هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    تراجع في كميات الهطول المطري والارصاد يحذر من الصواعق الرعدية وتدني الرؤية الافقية    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    الجنوب هو الخاسر منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    إقالة رشاد العليمي وبن مبارك مطلب شعبي جنوبي    تربوي: بعد ثلاثة عقود من العمل أبلغوني بتصفير راتبي ان لم استكمل النقص في ملفي الوظيفي    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    نجاة قيادي في المقاومة الوطنية من محاولة اغتيال بتعز    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    هزة ارضية تضرب ريمة واخرى في خليج عدن    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    مباحثات سعودية روسية بشان اليمن والسفارة تعلن اصابة بحارة روس بغارة امريكية وتكشف وضعهم الصحي    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    غريم الشعب اليمني    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محنة العقل في العالم الاسلامي
نشر في 26 سبتمبر يوم 29 - 05 - 2008

من نافل القول أن العالم العربي دخل في نهاية القرن العشرين والألفية الثانية مأزقا حادا جاء كمحصلة لتراكم مريع من الإخفاقات والتراجعات التي تتالت منذ قرون طويلة، تمتد إلى بدايات ظهور السلفية المتشددة التي مارست مختلف أشكال العداء للعقل، وحاربت الفلسفة والعلوم الطبيعية والترجمة، وأضطهدت رواد العلم المسلمين من الفلاسفة وعلماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق، وأحرقت كتبهم الثمينة، وحصرت صفة أهل العلم والعلماء على المشتغلين فقط في مجال الفقه والخطابة الدينية الشفاهية وحفظ وتلقين النصوص الفقهية، الأمر الذي مهّد لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج وتطوير وتحديث منجزات العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وصولا الى غروب شمس الحضارة العربية والإسلامية.. وزاد من خطورة هذا المأزق أنّه تزامن مع انتقال الحضارة الحديثة في نهاية الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.. ومن العالمية إلى العولمة.
مما له دلالة ان الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية، انتجت وقائع وحقائق جديدة، ووحّدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي.. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الأليكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود.. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية إندماجية لامتناهية، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد.
كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة ً بين بنى محورية ذات حدود صارمة ، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية.. امّا عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بنزوعه نحو التحول الى أن يتحول الى بنية سوقية محورية ومندمجة، تصبح التناقضات معها قائمة ً بين فاعِلَيْن متميِّزَيْن بطريقتي تفكير متناقضتين.. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الإندماج ضمن سوق كونية تتوفر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات، فيما يفكر الآخر بعقلية إنعزالية تقليدية، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية، وأفكار ماضوية متكلسة وجاهزة ، ما يؤدي الى إهدار الفرص المتاحة للتقدم، والإستمرار في إعادة إنتاج العجز، وتهميش الذات بالذات نفسها!!
صحيح ان ثمة فجوة حضارية كبيرة تفصل بين العالم العربي والإسلامي وبين الغرب بحسب سؤالكم ، وهي فجوة تجسد تخلف البلدان العربية والاسلامية عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى التي دشنتها الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر الميلادي وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة، وما ترتب على ذلك من عالمية ذات طابع عمودي.لكن عصر الثورة الأليكترونية، بما هو عصر الانفجار المعرفي وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع الى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني.. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل اليكترونية ومعلوماتية.. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا ، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الإتصال، وما يترتب على ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس .
من المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الإندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها.. بمعنى ان العولمة فضاء مفتوح للمجايلة والمشاركة والإشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية.
يُخطئ من يعتقد بأن العولمة الرأسمالية ظاهرة جديدة يسهل مناهضتها ومقاومتها بالاحتجاجات والمظاهرات والمقالات والدعاء بالمساجد ، فثمة ميول قديمة للعولمة إرتبطت بتطور نمط الانتاج الرأسمالي وميوله نحو العالمية التي عزّزتها وضاعفت مفاعليها إنجازات العلوم الحديثة ، ونتائج الكشوفات الجغرافية ومخرجات الثورة الصناعية الأولى في منتصف الألفية الثانية من التاريخ الميلادي ، لتتحول بعد ذلك إلى نظام عالمي للإنتاج والتسويق والإستهلاك نشأت على تربته حروب وخطوط السيطرة على الأسواق ومصادر الخامات وممّرات الملاحة الدولية في مختلف القارات!!.
لا ريب في ان الاستعمار وحروب التوسع الاستعمارية اسهما في إيقاظ الوعي الوطني وظهور الحركات القومية التي تتوّجت بولادة الدولة الأمة ، على أنقاض الدول الامبراطورية الجامعة والهويات الدينية والعصبية المانعة ، وما ترتب على ذلك من إشكاليات ثقافية نجمت عن ظهور نزعات مصاحبة للدولة القومية مثل الشوفينية والتعصّب القومي ، ووصلت ذروتها في النازية والصهيوية والأبارثيد . بيد أن المظهر الأبرز للعولمة في الحقبة الجديدة والراهنة من عصرنا ، بقدر ما اكتسب طابعاً ثورياً نتيجة لثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات التي اختصرت المسافات ، وتجاوزت الحدود السياسية والقومية والثقافية ، بقدر ما أسهم في تقويض الأسس المادية للشوفينية وضيق الأفق الوطني والتعصّب القومي ، وصولاً الى إفساح الطريق أمام توسيع فرص وإمكانات تلاقح الثقافات ، وتحفيز الشعوب والأمم المختلفة لبناء نظام عالمي للقيم الانسانية.
ولعل تلك الميول تنطوي على أبعاد ايجابية من شأنها تحفيز مختلف الثقافات على الإبداع في مجال القيم الإنسانية المشتركة ، وما يترتب عن ذلك من تعظيم فرص مطالبة الشعوب والمجتمعات المختلفة بالديمقراطية والعدالة والمساواة ، ومكافحة جميع أشكال التمييز بين البشر رجالاً ونساءً ، وفي المقدمة منها التمييز ضد المرأة!
لا نبالغ حين أقول أن الإستجابة لتحديات العولمة في طورها الجديد لا تتحقق بواسطة طرح سؤال الخصوصية والهوية من منطلق دفاعي إنعزالي، لأن النزوع إلى الدفاع أو المقاومة الدفاعية قد ينطوي على رفض مموّه للقيم الإنسانية المشتركة، وهروب متعمد من واجب دفع استحقاقات الالتحاق بالعصر والاندماج في الحضارة الحديثة ، وصولاً إلى العجز المطلق عن إضفاء أبعاد ثقافية على هذه القيم المشتركة، والإنسحاب من مباراة تطوير وتأهيل الثقافات لاستيعاب مطالب واحتياجات الشعوب والمجتمعات في هذه الحقبة من تاريخ تطوُّر الحضارة البشرية المعاصرة .
ليست الخصوصيات الثقافية عناصر ثابتة لا تخضع للتطور التاريخي الحضاري ، ولسنا بحاجة إلى التذكير بان الثقافة السياسية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي تصدّت للأفكار الدستورية والديموقراطية تحت شعار مقاومة «التغريب» ، ومحاربة « الافكار المستوردة « . كما عارضت الميثاق العالمي لحقوق الانسان ، ورفضت – بعناد شديد – تلبية مطالب المجتمع الدولي الحديث بإصدار تشريعات وقوانين وضعية لتحريم الرق . وكانت تلك المواقف الرافضة للحداثة تتغطّى دائماً بذرائع «الهوية والخصوصية الدينية والثقافية» !!
لم يكن الفقهاء في عاصمة دولة الخلافة العثمانية يفكرون خارج الخصوصية الثقافية حين عارضوا في رسالتهم الشهيرة إلى السلطان العثماني في القرن السابع عشر الميلادي التوقيع على معاهدة وينسفاليا 1648 التي فرضتها حاجة الرأسمالية الصاعدة والثورة الصناعية في عصر النهضة لوقف حروب التوسع الإقطاعية ، وتأسيس فكرة السيادة الحدودية الوطنية ، وتمهيد الطريق لولادة الدولة القومية وبناء منظومة جديدة للعلاقات بين الأمم والدول .
كان فقهاء الدولة العثمانية في العالم الإسلامي يرون في التوقيع على هذه المعاهدة تعطيلاً لآيات ( السيف ) وإنكاراً لفريضة الجهاد التي تُوجب نشر الدعوة الإسلامية والتمكين لدين الله في الأرض بواسطة الغزوات الجهادية ، وكذلك الحال عندما أفتى الفقهاء في القرن التاسع عشر بعدم جواز الخضوع لمطالب الدول الأجنبية بتحريم الرق ، لأن التحريم المطلوب تشريعٌ وضعيٌ لا أساس له في الشريعة الإسلامية التي تُبيح للأحرار شراء وتشغيل العبيد ، و التسّري بالجواري ونكاح ملك اليمين !‍‍
ومما له دلالة أن علماء اسطنبول والقاهرة ومكة وطنجة وقُم وصنعاء أتهموا آنذاك أوروبا وأمريكا التي كانت تضغط في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، لإصدار تشريعات تحرّم الرق، بأنها تسعى إلى تغيير القرآن والتدخل في نمط ومناهج حياة المسلمين .
من خلال ما تقدم نستطيع تفسير اسباب تأخر العالم العربي والإسلامي عن الإستجابة الثقافية لتحديات الموجة الأولى والمبكرة للعولمة الرأسمالية والحضارة الصناعية الحديثة ، اللتين استوجبتا صياغة أسس جديدة ومعاصرة للعلاقات بين الدول والأمم والأديان على نحو ماتضمنته معاهدة وينسفاليا في القرن السابع عشر، ومعاهدة تحريم الرق التي سعت الثورة الأميركية بالتعاون مع أوروبا الرأسمالية الى تدويلها في أواخر القرن التاسع عشر.
لا نحتاج إلى القول بأن تحريم الرّق في العالم الإسلامي تم بمقتضى ضغوط الحضارة الصناعية الحديثة ، والموجة الأولى من « العالمية « التي رافقت ظهور وتطور نمط الانتاج الرأسمالي كنظام اقتصادي عالمي في العصر الحديث ، وقد نتج عن تحريم الرّق تراجعٌ مطلقٌ لخصوصيات ماضوية في الفقه الديني و النظام القيمي والحقوقي لثقافتنا ، وأهمها حقوق الرجال في التسرّي بالجواري ، وحقوق الأحرار في التمييز بينهم وبين العبيد في المعاملات والعقوبات الجنائية ، بحسب ما ينص عليه تأويل الفقهاء الأسلاف للشريعة الإسلامية .
لم يكن بروز مثل تلك الإشكاليات شيئاً جديداً في التاريخ الثقافي للمجتمعات الإسلامية ، فقد ظل العالم الإسلامي يرفض إستخدام المطبعة تحت ضغط الفتاوى الفقهية التي شكلت عنصراً طاغياً في النسيج التقليدي لثقافتنا .
كان رأي الفقهاء في المطبعة – على سبيل المثال – أنها مفسدة من شأن السماح باستخدامها فتح الباب على مصراعيه لإنتشار الكبائر والموبقات مثل طباعة الرسوم وتغيير حروف القرآن، والقضاء على الكتابة بالخط العربي الذي كان حرفةً مجزيةً يرتزق منها الفقهاءُ والقضاة وكبار موظفي الدواوين في بلاط دولة الخلافة، ويحصلون من ورائها على الحظوة والمال وعلوّ الشأن .
بسبب هذه الثقافة لم يفطن المسلمون لقيمة المطبعة في التطور الحضاري ، ولم يستوعبوا جيداً دورها الوظيفي في إطلاق مفاعيل التعليم والثقافة والعلوم والمعرفة ، وتحويلها إلى فواعل اقتصادية واجتماعية وحضارية . ولذلك كان نظام التعليم في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصوراً في الجوامع والكتاتيب التي اكتفت بتحفيظ القرآن و شرح الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء ، بالإضافة الى تلقين قواعد اللغة العربية والنصوص الشعرية ، كما كانت الدراسة في الجوامع والكتاتيب ترتدي طابعاً نخبوياً ضيقاً، وتنحصر في نطاق ابناء الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المحيطة ببلاط السلطان مثل القضاة والفقهاء وقادة الجيش والجواسيس والتجار .
المعروف ان الطباعة العربية بالحروف ظهرت في أوائل القرن السادس عشر في إيطاليا، بأمر البابا يوليوس الثاني ودشنها البابا ليون العاشر سنة 1516م ، وهو العام الذي طبع فيه اول كتاب ديني عن المسيحية ، تلاه طبع سفر الزبور سنة 1516 ، وبعد قليل طبع القرآن الكريم في البندقية ، ثم أعدمت طبعته خوفا ً من تأثيره على معتقدات النصارى.، بيد أن الإيطاليين طبعوا في روما أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإيطالية سنة 1547م كما طبعوا قانون إبن سيناء في مجلد ضخم عام 1593 م وكتاب فيزياء الهواء للخوارزمي وهما كتابان علميان أفتى الفقهاء المسلمون بإحراقهما الى جانب عشرات الكتب في العلوم الطبيعية التي تعرضت لهجوم شديد على يد ابي حامد الغزالي وابن تيمية حيث قرر فقه السلاطين منذ ذلك الحين استبعاد هذه العلوم بذريعة أنه لا نفع فيها في معاش الناس ، كما قرروا أيضا حصر صفة ( العلماء ) على المشتغلين في تحفيظ وتفسير القرآن وكتب الحديث واللغة العربية فقط. ما أدى الى توقف الحضارة الاسلامية عن انتاج العلوم الطبيعية وانتقالها الى الغرب والتمهيد للثورة الصناعية خارج العالم الاسلامي منذ ذلك الحين وحتى الآن !!
وقد كثرت المطابع العربية في أوروبا وطبعت فيها مئات من كتب الفلاسفة العرب والمسلمين الذين أضطهدهم الفقهاء وتعرضت كتبهم للإحراق بعد تكفيرهم ، وكان أكثر هذه المطابع في في لندن وباريس وليبسك وليدن وغونتجتن وروما وفينا وبرلين وبطربسبرج وغيرها.
اللافت للنظران العالم الإسلامي عرف الطباعة لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر في الأستانة عاصمة دولة الخلافة العثمانية لكن الفقهاء قاوموا وجودها بقوة ، الأمر الذي دفع يهود الدولة الإسلامية الى الإستفادة منها بطبع ترجمة عربية للتوراة ، أما الطباعة باللغة العربية فقد دخلت العالم الإسلامي لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد جلبي وإبنه سعيد . . وكان الجلبي سفيرا ً للدولة العثمانية في باريس فشهد وإبنه سعيد فوائد الطباعة ، ونجح بصعوبة بالغة في إقناع الفقهاء الذين أصدروا عام 1728 م فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط .
وعندما لاحظ الفقهاء إنتشار كتب الحكمة والفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك والجغرافبا والفيزباء والكيمياء ورخص أسعارها ، شعروا بالإنزعاج ، فأصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وآذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم ، الأمر الذي أفسح المجال لإنتشار المطابع وظهور الصحف والمجلات والمدارس الحديثة التي تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة
من المفارقات المؤلمة ، ان المسلمين كانوا يصنعون ورق الطباعة ويصدّرونها إلى مختلف البلدان ، وفي مقدمتها الصين التي اشتهرت بصناعة وتصدير المطابع اليدوية القديمة إلى الأمصار المختلفة في العصور الوسطى ، باستثناء العالم الإسلامي الذي رضخ للفتاوى الخاصة بتحريم الطباعة باسم الدين ، ثم أُجبر بالقوة على التعامل مع المطبعة، بعد إن عرفها لأول مرة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد نابليون بونابرت الذي أحضرها مع الحملة الفرنسية على مصر ، وطبع بها كتاب «وصف مصر» الشهير ، وهو أول كتاب يطبع باللغتين العربية والفرنسية في العالم الإسلامي .
وعندما فكر الباب العالي في عاصمة دولة الخلافة – اسطنبول – في استخدام المطبعة، بعد أن بدأ الإهتمام بفوائدها على أثر دخولها مصر ، وطبع كتاب «وصف مصر» باللغة العربية، ثارت ثائرة الفقهاء الذين اعتبروها بدعةً وغزواً ثقافياً شيطانياً ، واصدروا فتوى مماثلة لفتوى عدم جواز التوقيع على معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر والفتوى المعارضة لمعاهدة تحريم الرق التي صدرت في وقت لاحق .!
حدث ذلك أيضاً في العصور الوسطى ، عندما اسهم نشاط حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في استنهاض أدوات التفكير العلمي ومناهج البحث الفلسفي ، ما أدى إلى أن يحارب الفقهاءُ المتشدّدون في منتصف الألفية الهجرية الأولى ومطلع الألفية الميلادية الثانية إبن رشد وإبن سيناء والفارابي والرازي وإبن الهيثم والخوارزمي وغيرهم من القمم الفكرية والعلمية في التاريخ الاسلامي ، التي ترجمت ارسطو وافلاطون وسقراط وأعلام الفكر الاغريقي القديم ، وخاضت بجسارة في علوم الطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء والفلك والفلسفة قبل أن يتعرض العقل والعلوم الطبيعية للحرب والتسفيه والتحقير والاضطهاد على أيدي الفقهاء المشتغلين في علوم القرآن والحديث .
لم يكتف الفقهاء المتشدّدون بمحاربة الفلسفة وعلوم الطب والرياضيات والكيمياء والفيزياء والمنطق والفلك ، بل سعوا إلى تكفير العلماء والتنكيل بهم وإحراق كتبهم ومؤلفاتهم ، وكانوا سبباً في إنتقال المؤلفات الناجية من محارقهم إلى أوروبا ، حيث أُمكن ترجمتها من العربية إلى اللغات الأوروبية ، وما تمخض عن ذلك من إرهاصات نهضوية أخرجت أوروبا المسيحية من ظلام العصور الوسطى على يد العلماء المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل والتكفير في العالم الاسلامي . وأفضت الحرب التي شنها فقهاء التشدد على العقل منذ منتصف القرن الهجري الخامس الى تأسيس مشروع ثقافة طقوسية نكوصية ابتعدت عن جوهر العقيدة الإسلامية ، ومهدت لغروب شمس الحضارة الإسلامية ، وسقوط بغداد تحت براثن الغزو المغولي الذي دشن عصر الانحطاط ، وأدخلت العالم الإسلامي نفقاً مظلماً وطويلاً لم نخرج منه حتى الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.