معالم السياسة الإنجليزية مع اليمن بعد احتلال عدن كما أشرنا في الحلقة السابقة بأن بريطانيا أتبعت سياسة عدم التدخل في خلافات القبائل اليمنية المحيطة بعدن إلا بالقدر الذي يخدم مصالحها وأحياناً قد تتدخل بصورة غير مباشرة لإذكاء الخلافات بواسطة عملائها تحت قاعدة فرق تسد وأستمر الحال على هذا المنوال ولم تهدأ الخلافات اليمنية البينية ولم يستقر للبريطانيين الوضع .. وعقب توقيع المعاهدة مع السلطان علي محسن , لم تحترم هذه الإتفاقية بل تعددت المصادمات بين الجانبين . ولقد شهد عام 1850م أعمالاً عدائية قام بها اليمنيون وسببت كثيراً من القلق والإزعاج للمحتل البريطاني في عدن وعلى الرغم من أن هذه الأعمال لم تشكل هجوماً شاملاً على البريطانيين إلا أنها أدت إلى زيادة تعقيد العلاقة بين الجانبين .. وعندما تولى كوجلان منصب المقيم السياسي في عدن في عام 1854م فقد أستمرت العلاقة بينه وبين السلطان علي محسن سلطان لحج من جهة, بينما ساءت العلاقة بينه وبين قبائل الفضلي والعقربي من جهة أخرى . ولقد دأبت هاتان القبيلتان على قطع الطرق وسلب المؤن الذاهبة إلى عدن , ونظراً لعدم مقدرة كوجلان لتحمل نفقات قتال مع هذه القبائل فقد أتجه إلى إقامة علاقات مباشرة مع القبائل اليمنية المجاورة لعدن لضمان تحقيق المصالح البريطانية . وقد نجح كوجلان في استمالة قبائل العوالق السفلى والعوالق العليا , وبذلك ضمن عدم انضمامهما إلى قبائل الفضلي ضد سلطان لحج , بالإضافة لقيامه بعدة عمليات عسكرية ضد بعض القبائل الأخرى ليجبرها على اتخاذ موقف موال لسلطان عدن . شكل عام 1857م تطوراً آخراً في العلاقات بين الإقامة البريطانية في عدن وسلطان عدن وسلطان لحج , فقد غضب السلطان علي محسن من زيارة ودية قام بها أخوه للمقيم السياسي في عدن , كما نهب العبادلة في منطقة الشيخ عثمان جماعة من الحجاج تحطمت سفينتهم في الجانب الشرقي من خليج عدن , وهكذا بدأت العلاقة تسوء بين السلطات البريطانية والسلطان علي محسن وفي تلك الفترة تم نوع من التقارب بين السلطات البريطانية في عدن وقبائل العقربي والفضلي مما أثار حفيظة سلطان لحج فعمل على إحاكة المؤامرات والدسائس للإيقاع بين هذه الأطراف ولهذا فقد قرر كوجلان اتخاذ اساليب أكثر عنفاً لمواجهة سلطان لحج الذي تمادى في ممارساته العدوانية تجاه البريطانيين , لاسيما بقطع الطريق المؤدية الى عدن , بالإضافة إلى فرض ضرائب عالية على مياه الشيخ عثمان وبير أحمد . واستطاع البريطانيون بعد مهاجمتهم قرية الشيخ عثمان من احتلالها وتدمير قلعتها في عام 1858م ورضخ بذلك السلطان علي محسن وعادت أحوال عدن للهدوء مرة أخرى وقد توفي بعد ذلك السلطان علي محسن , فخلفه أخوه فضل محسن الذي ساعد البريطانيين كثيراً في استتباب أوضاعهم في المنطقة . ثم سعى البريطانيون بعد ذلك لتكملة سيطرتهم على المنطقة وذلك بشرائهم شبه جزيرة عدن الصغرى من قبيلة العقارب فتمكنوا من ذلك في ابريل 1869م مقابل ثلاثين الف ريال بالإضافة إلى ثلاثة آلاف أخرى كان قد تسلمها شيخ العقارب قبل ذلك التاريخ من المقيم السياسي البريطاني وادوارد رسل الذي خلف هينز وسيطرت بريطانيا على شبه جزيرة عدن الصغرى فضلاً عن سيطرتها على رأس عدن الكبرى باحتلالها الفعلي وتحكمها في مقدرات القبائل اليمنية المجاورة بالمعاهدات والرواتب , فقد أصبحت عدن والمنطقة المحيطة بها التي تقع على مقربة من مدخل البحر الأحمر الجنوبي في قبضة القوة الاستعمارية البريطانية التي طالما حلمت بهذا الوضع المتمكن, والذي يؤهلها للسيادة على المنطقة كلها ولقد لاحظنا أن بريطانيا لم تأل جهداً في سبيل سيطرتها على المنطقة , فقد اتبعت وسائل مختلفة منها أوفي معظمها ما اتسم بالمرونة إلا أنها لم تنس سياستها المعروفة (فرق تسد) وذلك لا لهاء القبائل ببعضها البعض حتى لاتتوحد فتشكل عقبة في سبيل السيطرة البريطانية في المنطقة كما أنها أول ما استمالت من هذه القبائل هي قبيلة العبدلي في لحجوعدن ولقد كانت بريطانيا تدرك أهمية هذه القبائل الكبيرة بين القبائل الأخرى ورغم أن هذه القبيلة كانت قد تصدت للعدوان البريطاني منذ بدايته لكن كما يبدو لم يكن لها حول ولاقوة لمواجهته بعد أن تمكن من زرع نفوذه في عدن ولكن أيضاً هذا لايبرر رضوخ هذه القبيلة أوحتى غيرها من القبائل الأخرى للسلطات البريطانية مقابل الحماية أومقابل راتب شهري. ولقد أورد الواسعي في كتابه تاريخ اليمن (المسمى فرجة الهموم في حوادث وتاريخ اليمن) حواراً دار بين السلطان محسن بن علي سلطان مسيمر ومؤيد بك نزيه العظم بدا واضحاً فيه أن العلاقة بين الإنجليز وسلاطين القبائل في المنطقة علاقة مصلحة وتشريف أما بالنسبة للإنجليز فقد كانت وسيلة لوضع يدهم على تلك المناطق. يتبع في العدد القادم بإذن لله.