الزّهاوي هو الشاعر العراقي (جميل صدقي الزّهاوي) الذي يقرن مع الشاعر العراقي الآخر(معروف الرّصافي) ليكون ثاني اثنين قيض لهما أن يكونا بداية عصر جديد للشعرية العراقية ، بما أنضجاه من وعي ورؤية ومواقف دلت علي حضورهما الفاعل ودورهما في الارتقاء بالشعر من وهدة انشغالاته باردة الروح في القرن التاسع عشر إلي حيث يصبح في القرن العشرين اللاحق تجربة إنسانية وأدبية تسلك آفاقها نحو التطور والاتساع المعرفي الجاد والإنجاز الجمالي بذائقة وثقافة مغايرين لما كان سائداً قبلهما أو معهما. لقد انضوي الشاعران إلي صف جيل شعري أعلن عن نفسه في أكثر من قطر عربي، أطلق عليه وصف ( جيل الإحياء الشعري ) الذي سعي بوعي مدرك إلي تأمل الموروث الأدبي العربي في أنضج عصوره وأخصبها، رغبة في إحياء قيمه والنسج علي منوالها، ثم الانطلاق نحو ما يفرضه العصر من ثقافة مستحدثة ومجالات معرفة متدافعة ووقائع سياسية واجتماعية لا يمكن التغاضي عنها، ليصبح وعي التجديد ودعوات التطور واستلهام روح العصر وقيمه مؤشراً مهماً لقراءة تجربة ذلك الجيل الشعري واستنطاقها. ليس في منجزه الشعري وحده بل في مجمل ما كتبه، وما أسس له من مواقف وتجارب ذات نزوع إنساني ومعرفي دال. نال الزهاوي مكانته في الثقافة العربية عامة والعراقية علي نحو خاص ليس من خلال ما اختطه لتجربته الشعرية من رؤى وانشغالات بينة الخصوصية عنده بل وبما تعاور وجوده الإنساني من مواقف وادعاءات فكرية واجتماعية تركته عرضة للمشاكل ، وأثارت عليه فئات مختلفة ، من دون أن يردعه ذلك عن التمسك بقناعاته والصداح المتطاول بدعاواها. وإذ لم تعد كثير من أفكار الزهاوي ذات الوجهة الجدلية في قضايا السياسة والاجتماع والمعارف والفلسفات مما يثير اليوم خلافاً، أو يستعاد الحديث الطويل فيه ، بعد أن أمسي مسلمات سلوكية وتعبيرية عامة، فلعل ما طرحه من فهم للتجديد في الأدب ولاسيما الشعر مما لم يتم تجاوزه ، إذ ما يزال فضاء الجدل فيه متسعاً لقد كان تبرم الزهاوي بالسائد التقليدي من الشعر في عصره وجهة معلنة طال تردده عليها وصداحه بها، في تأكيد رغبته أن يسلك الشعر فضاء التجديد وقيمه، فهو القائل: سئمت كل قديم عرفته في حياتي إن كان عندك شيء من الجديد فهاتِ(1) ومنطلق التجديد عند الزهاوي استجابة يقينية لحركية الحياة وتطورها الذي يفترض بالشاعر أن يتمثلها، لينال وصف (الشاعر العصري)، وهو طبقاً لما رآه الزهاوي : "من يقول الشعر بدواع عصرية أكثرها اجتماعي، كأن يشاهد ظلامه فيصورها في شعره، داعياً بذلك الأمة إلي إزالتها... أو أن يري عادة شائنة للمجتمع، فيقبحها بتصوير ما يلحقه من أضرار بسببها "(2) ولتأكيد هذا المسعى فإن على الشاعر العصري أن يبحث لشاعريته عن منافذ رؤية وتشكيل غير تلك التي توارثناها عن الأسلاف، إذ: "لا ينبغي أن نبقي جامدين علي الطراز الأول الذي استحسنه أجدادنا الشعراء" .(3) ويبدو أن دعوة الزهاوي إلي التجديد الموضوعاتي في الشعر، قصد (عصرنته) قد اصطدمت عنده بعائق فني رادع هو ( القافية )، فهتف داعياً إلى تخليص الشعر العربي منها: كل الفنون تجددت والشعر يعوزه الجديد ما قام حتى أثقلته من قوافيه القيود ما ضرّ سامعها لو اختلفت قوافيه القصيد(4) ومن خلال استقراء موضوعي لمسيرة الشعر العربي وحركيته يعلن الزهاوي ومنذ أوائل القرن العشرين نبوءته عن المصير الذي ستؤول إليه ( القافية ) التي رآها ومن تبن مؤمن بنظرية (النشوء والارتقاء) الدارونية. بمثابة: "عضو أثري قد زال معظمه، وسوف يزول ما بقي منه في جسد الشعر بتوالي الأيام "(5) وعند ذلك يؤكد الزهاوي : "سيكون الشاعر حراً في أن ينظم ما يشاء من المعاني"(6). وكان الزهاوي دقيقاً في استشرافه هذا، الذي لم يمض عليه عقدان من الزمان حتى كانت التجربة الشعرية العربية قد دلفت إلي آفاق تطورها المثير، بظهور (الشعر الحر) ومناداة روّاده بكسر القوالب الموروثة، وتخطي القافية الواحدة، وترك البيت الشعري منساباً مع الانثيال الشعوري والتعبيري وحركتيهما. حفيد خالد بن الوليد استناداً إلي ما ذكره الزهاوي في كتاباته ورسائله فإن جذوره في النسب التي يظن الكثيرون أنها كردية تؤكد عروبته، إذ يتصل نسب عائلته البعيد بالقائد العربي (خالد بن الوليد) . وقد هاجر أحد أجداد الشاعر إلي شمال العراق، وسكن هناك في قرية اسمها (زهاو) ومنها جاء لقب العائلة (الزهاوي).(7) ويبدو أن وجهة الاشتغال بالعلوم الدينية والتفقه بها كانت غالبة علي بعض أبناء تلك العائلة، فقد تهيأ لوالد الزهاوي نفسه، الشيخ (محمد فيضي) من المكانة والشهرة أن يستدعيه والي بغداد العثماني في العام 1853م ، ويسند إليه منصب ( مفتي بغداد) الذي ظل يشغله حتى وفاته في العام 1890. أراد ذلك الأب الفقيه لابنه (جميل صدقي) المولود في العام 1863م أن يسير علي منهجه، كما كانت عليه الحال مع بعض إخوته الآخرين. ولكن ميول الزهاوي الشاب لم تكن لتجد بغيتها في العلوم الشرعية والفقهية. فهو مع دراسته لها كان كثير الاطلاع والملاحقة لما ينشر من كتب ومجلات وصحف تتناول المعارف والفلسفات الحديثة التي أفاض في تأملها ومناقشتها والرد عليها، حتى كوّنَ لنفسه مآلات فلسفية وفكرية خاصة، نأت به تماماً عن المسار المعرفي الذي أريد له أن يسلكه، ولاسيما بعد أن أتيح له الاطلاع علي ثقافة الغرب وعلومه وفلسفاته، وما تهيأ له من إتقان لأكثر من لغة شرقية، ثم سفراته المتعددة إلى خارج العراق، حيث التقي بكثير من المفكرين والأدباء والسياسيين ومن مختلف القوميات والمشارب الثقافية. مارس الزهاوي في مقتبل حياته العملية وظائف عدة، فقد اشتغل مدرساً في بغداد، ثم أصبح عضواً في دائرة معارفها. وفي العام 1890م عين مديراً لمطبعة ولاية بغداد، ثم رئيساً لتحرير القسم العربي في جريدة (الزوراء) الرسمية التي صدرت آنذاك. وبعد سنتين من ذلك أصبح عضواً في محكمة استئناف بغداد، وهي الوظيفة التي بقي فيها حتى العام 1896م، حيث غادر إلي عاصمة الخلافة العثمانية ( اسطنبول ) بدعوة رسمية من السلطان (عبد الحميد) الذي وصلت إليه شهرة الزهاوي، بوصفه شاعراً وفيلسوفاً مجدداً له مكانته البارزة، بعد أن كانت كثير من الصحف التركية والعربية تنشر قصائده ومقالاته، وفي أكثر من قطر ومدينة. مرّ ( الزهاوي ) وهو في طريقه إلي اسطنبول علي بلاد الشام ومصر فحظي هناك بكثير من الحفاوة والتقدير، وأقيم علي شرفه أكثر من احتفال، ألقي فيها بعض قصائده، وناقش عدداً من العلماء والأدباء فيما تحقق له من أفكار فلسفية وعلمية خاصة. وبعد مدة من وصول (الزهاوي) إلي عاصمة الخلافة، كانت الحرب قد اندلعت بين الجيشين العثماني واليوناني. وحين انتصر العثمانيون سارع الزهاوي بنظم قصيدته (الفتح الحميدي) التي أشاد فيها بذلك الانتصار ومدح السلطان(عبد الحميد ) في ثناياها الأمر الذي استحسنه الأخير، فصدرت إرادته السلطانية بتكريم الزهاوي، وتعيينه واعظاً عاماً في اليمن التي سافر إليها في أواخر العام 1897م، بصحبة اللجنة الإصلاحية التي عينها السلطان لتقصي أوضاع اليمن، واقتراح الحلول لمشكلاتها التي تفاقمت آنذاك. وقد قضي الزهاوي في اليمن ما يقارب السنة، قام فيها بمهمته علي نحو نال فيه الإعجاب، ليمنحه السلطان عبد الحميد بعد أن استدعاه إلى اسطنبول رتبة دينية هي (بلاد خمس الموصلة)، وينعم عليه بوسام السلطنة من الدرجة الثالثة. يعرف من يطلع على تاريخ اليمن في العصور المتأخرة أنها خضعت للحكم العثماني علي فترتين: الأولي وتمتد من العام 1538م وحتى 1635م، أما الأخرى فوقعت بين الأعوام 1872م، وحتى انسحاب العثمانيين من اليمن بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م. وفي كلا الفترتين لم تكن اليمن سلسلة الانقياد للعثمانيين كما كانت عليه الحال في كثير من الأقاليم العربية الأخرى بل كانت مصدر متاعب دائمة وثورات قبلية، لا تهدأ أحداهن حتى تكون قد تركت جمرتها متأججة في مناطق قبلية أخري، وهو ما فرض علي الحكم العثماني لليمن حالة من عدم الاستقرار، وكلفه أثماناً باهظة. ولاسيما في المرحلة الثانية التي شهدت تولي السلطان(عبد الحميد) الخلافة في العام 1876م، أي بعد الاستيلاء علي اليمن بأربعة أعوام.(8) كانت قد برزت في العهد الأول من حكم هذا السلطان دعوات للنهوض بالدولة العثمانية وإصلاح شؤونها المختلفة، لتستطيع مجاراة الدول الغربية فيما تحقق لها من تطور علمي واجتماعي وسياسي كبير. وقد ظهر بعض المثقفين المتنورين من الترك والعرب وسواهم من أبناء القوميات المنضوية تحت الهيمنة العثمانية الذين نادوا بفكر الإصلاح والنهوض العلمي، والتغيير السياسي في أساليب الحكم، من خلال إشاعة الروح الديمقراطية وإقامة المجالس النيابية ، للحدّ من الهيمنة المطلقة لسلطة الدولة والحكم المركزي الذي يقف السلطان العثماني في قمة هرمه، ويستبد بسلطات لا راد لأحكامها. ويبدو أن السلطان عبد الحميد قد رضخ في بادئ حكمه لتلك المطالب فصدر ما سمي ب (القانون الأساس) الذي ينظم شؤون الدولة والأقاليم المنضوية تحت سلطانها، حيث كفلت فيه الحرية الشخصية، وأرسي مبدأ الانتخاب لمن يمثلون الأقاليم في مجالس الدولة، وضمنت حرية العمل والتعليم وإبداء الرأي من خلال وسائل النشر المختلفة. ولكن هذا القانون لم يتح له أن يظهر فاعلاً في الواقع، فقد عطله السلطان عبد الحميد بعد صدوره بمدة ، إذ ضاق ذرعاً بما كان يطرحه كثير من النواب المعارضين من أفكار وانتقادات شديدة، لم تنل من الحكومة وحدها بل شملت السلطان نفسه.(9) وهكذا عادت الدولة العثمانية إلي الحكم المطلق للسلطان، ومن بعده للقومية التركية التي لم يكن ليسمح لغير أبنائها بتولي المناصب السياسية والعسكرية العليا في الدولة، وكذلك في أقاليمها المختلفة التي حرم أبناؤها غير الناطقين بالتركية من العمل في إدارتها، إذ اللغة التركية وحدها هي لغة الدولة في المركز والأقاليم ومنها الأقاليم العربية طبعاً كما نص علي ذلك الدستور العثماني(10). ومع اللغة التركية أيضاً فقد عدّ لبس الطربوش التركي الأحمر سمة فارقة لكل العاملين في وظائف الدولة، وشرطاً إجبارياً لمن يسعي إلي تلك الوظائف. (11) ولعل هذه النزعة التي لا تخلو من شوفينية واضحة كانت من بين أسباب عدة أيقظت الروح القومية عند العرب وسواهم من القوميات، فقد وجدوا أنفسهم مهمشين حتى في بلدانهم، ولا تتذكرهم الدولة إلا حين تدعوها الحاجة ولاسيما العسكرية لحشدهم وتسخيرهم في الشأن الذي تريد. كما كان لولاة الأقاليم العربية من الأتراك وسياستهم الاستبدادية القاسية وما ارتكبوه من فضائع وفضائح طالت كثيراً من المدن وأهلها أثرها في إيقاظ رابطة التواصل بين مختلف الولايات العربية وتأجيج الشعور بضرورة دعمها والوقوف معها، وهي تواجه العنت التركي، كما كانت الحال عليه في اليمن آنذاك. هوامش وإحالات : (1) تنظر: مجلة الإصابة التي كان الزهاوي يصدرها وحده، العدد الأول، 10 أيلول 1926م. (2) ينظر: رفائيل بطي، سحر الشعر، الجزء الأول، القاهرة، 1922م، ص71. (3) المصدر نفسه، ص29. (4) الزهاوي، الديوان، دار العودة، بيروت، 1979م، ص321. (5) عبد الرزاق الهلالي، الزهاوي في معاركه الأدبية والنقدية، بغداد، 1982م، ص66. (6) المصدر نفسه، ص80. (7) ينظر: الزهاوي، الديوان، المقدمة ص1 وما بعدها. وقد استفدنا من تلك المقدمة في معظم الإشارات اللاحقة عن حياة الزهاوي. (8) ينظر: د. فاروق عثمان أباظة، الحكم العثماني في اليمن، دار العودة، ط2، بيروت، 1979م، ص20 وما بعدها. (9) المصدر نفسه، ص113، وينظر مصدره. (10) المصدر نفسه، ص117. (11) يذكر أحد المؤرخين اليمنيين أن الوالي العثماني علي اليمن أصدر في العام 1892م، أوامره بإلزام جميع العاملين بالوظائف الرسمية في اليمن بلبس الزي التركي والتخلي عن العمائم ولبس الطربوش. ينظر: الواسعي، تاريخ اليمن المسمي فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن، ط2، مطبعة حجازي، القاهرة، 1947م، ص248.