليس لدينا من يمكن أن نطلق عليهم العواجيز بما في ذلك الذين ما زالوا كما تركهم الإمام أحمد حين فارق الحياة ومن ودعهم الإمام البدر حين خرج من البلاد بفعل الثورة السبتمبرية. وإزاء ذلك كله نجد أنفسنا دائماً أمام خيارات أحلاها مر , فالاستمرار يصنع فساداً على شاكلة كرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت شيئاً فشيئاً , وعندما يصل الوضع إلى حد لا يطاق يصطدم الناس بالتكلفة الباهظة وأحياناً الفادحة لأي عملية تغيير، ثم إذا ما دفع الشعب هذه التكلفة وزادت معاناته جراء تبعات ذلك العمل تكون المأساة أن نفس الوجوه التي حكمته في السابق هي هي , فقط انقسمت إلى نصفين , نصف يصبح ثورياً تغييرياً ونصف آخر يكون هو العهد البائد وهو الفلول وهو الاستبداد.. إلخ .