• ولادة ماركسية.. وانقلاب ناصري لا شك أن سنوات الاضطراب السياسي وما رافقتها من أحداث دامية، وتصفيات عنيفة لم تكن تستهدف إلا شل إرادة النظام السياسي في صنعاء، وتفتيت مؤسساته للحد الذي تصبح الساحة مهيأة لأي عمل مضاد للانقضاض على مقاليد الحكم، وربما كانت مسألة تأمين أي سلطة جديدة تبدو في غاية الصعوبة، وهو الأمر الذي كان متوقعا أن تستغله القوى الطامعة بالحكم في وقت مبكر من عهد الرئيس الحديث العهد قبل التقاطه أنفاسه. فلم يهنأ الرئيس على عبد الله صالح كثيراً بالصورة التي زهت في ذاكرته وهو يحتفل بالعيد السادس عشر للثورة السبتمبرية بعد أن ظن البعض يوم اغتيال الغشمي أن أحداً لن يتذكر يوم 26 سبتمبر بعد تلك اللحظة .. فمع أن الترقية التي حظي بها من قبل مجلس الشعب التأسيسي عبرت عن إحدى صيغ الهيمنة السياسية لسلطة الرئيس التي شقت طريقها إلى قرارات المجلس بزمن قصير، ومع إنه واظب على الاحتفاظ بالهامش الحركي الحذر الذي تتعزز القناعة بضروراته في ظل استمرار النشاط العدواني على الحدود مع الشطر الجنوبي .. إلا أنه لم يكن يتوقع أن تتطور الأمور بالسرعة التي آلت إليها بعد أسبوعين فقط من إحياء ذكرى الثورة السبتمبرية. ففي يوم 13 أكتوبر 1978 م أعلن الرئيس عبدالفتاح إسماعيل عن تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني، وتولي أمانته العامة. وكان ذلك يعني إرساء مشروع سلطة في الجنوب تشبه إلى حد التماهي صورة السلطة في الاتحاد السوفيتي، منطلقاً من دوافع ثورية أمينة لمعتقداته والتزامه الأيديولوجي، وبالتالي تحوله إلى محور لكل السلطات، تنضوي تحت عباءته كل القوى السياسية والتنظيمات العاملة في ساحة الشطر الجنوبي مع إمكانياتها المادية والبشرية. ومثل هذه الخطوة ستحمله على التصميم أكثر على المضي بتنفيذ تصوره لمستقبل اليمن والقاضي بأحداث ثورة جذرية تطهر بالدم والعنف المجتمع اليمني، شمالاً وجنوباً، من بناه التقليدية -خاصة وأن الرأي الذي ساد الساحة الجنوبية يذهب إلى إمكان إسقاط النظام الشمالي للرئيس على عبد الله صالح إذا ما تدخل الجيش الجنوبي لإسناد (المقاومة)، الجبهة الوطنية الديمقراطية المسلحة.. وكان من المؤكد أن يدفع هذا التطور بالرئيس علي عبد الله صالح إلى رفع درجة اليقظة والحذر، والإنذار باحتمال قرب وقوع حرب حتمية، على قوات الرئيس علي عبد الله صالح والاضطرار لخوضها، وعلى قواعد وتوقيت نظام عدن.. وهو ما ستقودنا إليه أحداث شهر فبراير 1979م. وإذا كان الإعلان عن ولادة الحزب الاشتراكي اليمني قد مثل تأويلاً معقداً للظرف السياسي ربما سيضاعف من معاناة الرئيس علي عبد الله صالح، فإنه وبعد يومين فقط من ذلك كان على موعد مع المفاجأة الأكبر، والاختبار الأصعب الذي حاول إعادة خلط الأوراق السياسية وقلب معادلاتها في صنعاء، واعتبره المراقبون – آنذاك – صدمة مفاجئة وتحدي صارخ وفريد من نوعه استطاع أن يزن طبيعة الثقل السياسي الحقيقي لنظام الرئيس علي عبد الله صالح. ففي يوم 15 أكتوبر 1978 م أقدم ضباط ينتمون إلى التنظيم الوحدوي الناصري (جبهة 13 يونيو – السرية) على تنفيذ محاولة انقلابية للإطاحة بنظام الرئيس علي عبد الله صالح والاستيلاء على السلطة في صنعاء، تدعمهم المدرعات والمشاة والشرطة العسكرية بقيادة عيسى محمد سيف – زعيم الحزب الناصري، في الوقت الذي كان فيه الرئيس يقوم بزيارة داخلية لمحافظة الحديدة. وفي الحقيقة، إن الناصريين لم يتحولوا إلى قوة سياسية مؤثرة إلاّ بعد حركة 13 يونيو 1974م، حيث أخذت بالانفتاح على الحكم للمرة الأولى -وتمكنت وفقاً لما تذكره أدبيات التنظيم الناصري- من استقطاب مراكزاً جيدة في الجيش ومؤسسات الحكم المدنية. ولم يكن بمقدور أحد التأكد فيما إذا كان الحمدي قد انتمى للتنظيم بقناعة فكرية أم بحثاً عن قوة تدعم نظامه، وتمثل واجهة لانتمائه إلى المؤسسة العسكرية رغم وجود الشواهد التي تبرر لنا ترجيح الاحتمالين معاً. تلقى الناصريون ضربة سياسية قوية جداً بمقتل الرئيس الحمدي في 11/10/1977م، واتهموا الرئيس الغشمي بذلك متوعدين بالانتقام. وتشكلت جبهة 13 يونيو للقوى الشعبية كجناح حركي سري يعمل من أجل تمكين الناصريين من بلوغ السلطة بعد الإطاحة بالنظام القائم، وسعى قادة الجبهة لاستغلال العلاقة الوطيدة بين الحمدي والزعيم الليبي معمر القذافي وللحصول على دعمه، فتعهد القذافي بدعم وتمويل أنشطة جبهة 13 يونيو. فحدث أن صعّد الضباط الناصريين من أنشطتهم داخل الجيش وفي فبراير 1978 قاد الرائد مجاهد الكهالي حركة تمرد وعصيان سرعان ما تم إخمادها بحملات مشتركة من قبل قوات الأمن الداخلي، ووحدات عسكرية بقيادة نائب رئيس هيئة الأركان العامة. لا شك أن الناصريين كانوا قد أصبحوا قوة فاعلة، خصوصاً في الجيش، وأن انهيار الأوضاع السياسية لنظام الغشمي كان يتيح لهم فرصة اتخاذ قرار الانقلاب العسكري على السلطة الحاكمة وتحين الوقت المناسب للتنفيذ.. لكن غيرهم كان الأسبق لاغتيال الغشمي وإنهاء عهده. في الفترة التي أعقبت اغتيال الغشمي أخذ الناصريون يرسمون سيناريو جديد للمرحلة القادمة، لعبت الأقدار في رسم ملامحه دوراً كبيراً.. فبعد أن أقدم علي عبد الله صالح على مفاجأة كل القوى السياسية، ومنذ اليوم الأول، بالانقضاض على مراكز الحكم، ونشر قوات موالية له يثق بها حول تلك المراكز القيادية والأمنية لحمايتها، وبذلك الإجراء فوّت على الناصريين فرصتهم الذهبية في مباشرة مخططهم الانقلابي الذي كان قد اتخذوا قرارهم فيه بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي – بحسب ما تؤكده بعض القيادات الناصرية حالياً. تعامل الناصريون مع الوضع الجديد بحذر شديد في بادئ الأمر، حتى إذا ما لاح لهم أن المقدم علي عبد الله صالح هو الأوفر حظاً من سواه في الفوز بكرسي الرئاسة راود الكثير من قيادات التنظيم الإحساس بإمكانية استقطاب الرئيس علي عبد الله صالح في الصف الناصري، واحتوائه على غرار ما كان عليه وضع الرئيس الحمدي. ومع أن علي عبد الله صالح لا يمتلك الخلفية الحزبية القومية التي كانت لسلفه مع حركة القوميين العرب، أو غيرها إلاّ أن الظرف بدا للتنظيم مماثلاً، ويستدعي استناد الرئيس الجديد إلى قاعدة جماهيرية تجلي صورته في الساحة،وتدعم سياساته، خاصة وإن عيسى محمد سيف زعيم التنظيم كان يرى في العلاقات الشخصية الواسعة للمقدم علي عبد الله صالح مع عناصر التنظيم، بحكم سنوات عمله في تعز الموصوفة بقلعة الناصريين، مشجعة لتبني الفكرة والاستحواذ على فؤاده قبل أن يتمكن منه الآخرون.. وهو الأمر الذي يفسر انضمام الناصريين إلى المظاهرات التي خرجت في تعز وإب لدعم ترشيح المقدم علي عبد الله صالح للرئاسة آنذاك، بل أن من القيادات الناصرية من يعترف بذلك ويذهب إلى القول: "إننا نحن الذين حركنا المظاهرات في تعز لدعم ترشيح الرئيس صالح..." ويضيف إلى ذلك: " إن المظاهرات التي نفذناها في تعز كانت نتيجة تعميم وصلنا من الزملاء في مجلس الشعب – عبد الله سلاّم- وآخرين والقاضي بدعم الرئيس علي عبد الله صالح، وقد شكل الناصريون وفداً عسكرياً لزيارته لحسم ترشيح الرئيس كمرشح للجيش..." وكما ذكرنا من قبل أن الصدفة القدرية لعبت دورها، فالمقدم علي عبد الله صالح بعد وصوله إلى صنعاء، من تعز كان استدعى بعض الضباط الماهرين ممن عرف كفاءتهم العسكرية خلال مدة خدمته هناك، للمساعدة في تحصين وحماية العاصمة، وكان بينهم أعضاء في التنظيم السري لجبهة 13 يونيو. وبعد أن تولى رئاسة الجمهورية أوكل لعدد من الناصريين قيادة مراكز مهمة سواء في قطاعات الجيش أو الأمن أو المؤسسات المدنية الأخرى. علاوة على أن الناصريين كانوا استهلوا عهد الرئيس صالح بسلطات قوية ونفوذ متغلغل في مختلف قطاعات الدولة كجزء من موروثهم السابق الذي جنوه في العهدين الماضيين، في الوقت الذي تحاشى فيه الرئيس صالح الدخول بمصادمات أو تصفيات للقوى الوطنية الأخرى خلافاً لما جرت عليه العادة من قبل. وهكذا تظافرت الظروف في تلك الآونة بسياقاتها العفوية لتجعل الناصريين في مستهل عهد الرئيس علي عبد الله صالح أرباب قوة فاعلة خصوصاً داخل الجيش، فتعززت به مشاعر غرور القوة الذي غالباً ما تقع الحركات السياسية ضحية له. وعاود التنظيم الناصري التفكير في الوصول إلى السلطة، ظناً منه بضعف القصر الجمهوري، وامتلاك آليات التغيير الكافية، وأن هناك من يسعى حثيثاً لاستباق الناصريين إلى الحكم. وعلى هذا الأساس دار النقاش تحت سقف اللجنة التنفيذية للتنظيم بشأن القيام بانقلاب عسكري والإطاحة بحكم الرئيس علي عبد الله صالح، وبين تلكؤ البعض وحماس البعض الآخر للفكرة انتهى الأمر بالغلبة للجناح العسكري والقيادات التي كانت الأكثر ارتباطاً بالسلطة أيام الحمدي، ويؤكد البعض أن تلك القيادات كانت واقعة تحت تأثير إيحاءات النظام الليبي وضغطه بضرورة حسم الأمر عاجلاً قبل اشتداد عظم نظام الرئيس صالح واستقراره، إضافة إلى إغراءات ووعود أخرى اتفق عليها القذافي مع القيادات الانقلابية. في مطلع شهر أكتوبر كان الناصريون أعدوا كل شيء للانقلاب، واستدعوا العديد من قدماء العسكريين من تعز، وتم رسم الخطة وتحديد المسارات وتوزيع الأدوار، حتى بات معلوماً للبعض المنصب الذي سيشغله في الحكومة الجديدة. وبدت قيادة الانقلاب واثقة بالنجاح خصوصاً وأن غالبية القطعات العسكرية المنتشرة حول صنعاء كانت تحت قيادات موالية له. وفي يوم 15 أكتوبر 1978م تحركت وحدات عسكرية من الدروع والمشاة والشرطة العسكرية باتجاه مركز مدينة صنعاء – حيث القصر الجهوري ومقر القيادة وغيرها، لكن المفاجأة كانت بانتظارها قبل أن تتمكن من الانتشار في مواقعها. إذ ترجح مصادر مطلعة أن أجهزة مخابرات الرئيس علمت بوجود حركة انقلابية دون أن تعرف بقية التفاصيل، فبادرت إلى إبعاد الرئيس إلى الحديدة بعيداً عن مسرح الأحداث حرصاً على حياته، وتم إصدار الأوامر لقوات ضاربة للتمركز في منافذ العاصمة الاستراتيجية، منها اللواء الأول مدرع بقيادة المقدم ( محسن سريع)، وقوة أخرى بقيادة المقدم ( علي محسن صالح) وقوات أخرى شاركت جميعاً في التصدي بضراوة للقوات الانقلابية وإحباطها على الفور. وتم أيضاً اعتقال قائد الانقلاب ( عيسى محمد سيف) –زعيم التنظيم الوحدوي الناصري، وكذلك الذين ساندوه من أعضاء قيادة التنظيم في الجيش أو الحكومة وفي مقدمتهم :(نصار علي حسين) و(محسن فارع)– قائد الشرطة العسكرية، والمقدم (الرازقي)– نائب قائد الوحدات المركزية، و( عبد السلام مقبل) – وزير الشئون الاجتماعية والعمل، وآخرين. وشنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة، وتم سحق التنظيم الناصري تماماً عشية فشل الانقلاب سواء تحت وطأة الخوف أو الحبس أو الهروب. وبعد محاكمة علنية تم إعدام تسعة ضباط، كما صدر لاحقاً حكم الإعدام لثلاثة عشر من المدنيين الضالعين في التخطيط أو التنفيذ للانقلاب. وعلى إثر الانقلاب – أيضاً- تدهورت العلاقات بين الجمهورية العربية اليمنية والجمهورية الليبية بعد أن ثبت للسلطات اليمنية أن ليبيا كانت هي الجهة المشجعة والممولة لذلك الانقلاب. ومما سبق - نرى أن الرئيس علي عبد الله صالح قد واجه القوى بعنف أشد، وضرب بيد من حديد، وظهر في أقصى درجات الحزم التي يمكن أن يكون فيها رئيس دولة، ليس هذا فحسب بل أنه حرص على توجيه أوامره بجعل المحاكمات علنية أمام الملأ ويتم نقل وقائعها مباشرة عبر وسائل الإعلام، وكان ذلك تصرفا يظهر الذكاء الذي يتمتع به الرئيس، لأنه بذلك برأ ساحته من دمائهم وقطع دابر الإشاعات التي قد يثيرها الطابور الخامس لتأليب الوضع الجماهيري على السلطة.. والأهم من كل ما سبق، هو إنه جعل من ذلك بمثابة رسالة فورية إلى جميع القوى السياسية في داخل الوطن وخارجه، بأنها ستواجه مصيراً مرعباً إذا ما سوّلت لهم أنفسهم الإقدام على كل ما من شأنه زعزعة أمن و استقرار ومستقبل السلطة أو الشعب.. فكان الانقلاب الناصري الفاشل سبباً هاماً جداً في إقرار الأمن الداخلي في المرحلة القادمة. • صنعاء ومأزق الخنادق الجبهوية على الرغم من القضاء على المحاولة الانقلابية الناصرية، وظهور الدولة بمظهر المؤسسة الحازمة، والإرادة السياسية القوية، إلا أن الرئيس علي عبد الله صالح بدا كما لو أنه لم يكن راضٍٍ عن أداء أجهزة السلطة وهياكلها مما أدى إلى قيامه بأول مراجعة لواقع العمل السياسي للدولة باصداره القرار الجمهوري رقم (1) لسنة 1978م، والذي قضى فيه في يوم 25 أكتوبر 1978م بتعديل تشكيل الحكومة على النحو التالي:
1 المقدم عبد العزيز البرطي وزيراً للداخلية 2 علي لطف الثور وزيراً للتنمية ورئيساً للجهاز المركزي للتخطيط 3 القاضي على علي السمان وزيراً للأوقاف والإرشاد 4 محمد سالم با سندوة وزيرأ للإعلام والثقافة 5 أحمد صالح الرعيني وزيراً للشئون الاجتماعية والعمل والشباب 6 إسماعيل أحمد الوزير وزيراً للعدل 7 أحمد عبد الرحمن السماوي وزيراً للمالية 8 محمد حزام الشوحطي وزيراً للاقتصاد ومن الممكن اعتبار هذه التعديلات الوزارية أول ردة فعل رئاسية على أحداث 15 أكتوبر الصاخبة، وكان هدفها بالدرجة الأولى تأمين السلطة من الداخل وإقرار قواعد الحكم من خلال إقصاء "اليوسفي" وتعيين "المقدم البرطي" الذي سبق أن احتل عدة مراكز أمنية مهمة. أما الهدف ا لثاني من التعديل كان لمعالجة التدهور الاقتصادي، وتفعيل البرامج التنموية التي احتلت مقدمة البرنامج السياسي الذي أعلن عنه الرئيس صالح عشية تسلمه مقاليد الحكم في 17 يوليو. وهو الأمر الذي يفسره قرار الرئيس بإعادة ( علي لطف الثور) إلى مراكز الحكم، وزيراً للتنمية ورئيساً للجهاز المركزي للتخطيط- أي ضمن حدود خبراته السابقة التي اضطلع بها من قبل، حيث إنه عمل وزيراً للخزانة للفترة (2/9/1969- 4/2/1970)، ووزيراً للاقتصاد ضمن حكومتين متتابعتين في عهد الرئيس الحمدي بدءً من (3/3/1974م وحتى 29/5/1978م) حيث أقصاه الغشمي من التشكيلة الحكومية الوحيدة في عهده، ليواصل مسيرة جديدة وطويلة في عهد الرئيس صالح. بجانب ذلك التعديل، وسّع الرئيس علي عبد الله صالح من نشاطه الداخلي وزياراته الميدانية إلى مناطق مختلفة من أنحاء الجمهورية، ووضع حجر الأساس للعديد من المشاريع الخدمية، وأشرف على سير عمل التعاونيات وكل المشاريع الحيوية المتصلة بالحياة اليومية لمواطنيه. لكن علي ما يبدو- أن الموروث السلبي كان ثقيلاً جداً، وأن الفراغ السياسي الذي شهدته الساحة الوطنية اليمنية في العهود المنصرمة قد خلّف داءً مستشرياً في الجسد اليمني، استغلته التيارات الفكرية اليسارية لنشر ثقافتها العكسية الغريبة بين صفوف أبناء الشعب اليمني حتى باتت تلك الحالة هي الوضع الأخطر، والتحدي الأعظم الذي يقف في طريق الرئيس علي عبد الله صالح، ويملي عليه واقعاً جدياً من العمل والتخطيط والوسائل. فلم يكن بمقدور الرئيس الحديث العهد إزاحة تراكمات حقبة طويلة لم تذق طعم الاستقرار أو تلامس معادلات حكم متوازنة منذ أن قامت الثورة عام 1962م، وحتى اللحظة. فلم يزل الاختراق الفكري يبحث عن بقعة يجثو عليها في الشطر الشمالي تأهبا لابتلاع النظام والوطن معاً في آن واحد. ومع الاقتراب من نهاية العام 1978م تحول طابع النشاط المعادي لنظام صنعاء، والذي تقوده الجبهة الوطنية الديمقراطية إلى عمل منهجي يستند إلى مخطط تفصيلي دقيق تديره مؤسسة "الدولة" في عدن، وتستثمره قوى أجنبية خارجية لصالح صراعاتها الدولية، وترصد له حصة عظيمة من مدخلاتها القومية. في نهاية شهر أكتوبر – وبداية نوفمبر كانت الأموال الطائلة التي ترد عدن من الخارج، تجد سحرها وبريقها بين بعض قبائل وأفراد المناطق المحاددة لشطر اليمنالجنوبي، تطور في نهاية أمرها إلى تحالفات – وإن كانت ضيقة ومحدودة- مع القبائل التي سخرتها قيادة الجبهة لضرب القبائل الأخرى الرافضة للفكر الماركسي، وفي مهاجمة الوحدات الحكومية- على غرار ما حدث قرب ( حرف سفيان) و(الجوف) في مطلع شهر نوفمبر 1978م، وواصلت الجبهة الوطنية تصعيدها للنشاط العسكري المسلح في مناطق متفرقة من الجمهورية العربية اليمنية. وأخذ التعاون بين القوى القبلية وممثلي الحركة الوطنية يشكل وضعاً مقلقاً جداً للرئيس علي عبد الله صالح. لم يقف الرئيس صالح مكتوف الأيدي إزاء هذه التطورات السريعة، وسلكت حركته خطين، الأول داخلي والثاني خارجي. فقد أقدم على تعزيز نفوذ سلطته في المناطق التي كان وجود الدولة فيها ضعيفاً ونشطت فيها الجبهة الوطنية مثل الجوفومأرب وغيرهما. فأجرى الرئيس عدة تغييرات في صفوف الضباط الكبار واستبدلهم بآخرين ممن يثق بهم، فعيّن ( أحمد الخولاني) قائداً عسكرياً لمنطقة الجوف، ودعمه أيضاً بتعيين ( يحيى محمد القاضي) محافظاً على الجوف. وبعث ( مجاهد أبو شوارب) إلى منطقة مأرب. كذلك سعى إلى الحد من اتساع نشاط القوى اليسارية التي كانت تعمل بالعلن تحت أغطية أخرى، فأصدر قراراً بإغلاق مقر الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن واعتقال عدد من أعضائها. ولما كانت الدولة محطمة الإمكانيات، ومبعثرة الطاقات في الوقت الذي كانت الجبهة تتحرك على مساحة أوسع. ففي أواخر شهر ديسمبر 1978م قام الرئيس صالح بجولة مكوكية لدول الجزيرة العربية والخليج، زار خلالها المملكة العربية السعودية، ومسقط وأبو ظبي وعمان واطلع زعمائها على حقيقة الوضع اليمني الجاري وآخر التطورات ، وأطلعهم على إمكانيات بلده مستهدفاً من وراء ذلك الحصول على مساعدات إضافية ليستعين بها في صراعه مع القوى اليسارية، ولإدارة العمليات العسكرية على الحدود. وقد تزامنت جولة الرئيس صالح في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي مع تطور جديد على صعيد الساحة الداخلية، فقد تكشف للرئيس أن الحملة التي شنتها أجهزته الأمنية على الرموز الناصرية عقب إفشال المحاولة الانقلابية لم تقض على جناحه الحركي وأن العديد من قيادات جبهة 13 يونيو الضالعة بالانقلاب تمكنت من الفرار إلى مناطق الشطر الجنوبي، ثم ما لبثت أن جددت هيكلها التنظيمي وأقرت برنامجها السياسي المرحلي، وفتحت المباحثات مع الجبهة الوطنية الديمقراطية. وفي الفترة من 25 ديسمبر 1978 إلى 5 يناير 1979م وقعت كل من جبهة 13 يونيو والجبهة الوطنية الديمقراطية على بيان مشترك يعلن عن وحدة الجبهتين، ويذكر البيان دواعي تلك الوحدة على ان (عملية الوحدة ضرورة حتمية، أملتها ظروف الواقع، التي تتطلب تعبئة كل قوى وطاقات الشعب اليمني، لتعزيز وتوسيع النضال..) ويفصح البيان عن الهدف العملي الأساسي بأنه يرمي إلى (إقامة السلطة الوطنية الديمقراطية في الشطر الشمالي من الوطن..). وهكذا ازداد الوضع اليمني تعقيداً، وعظم حجم التحدي الذي ينتظر الرئيس علي عبد الله صالح في زمن المواجهة الحتمية، فالتطور الأخير لا بد أن يعطي زخماً قوياً للنظام الجنوبي للإصرار على اجتياح الشمال. • حرب الأخوة الأعداء إختلف عام 1979م عن سابقه تماماً، فهو عام (النقيضين) الحرب والعنف والتخريب، ونقيضه البناء والتشريع والتأسيس الديمقراطي على طريق إعادة التأهيل الوطني للدولة اليمنية. فقد استهل الماركسيون هذا العام بنشاط محموم وعنف منقطع النظير في كل بقعة طالتها أيديهم، فاجتياز الرئيس علي عبد الله صالح للاختبار الانقلابي فسره عبدالفتاح إسماعيل على إنه استنزف قوة صنعاء وزاد ضعفها فوق الضعف الموروث عن الانعطافات السياسية التي رافقت الدولة لعدة سنوات. فغلب الظن لنظام عدن إن الرئيس صالح ضعيف وقد دقت نواقيس البدء بتنفيذ مخطط السيطرة على الشطر الشمالي وتوحيده تحت راية الحزب الاشتراكي اليمني.. الأمر الذي صعد من حدة التوتر بين الشطرين، ومن ثم احتدام الصدام المسلح في مناطق كثيرة على حدود الشطرين. وفي يوم 20 فبراير 1979م شنت الجبهة الوطنية ومليشيات نظام عدن حرباً شاملة استخدموا فيها مختلف أنواع الأسلحة الحديثة -الخفيفة والثقيلة- التي لا قبيل لقوات الشطر الشمالي بمواجهتها، واتبع فيها الماركسيون أبشع الأساليب الإرهابية التي يمكن أن تشهدها حرب بقصد نشر الرعب بين القبائل والأهالي وإجبارهم على الاستسلام .. ونجحت خلالها القوات الجنوبية بتكبيد قوات الرئيس صالح خسائر فادحة، واحتلال مناطق واسعة من الشطر الشمالي شملت البيضاء وقعطبة وحريب ودمت وجبن والسوادية وغيرها .. ولولا مهارة الرئيس صالح في تعبئة الساحة الجماهيرية وتشكيل فرق الجيش الشعبي من السكان المحليين، وكذلك المقاومة المستميتة التي استبسلت بها بعض وحدات الجيش، لكانت القوات الجنوبية وصلت أبواب العاصمة. وما زال البعض يروي قصصاً استشهادية من تلك الفترة تكاد أن تكون أقرب إلى الملاحم. إن إدارة الرئيس علي عبد الله صالح للمعركة (الأزمة) التي سنأتي عليها، لا بد وأن تبلور في أذهاننا جميعاً صورة ناضجة للزعامة المحنكة. فالكثير من القادة يصعقه الحدث الجلل ويشل إرادته من اتخاذ القرار السياسي الحازم.. بينما هناك آخرون تشتد صلابتهم كلما داهمتهم خطوب وعظم البلاء، ليجعلوا من أنفسهم فوق أقدارها وليس تحت مطارقها، وكان الرئيس صالح واحداً من أولئك الرجال الذين لم نعرف في حياتنا قط من كان يفوقهم مهارة وحنكة في إدارة الأزمات وتخطي النوائب.. على الرغم من كون الدولة التي ترأسها كانت خائرة القوى، خانعة لليأس، تنتظر منه أن يعطيها، لا أن يأخذ منها شيئاً –كما جرت العادة- ومن غير أن تعينه بالكثير من الوسائل والأدوات. لكنه جعل من خبرته، وعمق نظرته للواقع، وجرأته مصدراً للقوة التي يروض بها الأقدار، وينتزع من بين فرائصها مقادير خلق جديد للبذل والصمود والتحدي. وهكذا نجد الرئيس علي عبد الله صالح يرمي بكل ثقله –أثناء المواجهات- إلى محاولة معادلة طرفي النزاع، وخلق توازن نسبي يحول دون استنفاذ البدائل أو استقواء الآخر. حتى إذا ما رجحت كفة التفوق المادي العسكري ومقوماته النوعية للشطر الجنوبي على كفة الشطر الشمالي، أقدم الرئيس في الحال على معادلتها بتفوق سياسي غاية في الدهاء، إذ تحولت في ظله الهزيمة العسكرية إلى نصر سياسي كبير أصبح لاحقاً مرتكزاً لانطلاقة الحركة الثورية الوطنية للدولة ومشاريعها التنموية. لإنه لم يتوقف عند حالة مستوحات من خطوط جغرافية وهمية في الأصل، ولا تمثل أكثر من ظرف طارئ ومؤقت، بل عمل على تفعيل العزلة السياسية لخصمه واستثمار الحالة التي هو عليها لإعادة تأهيل ساحته وتقويم وضع الدولة بكل مواريثها الثقيلة على محاور جديدة تؤسس دعائم مرحلة قادمة من الزمن اليمني التاريخي المصاحب لمسيرة العهد السياسي للرئيس علي عبد الله صالح. بقدر ما كانت الحرب الحدودية بين الشطرين تجربة قاسية ومشحونة بالألم عند الرئيس صالح، بقدر ما حققت شخصيته القيادية، ورسمت أبعاد هويته السياسية والفكرية، وأبرزت ثقل الكيان السياسي للدولة اليمنية إقليمياً ودولياً( ). وبالإمكان الوقوف على المحتوى الثقافي لمعطيات الرأي السابق من خلال ما نلخصه هنا من رؤى لمجريات الحدث السياسي المواكب للحرب الحدودية: - عمل الرئيس علي عبد الله صالح على معالجة الأوضاع الخطيرة في بلده داخل إطار من الأولويات المدروسة بدقة والتي تكشف عن حقيقة إدراكه الواعي لعناصر الفلسفة التاريخية المكونة لحضارة المنطقة وتجاربها السياسية، والتي تؤكد الرأي السائد عنه حالياً كرجل سياسي محنك وليس مجرد نموذج عسكري تقليدي. فقد سلسل خطوط المواجهة بدءً بالتعبئة الشعبية ثم الدعم الإقليمي من دول شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، ومن ثم تدويل المشكلة قومياً في إطار جامعة الدول العربية، وأخيراً استثمارها دولياً مع أقطاب القوى العالمية. - كان لإنشاء فرق الجيش الشعبي من مختلف مناطق اليمن الأثر الفاعل في مقاومة المد الماركسي وإيقاف تغلله في المزيد من المدن اليمنية، حيث كانت كل فرقة لا يقل عدد أفرادها عن ألف مقاتل. كذلك خلقت هذه الفرق لوناً متميزاً من التلاحم بين الدولة وأبناء الشعب اليمني، والذي كان من الاسباب التي ادت بأنيسود الهدوء الداخلي الذي كانت السلطة بأمس الحاجة إليه لتركيز نشاطها الأعظم للحرب الحدودية. - حِرص الرئيس صالح على إشراك دول شبه الجزيرة العربية والخليج العربي في وقت مبكر وسابق للحرب عمل على تأكيد الهوية السياسية والفكرية للرئيس أولاً، ومهد السبيل لتدفق أوسع المساعدات السعودية والخليجية لليمن وبالتالي فإن ذلك عزز الاعتقاد في المنطقة بكاملها بأن اليمن جزء حيوي لا يمكن استثناءه من أي حسابات استراتيجية إقليمية، وأن الرئيس صالح هو الشخص الذي يمكن الوثوق به ومساعدة بلاده إذا ما رغبت دول المنطقة بتحرير نفسها من مخاوف النفوذ الشيوعي في جنوب شبه الجزيرة العربية. ومن الجدير ذكره- أن هذه المفاهيم للواقع الإقليمي ستحتل موضعاً منهجياً في أدبيات الرئيس صالح، وتصبح ضمن أفكار (الميثاق الوطني) في وقت لاحق، لكنها لن تجد طريقها إلى السياسات الخليجية إلا مع نهاية القرن العشرين حين بدأت القيادات الخليجية تستوعب مغزى ذلك وتعلن موافقتها على انضمام اليمن لمجلس التعاون الخليجي – ولكن للأسف- جزئياً. - عمل الرئيس صالح على فرض المزيد من العزلة على نظام الرئيس عبد الفتاح إسماعيل من خلال توجيه مذكرة لجامعة الدول العربية يشرح فيها ما حدث، ويطالب الجامعة بدراسة الوضع الناشئ والتدخل في النزاع القائم، وهو ما أسفر عنه تدخل ممثلين من (العراق وسوريا والأردن) والتوسط بين الطرفين ثم الاتفاق على وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 3 مارس 1979. كذلك انعقاد القمة العربية الطارئة في الكويت للفترة من 4-6 مارس 1979م والتي أوصت بعقد قمة للطرفين للفترة من 28-30 مارس 1979 والتي انتهت بتوقيع " اتفاقية الكويت" بين كلاً من الرئيس علي عبد الله صالح والرئيس عبدالفتاح إسماعيل. إن مدلولات هذه الخطوة حملت الكثير من المفاهيم التي ترسخ القناعة لدينا بكون الرئيس علي عبد الله صالح ضرورة تاريخية حتمية في حياة اليمنيين. فهو لم يمض عليه في الحكم سوى نصف عام، ورغم ذلك نقل رسالة كبيرة للقيادات العربية تفيد بأن الحوار الإيجابي هو الخيار الأفضل في بناء سياسات الشعوب، وأن البيت العربي (المتمثل بجامعة الدول العربية) بإمكانه أن يصبح ملاذ الأنظمة الآمن لتجاوز محنها الصعبة في ظل النوايا الحسنة المخلصة للأشقاء.. وبهذا السلوك الحضاري وضع الرئيس صالح حجر أساس الانتماء القومي للدولة اليمنية، وعزز ثقة أعضاء الجامعة العربية بقيادته الحكيمة. أضف إلى ذلك أن "اتفاقية الكويت" ستكون اللبنة الأصلية التي سيشمخ فوقها صرح الوحدة اليمنية- كما سنرى ذلك لاحقاً. انتهز الرئيس صالح تداعيات الحرب ليخطو نحو انفتاح جديد في أفق العلاقات الخارجية لدولته. فإبان حرب فبراير 1979م نشطت الديبلوماسية اليمنية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعقدت مباحثات لممثلي اليمن والسعودية والولاياتالمتحدة ناقشت مسألة تحديث الجيش اليمني، وحث الإدارة الأمريكية على تسليم اليمن صفقة سلاح متأخرة منذ عام 1978م كانت قد اتفقت بشأنها اليمن منذ عام 1976. وبما أن مصالح الدول الثلاث تلتقي تماماً على جبهة واحدة أمام المعسكر الاشتراكي- وإن كان لكل طرف أسبابه الخاصة المختلفة- فقد تعهدت السعودية بتمويل الصفقات اليمنية، وتكفلت الولاياتالمتحدة بتسليح اليمن، كذلك وقع الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) على مذكرة إلى وزارة الدفاع الأمريكية بإرسال صفقة السلاح المتأخرة منذ عام 1978م، والتي كانت تشمل على 12 طائرة (إف/5) و 64 دبابة (إم/60) إلى جانب توقيع الأطراف الثلاثة على صفقة جديدة بقيمة (400) مليون دولار. إن أهمية هذا الحدث تكمن في كونه مثل أول انطلاقة يمنية نحو المؤسسة العسكرية الحديثة التي ستضطلع مستقبلاً بأدوار حيوية جداً في إعادة موازنة المعادلة الإقليمية، وتقديم اليمن كدولة مؤسسية تحتل ثقلاً يجب أخذه بعين الاعتبار في الحسابات الدولية.. وكان ذلك بمثابة استثمار جيد للظرف الحرج، كشف عن دهاء الرئيس صالح في رسم خطوط سياساته الخارجية والإمساك بزمام المبادرة. تتكشف مهارة الرئيس علي عبد الله صالح في احتواء الظرف السياسي المعقد، والمناورة على محاوره المتعددة في الطريقة التي تعامل بها مع الساحة المشحونة بالتوترات آنذاك. فقد حرص على أن يكون واقعياً بكل معنى الكلمة، وبنى سياساته على أساس من ذلك. فانطلاقه من حقيقة التفوق العسكري لقوات الشطر الجنوبي وتنظيمها الدقيق، ومهاراتها القتالية العالية فرض عليه السعي لقطع طريق العودة لخيار الحرب، والمناورة بقدر المستطاع مع خصومه من خلال هامش عريض من المرونة والشفافية في تهيئة ظروف الحل السلمي وصولاً إلى صياغات مقبولة للاتفاق عليها. وهكذا، فإن رفض الجبهة الوطنية لوقف إطلاق النار المبرم يوم 3 مارس 1979 كان سيأجج الحرب ثانية لو قابله موقف متشدد من قبل الرئيس صالح. لكن ما حدث هو أن الرئيس صالح عقد لقاءً سرياً مع ممثلي الجبهة مفضلاً لغة الحوار، واستمع إلى مطالبهم بصدر مفتوح، ووعد بالكثير الذي يخدم الوطن والشعب. ومن أجل التخفيف من حالة التوتر السائدة في الساحة أصدر الرئيس في يوم 21 مارس 1979 القرار الجمهوري رقم (27) والقاضي بتعديل الحكومة، والذي سعى من خلاله إلى التخلص من العناصر التي كانت تنساق وراء تأثيرات خارجية (خليجية) تحاول عرقلة أي تقارب بين الشطرين. وفي مقدمة هؤلاء: عبد الله عبدالمجيد الأصنج (وزير الخارجية) وكذلك محمد سالم باسندوه (وزير الإعلام والثقافة). وحل محلهم شخصيات معروفة بتعاطفها مع القوى الديمقراطية وإلى جانب ذلك أصدر الرئيس قراراً بالعفو عن عدد كبير من السجناء السياسيين، وإعادة المفصولين من الدوائر الحكومية إلى وظائفهم وإيقاف الحملات الإعلامية التي تستهدف نظام الشطر الجنوبي وهكذا كانت هذه المقدمات كفيلة باحتواء التوتر السياسي وتهيئة طقوس ملائمة لما تم توقيعه لاحقاً في الكويت. • 1979م – يد تقاتل وأخرى تبني وإن كان عام 1979م من عهد الرئيس علي عبد الله صالح قد سطر على صفحاته التاريخية الأولى أحداث صراعات دائمة، وحرب مدن ضروس على امتداد خطوط التشطير، إلا أنه أيضاً كان عاماً حافلا بالتغيرات الديناميكية التحولية التي جعلت منها القيادة اليمنية غاية مركزية للتمحور بمشروع سياسي نافذ داخل أطرها السياسية المؤلفة لمرتكزات مشروع بناء الدولة اليمنية. وهذه الحالة النادرة من التزاوج بين ما وصفناه من قبل –النقيضين– لا يمكن اعتبارها مجرد محض صدفة تاريخية سياسية رفيعة انفرد بصناعتها الرئيس صالح، ولربما كان أوضح تجسيد لملامحها هو ما تكرر لاحقاً عقب حرب الخليج الثانية عام 1991م، وكذلك بعد حرب الانفصال في صيف 1994م، حين عاشت اليمن اشد ضائقاتها السياسية والاقتصادية بأعظم النقلات النوعية لحركة البناء التنموي للدولة اليمنية الحديثة. وعلى كل حال فإننا سنعرج هنا على أهم البنى التي أرسى أساساتها الرئيس صالح في سبيل ردم جزء من مخلفات الماضي، وإعادة تأهيل الواقع اليمني تدريجياً ليعد الدولة مجدداً لتبني ادوارها المرسومة ومن هذه البنى التي ارساها الرئيس صالح خلال العام 1979م فقط هي: - القيام بجولة عربية تشمل دول شبه الجزيرة العربية والخليج العربي والأردن والعراق وسوريا بهدف تعزيز مكانة الدولة اليمنية، عربياً والاستفادة من تفاعلاتها مع الواقع الجديد في دعم القضايا اليمنية والدفع بالحركة التنموية فيها. - فتح ملف جديد لمشروع علاقة مستقبلية مع الولاياتالمتحدة والشروع بتحديث القوات المسلحة – ركيزة الأمن والاستقلال فيها . - التوقيع على اتفاقية الكويت في يوم 30 مارس لتصبح الخطوة العملية الجادة على طريق الوحدة. - إصدار عفو عام وإغلاق أبواب المعتقلات. - إجراء انتخابات الهيئات التعاونية على مستوى الجمهورية، وزيادة عددها إلى 197 هيئة تعاونية. - إنشاء المجلس الاستشاري من (15) عضواً في شهر مايو بموجب القرار رقم (13) ومشاركة جميع القوى فيه باستثناء الجبهة. - إعادة تشكيل اللجنة العليا للتصحيح المالي والإداري ومنحها صلاحيات رقابية وإجرائية عليا فوق أرفع المناصب بالدولة. - إصدار إعلان دستوري جديد بتاريخ 8 أبريل يرفع عدد أعضاء مجلس الشعب التأسيسي إلى (159) عضواً بدلا من (99) وتوسيع صلاحياته واختصاصاته بمنح أعضائه حق المبادرة التشريعية والتقدم بمشروعات القوانين ... الخ. - لأول مرة – إجراء انتخابات المجالس البلدية في شهر يوليو. - زيادة أجور جميع موظفي ومستخدمي الدولة لرفع مستوى معيشتهم. - إعادة تنظيم اتحاد المغتربين. - بناء مساكن متوسطة للموظفين على أساس أن يتم تمليكها لاحقاً. - وضع حجر الأساس لمشروع الكهرباء المركزي الذي سيغطي ثلثي اليمن. - لأول مرة – الاحتفال بعيد المعلم في الأول من أبريل - لأول مرة – صدور أول قانون لخدمة الدفاع الوطني (خدمة العلم) في يوم 8 سبتمبر. - لأول مرة – إصدار قانون الضمان الاجتماعي، في يوم 8 سبتمبر. - لأول مرة بدء تشغيل البث التلفزيوني الملون، بتاريخ 25 سبتمبر. - لأول مرة – إقامة مخيم الشباب. - لأول مرة – بدء اليمن في استغلال الطاقة الشمسية في الخدمات السلكية واللاسلكية. - لأول مرة – إنشاء بنك التعاون الأهلي بدعم حكومي من أجل تشجيع قيام التعاونيات الزراعية. - شق عشرات الكيلومترات من الطرق، وبناء عدد كبير من المدارس، ووضع حجر الأساس للمزيد منها. ومما سبق نرى أن هناك سعي حثيث وكبير بحجمه لبناء الدولة والنهوض بمقوماتها الحياتية في مختلف الميادين، فالجهود التي بذلها الرئيس صالح بهذا الاتجاه لم تصب في قالب واحد من العمل الملامس لحياة الفرد والبنى التحتية للمجتمع فحسب، لكننا نضع أيدينا على مشاريع غير نمطية وذات صلة مباشرة بالأهداف الثورية السبتمبرية، وكأنه يحاول من خلالها خلق انبعاث ثوري مرحلي رديف لإرادة التحدي للآخر المتربص بها. فإصدار قانون خدمة العلم، يعني تجديد دماء القوات المسلحة ورفع قدراتها الدفاعية عن أمن الوطن واستقلاله، خاصة وانه كان مصاحباً لبرامج أخرى رامية إلى تحديث الجيش. وهو أمر يحتل مقدمة الأهداف الستة للثورة اليمنية. وإذا كان هناك من يؤول المشروع الدفاعي إلى تعزيز هيمنة السلطة، فانه –بلا شك– لن يجد ما يسقطه على البنى الديمقراطية التي أوردناها آنفاً، كونها مصدر قوة للفرد ذاته أولاً، ولنفوذ المجتمع من بعده، وتشكل رابع أهداف ثورة سبتمبر. الأمر الملفت للنظر هو لولا المرونة والشفافية التي تعامل بها الرئيس صالح مع قيادات الجبهة المناوئة لما شهد أحد من اليمنيين ولادة " اتفاقية الكويت " بكل انعكاساتها ومعطياتها المستقبلية التي فتحت سبل بلوغ الوحدة اليمنية – هدف آخر من أهداف الثورة- و في الحقيقة، إن عام 1979 لم يوصد فيه الرئيس صالح منافذ الحرب حتى فتح أبواب البناء والعطاء لمشروع سياسي عظيم اسمه الدولة اليمنية الحديثة. ومع تحقيق ذلك القدر من العمل، لا يفترض النظر إلى الظرف السياسي للدولة اليمنية آنذاك على إنه قد رسى على الشواطئ الآمنة التي باتت السلطة تطمئن إليها، وتثق بواحدية الولاء الجماهيري لها، أو حتى امتلاك إحساس الإمساك التام بزمام الحكم واستيفائه لرموزه المتكاملة والمتوافقة مع طبيعة مهامها السياسية والتنموية. فالرئيس صالح خلال الربع الأول من العام 1979 م أصبح قادراً على فرز أدوات حكمه، وتحديد مواطن الوهن فيها، أو – بمعنى أدق – قياس مدى تناغمها مع حاجة المرحلة وضروراتها الأساسية التي تمكنها من تخطي أزماتها وإعادة تنظيم صفوفها على نحو يستند لخلاصة قراراتها النهائية لمحاور الوضع الراهن. وعلى هذا الأساس فطن الرئيس صالح إلى أهمية الارتكاز إلى وسائل سياسية متوازنة، ومستعدة لتحمل شطرها من المسئوليات بما تمليه المصلحة الوطنية من واجب، فحرص على تبني إجراء إصلاح ملح في الرموز الحكومية بقصد إبعاد العناصر التقليدية العاجزة عن التكيف مع الأزمة المتفاقمة، وبالتالي حيازة الحشد السياسي الأجدر بمهمة التحاور والمناورة في مختلف مراحل الأزمة. فكان أن أصدر الرئيس صالح قراره الجمهوري رقم 27 والقاضي بتعديل تشكيل الحكومة على النحو التالي: 1- مهندس/ محمد أحمد الجنيد.. نائباً لرئيس مجلس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية. 2- المقدم مجاهد يحيى أبو شوارب.. نائباً لرئيس مجلس الوزراء للشئون الداخلية. 3- حسن علي الحبيشي .. وزيراً للدولة، المستشار القانوني لرئيس الجمهورية. 4- د. عبد الكريم الإرياني .. وزيراً للزراعة. 5- المقدم/ محمد حمود خميس .. وزيراً للداخلية. 6- المقدم / لطف حسين الكلابي .. وزيراً للدولة ومستشاراً لرئيس مجلس الوزراء لشئون الإعلام والثقافة. 7- احمد المحني .. وزيراً لشئون البلديات. 8- يحيى حسين العرشي .. وزيراً للإعلام والثقافة. 9- حسين العمري .. وزيراً للخارجية. وقد أتى ذلك التعديل في يوم 21 مارس 1979 م، أي في الفترة التي كانت تستعد فيها القيادة اليمنية لحضور لقاء الكويت مع رئيس الشطر الجنوبي عبدالفتاح إسماعيل.. ومن المحتمل أن يكون التعديل الوزاري بمثابة إجراء استباقي لمخاوف انهيار المفاوضات والعودة إلى حالة الحرب مجدداً، والتي كانت صنعاء خلالها في وضع لا تحسد عليه، خصوصاً وأن بعض قوى التيار القبلي والطبقة البرجوازية حاولت استثمار الحرب تجارياً، وانتهاز الفرص لمحاولة زج الرئيس صالح في ما من شأنه إدامة زمنها وعرقلة أي لون من تقارب الشطرين حماية لمصالحها الضيقة.. فتخلت بعض تلك القوى عن مناصرة الرئيس صالح في ظرف كان فيه بأمس الحاجة لكل فرد من أبناء الشعب اليمني .. ومن المؤكد أن الاستعدادات الاستباقية لقمة الكويت، ومن ثم نجاح المفاوضات كانت مفاجئة صاعقة لكل النفعيين والانتهازيين. الرئيس علي عبد الله صالح كان يحتفظ لنفسه بنظرة ثاقبة وبعيدة لأدق المتغيرات الطارئة على ساحة بلده الداخلية، وبإمكانه الاستجابة لحالتها وتفاعلاتها المادية والمعنوية في زمن مواز للحظة حدوثها، ومما يعني – إنه من المهارة السياسية بحيث يحتوى الأزمة الناشئة في مهدها. ولعل ادراكه الكامل لواقع التحدي الماثل أمامه منذ تسلمه الحكم وحتى نهاية شهر مارس 1979م جعله الأكثر حذراً وقلقا على مستقبل الوطن، وبات مضطراً لرفع درجة التحصين لهرم السلطة إلى اقصاها، وحماية المربع الأول من الدولة، من خلال إجراء تعديلات وتغييرات في المراكز القيادية وادخال شخصيات مدنية وعسكرية جديدة من المقربين المأمونين ومن مراكز الاستقطاب الاجتماعي أيضاً. فشمل التعديل الوزاري الجديد اضافة ثلاث شخصيات عسكرية معروفة، وجميعها من قبيلة (حاشد ) التي ينحدر منها الرئيس، وهم المقدم مجاهد ابو شوارب، والمقدم محمد حمود خميس، ولطف حسين الكلابي ليكونوا ضمن التعديل الحكومي الأخير. إلى جانب تعيين الشيخ عبد الله الاحمر عضواً في مجلس الشورى. وقد سبق أن عين شقيقيه على محسن الاحمر ومحمد عبد الله صالح في مراكز أمنية مرموقة منذ عام 1978 مع آخرين كثيرين أوكل اليهم قيادة مراكز حيوية في رئاسة الجمهورية والوحدات العسكرية الضاربة وينتمون إلى قبيلة (حاشد ) أيضاً. لكنه في الوقت نفسه حاول موازنة ذلك النفوذ بتواجد موازي من قبيلة (بكيل) مثل تعيين الشيخ سنان أبو لحوم والشيخ أحمد علي المطري، وصادق أمين أبو رأس أعضاء في مجلس الشعب التأسيسي. وفي الحقيقة، أن الرئيس صالح حتى تلك اللحظة لم يكن بمقدوره تجاهل مراكز النفوذ القبلي واقصائهم فجأة عن ادوارهم التي توغلوا بها عميقاَ في مؤسسات السلطة – وان كان ذلك سيحدث لاحقا – لكن في الظروف الحالية ربما سيُعد ضرباً من الانتحار في أتون نزاع ضاري متعدد الجبهات. وهو الأمر الذي يعكس حقيقة بعد التوازنات الداخلية المفروضة على الواقع اليمني، بحيث تكون أي محاولة لخلخلة هذا التوازن قد تدفع بقوى خارجية للتدخل لصالح القوى المنهزمة حتى يعاد التوازن مجددا. وبغض النظر عن احداث حرب 20 فبراير 1979 م، فإن المؤشرات العامة التي طفت فوق احداث العام 1979 م من عهد الرئيس قد حددت طبيعة النهج السياسي الاستراتيجي الذي ستمضي عليه سياسات الرئيس وبرامج عمله الوطني لما سيأتي من الزمن، ويمكن تلخيصها بالآتي : 1- رفع كفاءة أداء الحكومة من خلال تجاوز وضعها الاستثنائي المرحلي إلى صيغ ناضجة تمثلها رموز سياسية واعية ومؤهلة ميدانيا للقيام بأدوارها التنموية المرجوة. 2- تحديث المؤسسة العسكرية والأمنية وتفعيل قدراتها الدفاعية بما يؤمن استقرار الوطن وحمايته من أي تهديدات داخلية أو خارجية، أو تدخلات تمس سيادته الوطنية. 3- تحجيم بعض القوى الوطنية الأخرى – وفي مقدمتها التيار القبلي – وابعاد المشائخ عن مراكز صناعة القرار السياسي للدولة من خلال بناء المؤسسات البديلة كالمجالس البلدية، وهيئات التطوير وغيرها. 4- إنماء تجارب ديمقراطية مرحلية تعيد تنظيم قيم السلوك الاجتماعي والسياسي معاًَ وتمكن الشعب من بلوغ واجباته في قيادة الوطن بممارسة حقوق المشاركة بالمسئولية في صناعة القرار السياسي. 5- تعجيل الحركة الاقتصادية والتنموية وتكريس الجهد الحكومي لتهيئة مستلزمات ومقومات النهضة الزراعية والصناعية والتجارية ودعم المشاريع الصغيرة للمواطنين وتوسيع الاستثمارات. 6- إصلاح العلاقات المضطربة مع الجارة (السعودية ) واتباع سياسة اقليمية متوازنة ومستقلة .. وبذل جهود ديبلوماسية للانفتاح على المجتمع الدولي والاستفادة من معطياته. 7- وسيكون كل ما سبق ذكره أساساً متيناً للوحدة الوطنية اولاً، ولرفع قواعد مشروع اعادة تحقيق الوحدة اليمنية الشاملة من خلال خلق مناخات متكافئة للحوار الايجابي في ظل بناء مؤسسي متنامي. • معادلة التوازن – من الداخل إلى الخارج استفاد الرئيس على عبد الله صالح كثيرا من تجارب الحكم السابقة، وسعى جاهدا لتحاشي ارتكاب الاخطاء ذاتها التي قضت على مستقبل اسلافه من الرؤساء. فهو لم يعمل بتجربة القاضي الارياني الذي مكن زعماء القبائل من تبوء مراكز النفوذ والتأثير في الحكم، فعبثوا بمناهج الدولة وعطلوا أجهزتها ثم قضوا عليه. ولم ترق له أيضا الطريقة التي تعامل بها الرئيس الحمدي مع القوى القبلية، بتجريدها التام من نفوذها، ثم الانقلاب على التيار الاسلامي بعد زمن التحالف وفتح جبهة ثالثة مع الطبقة البرجوازية، واخيرا التقارب المثير للريبة مع نظام الشطر الجنوبي، ومناصبة العداء لدول الخليج العربي والسعودية، حتى تكالبت الاخطار وانتهى به الامر إلى نهاية مأساوية. لكن الغشمي الذي حاول طرق كل الأبواب، وادعاء دور القوي الحازم، فلم تسعفه خبرته الضعيفة على شرح شيء مما كان ينوي الاقدام عليه وضاع وكادت تضيع بعده البلاد والعباد. أما الرئيس علي عبد الله صالح فقد بدأ حكمه من حيث اخفق الآخرون، وامتزجت مهارته العسكرية بخبراته السياسية الطويلة، فكانت مصدر قوة لها، وعاملاً مهماً لاستيفاء صياغاتها السلطوية على أرض الواقع .. فهو اذ لم يحبذ الصدام مع أي قوى سياسية في الساحة منذ اليوم الأول للحكم، ولم يعتقل مشبوهين أو معارضين إنما كان يروم بذلك عكس صورة القوة السياسية المجردة من الغرور، لكنه حين تصدى للانقلاب الناصري بحزم كان يظهر الوجه الآخر لتلك الصورة وهو التواضع من غير ضعف، فكان ذلك هو الأساس الذي اختاره لإقامة توازن القوى وبلوغ الاستقرار. فقد ضبط الرئيس صالح ايقاعات التوازن بين القوى المختلفة على أساس تحجيم تدخلاتها بشئون الحكم من خلال عدد من الوسائل، مثل : - الحوار مع قيادات ورموز تلك القوى، بقدر كبير من المرونة والشفافية. - القيام بتعديلات وزارية لارضاء المحدّثين ورجال الأعمال والقيادات الدينية بهدف موازنة أركان السلطة وكسب المزيد من الدعم والتأييد من مختلف الشرائح الاجتماعية. - فتح أبواب الأعمال والاستثمارات أمام القيادات المؤثرة من تلك القوى بقصد إشغالهم بالمصالح المادية وإبعادهم عن مراكز القرار السياسي للدولة .. وأكثر ما كان ذلك مع شيوخ القبائل. - كسب ولاء قبيلتي حاشد وبكيل (كبرى قبائل اليمن ) بمناصب رفيعة تمنح لبعض مشائخها دون أن يكون لتلك المناصب أي تداخل مع السلطات العليا للبلاد أو تأثير في صناعة القرار السياسي الهام. - التوسع في إنشاء مؤسسات المجتمع المدني كالمجالس البلدية وهيئات التطوير والجمعيات وغيرها، والتي عززت نفوذ الدولة المركزية من جهة، وأبعدت الكثيرين عن العمل السياسي بحثاً عن المصالح والمشاريع، من جهة أخرى. - محاولة النظام السياسي إصلاح علاقاته مع الجارة (السعودية ) التي دأبت على تقديم الأموال والمغريات للقبائل لتأجيج الوضع الداخلي اليمني. لكن الهدوء السياسي بين البلدين قد يخفف الكثير من ضغط وقوة المعارضة القبلية. إذن كانت تلك الخطوط هي الأساس الذي شكله الرئيس صالح في علاقته مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية في اليمن. وعلى الرغم من أنها لم تحقق مراد السلطة كاملا حتى عام 1980 م فذلك لأنها كانت في طورها الأول، وضعف مؤسسات المجتمع المدني في ذلك الوقتلكونها في أول بنيانها، ولأن الأعوام 78/1979م كانت مرحلة تأسيسية للديمقراطية الجديدة ولم يتاح لها الوقت الكافي للنمو والممارسة الواسعة. أضف إلى ذلك أن الرئيس صالح عمد في فترة ما إلى موزانة صراعه مع الجبهة الوطنية بفسح المجال امام التيار الإسلامي (الإخوان المسلمين ) لتوسيع نشاطهم الحركي والاشتراك في المعارك التي كان يخوضها ضد الجبهة، حتى بلغ بهم الأمر في الفترة من ربيع 1981 م إلى يونيو 1982م إلى الإمساك بدور الريادة في ساحة المواجهة بعد أن ألحقوا هزائماً نكراء بفصائل الجبهة، ودفعوا بهم للمثول إلى طاولة الحوار ، ووقف العمليات العسكرية، ولكن هذه المرة – على شروط الرئيس علي عبد الله صالح. وهكذا كان الرئيس صالح يدير اللعبة السياسية في الداخل ويرسم خطوط توازناتها ومعادلاتها السياسية وفقاً لحوار النفس الطويل، آملاً أن يسعفه الوقت لإعادة الأمور إلى نصابها المنطقي وحالتها الآمنة .. ولكن بتدرج مرحلي محسوب بدقة، ومدروس بعناية. وما دام الظرف اليمني لا يمكن ان يفهم بوضوح من غير الربط مع عوامله الخارجية، عمل الرئيس صالح على مزاوجة المعادلة الداخلية بأخرى خارجية. فمن الطبيعي أن ضعف الاقتصاد اليمني ظل طوال العهود السابقة يمثل أهم أسباب اختراق الدولة اليمنية المبررة للتدخل بشئونها الداخلية من قبل الجهة التي تقدم لها ثلثي ميزانيتها الحكومية. وهذه التجربة عاشتها اليمن مرتين: الأولى بعد فجر الثورة الأول من خلال الوجود المصري في اليمن للدفاع عن الثورة، والثانية بعد انتقال (الوصاية) إلى المملكة العربية السعودية. وكلاهما نجم عنه اختلال وتدهور في مؤسسة الحكم اليمنية. في عهد الرئيس صالح، كان الأمر خلافا لما قد يتوقعه الكثيرون، فبدلاً من أن تصبح السياسة الخارجية اليمنية رهينة لضعف الدولة والتدخل السعودي، أظهرت السياسة الخارجية اليمنية استقلالاً مثيراً للدهشة، وأصبحت هذه السياسة الوسيلة الأهم التي تقدم لقيادة الرئيس صالح الوسائل والأدوات الضرورية للمناورة وتقوية موقفها في مواجهة المملكة العربية السعودية، وتعزيز دورها الإقليمي، وإضفاء الشرعية على نظامها داخلياً. تمكن الرئيس علي عبد الله صالح من فعل ذلك من خلال استغلاله للثغرات المتواجدة في بيئته الاقليمية والدولية، والتي يمكن ايراد أهم عناصرها من خلال الآتي : 1- الاستفادة من مقاومة اللاعبين الإقليميين الصغار لميول الهيمنة السعودية. حيث أن المملكة حاولت دائما ً التأثير على دول الخليج العربي في قضايا اعتبرتها هامة للأمن القومي للمملكة مما دفع دول الخليج للاعتقاد بأن مساعدة اليمن وتقويتها يؤدي إلى إنشغال المملكة بها وتخفيف الضغط عن تلك الدول، مما أعطى قيادة اليمن فرصة للعب دور اقليمي وتنمية مواردها بغض النظر عن النوايا السياسية الخليجية. 2- الاستفادة من التنافس السعودي – العراقي على تصدر مركز الهيمنة الاقليمية الأول، حيث عمل الرئيس صالح على مد جسور علاقات قومية وثيقة مع العراق خلال زيارته التي قام بها في شهر مارس 1979م ليس لمجرد كون العراق مصدراً للحصول على دعم اقتصادي وسياسي، بل لأنه أيضاً سيعطي اليمن قوة ثقل وهامش للمناورة في علاقاته مع السعودية. وهو وضع حرصت صنعاء على بقائه حتى بعد حرب الخليج الثانية. 3- في خطوة جريئة ، أقدم الرئيس صالح على إدارة اللعبة السياسية الخارجية مع القوى العظمى لغرضين: أولهما التحرر من تأثير المملكة، وثانيهما الاستفادة مما تقدمه هذه الدول من مساعدات وتكنولوجيا ودعم سياسي تصب جميعها لمصلحة تحديث المنشآت الاقتصادية والعسكرية، وتحريك التنمية وموازنة أثر قطبي الصراع الدولي في الجزيرة. ولأهمية هذه المسألة في تاريخ العلاقات اليمنية- الأمريكية - الروسية- السعودية، رأينا أن نفصل خطوة البداية للوقوف على عبقرية الرئيس صالح في بلورة الاتجاهات العامة للسياسة الخارجية اليمنية. إبان حرب فبراير 1979م حصلت اليمن على مساعدة عسكرية هامة من الولاياتالمتحدة، تعهدت السعودية بتمويلها، وكانت قيمتها (400) مليون دولار، وقد رأت الإدارة الأمريكية ضرورة الموافقة عليها خشية وصول المد الماركسي إلى مناطق البترول وتمكين الاتحاد السوفيتي من التحكم بمصادر الطاقة وضرب المصالح الأمريكية. الأمر الذي حذا بالرئيس الأمريكي ( جيمي كارتر) إلى اعتبارها معونة استثنائية طارئة منحها لليمن دون الرجوع إلى الكونغرس، وكانت تشمل على (12) طائرة مقاتلة (ف.5/ تايغر) و(64) دبابة (م/60) ، و(90) ناقلة جنود (م-113)، وصواريخ مضادة للدبابات "تاد" ومدافع مقاومة وطائرات نوع "فالكون" مع إرسال (70) خبير للتدريب عليها.. وكانت المملكة اشترطت على الأمريكان – بحسب ما نقل عن " وليام كوندت" مستشار الرئيس كارتر – ألاّ يتم- تسليمها لليمن إلاً عن طريقها. وحدث أيضاً أن حث الرئيس كارتر وزارة دفاعه "البنتاغون" على سرعة إيصال صفقة أخرى تم إبرامها في عام 1976م بقيمة (137) مليون دولار، وكان من المفترض أن تستلمها اليمن عام 1978م، لكنها وصلت بعد انتهاء الحرب وتوقيع اتفاقية الكويت في مارس 1979م. فآثرت السعودية ألا تسلمها لليمن، حيث أنها لم تكن راضية على الاتفاق الذي تم مع الجبهة الوطنية باعتبارها خطوة على طريق الوحدة التي لا تتمناها لليمن. من كتاب (( علي عبد الله صالح.. تجارب السياسة وفلسفة الحكم)) تأليف: نزار خضير العبادي حقوق النشر محفوظة ل"نبأ نيوز" والمؤلف